وجهة نظر

أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(16):متابعة الحوار مع الأستاذ عبد الواحد حمزة لأجل ماركسية خلاقة ننتبه للرمز (PC)كي نفهم التحول الذي ينتقل بنا إلى اشتراكية القرن 21

من تقاليد توليد الأفكار النيّرة، ليس فقط بت الأفكار الشخصية في كل الاتجاهات. بل تصويب سهم الأفكار نحو هدف محدّد. كي تقع الأفكار في الأوساط والمربعات المستهدفة.

لذلك، في كل العصور، تزاوج الخطاب الفكري مع الحوار بين الفينة والفينة. فقوس قزح عندما يراه الرائي لا يكون مرتسما عبثا ليشاهده الناس من كل الزوايا وأينما حلوا وارتحلوا. بل يراه المشاهد في لحظة معينة من زاوية محدّدة. قد تكون نسبة الرطوبة وحالة صحو ما في الفضاء. لكن زاوية النظر هي التي تستكمل شروط اكتشاف مكونات الهواء في علاقة الشمس والارض المستديرتين، ليلحظ المشاهد استثناء أن الأثير يتكون من خلايا الماء في السماء تتحول الى ما يشبه قطعة زمرد نصف دائرية بألوانها البهية. والعلماء المتفحصون المتتبعون هم الذين صاغوا البنية الفيزيائية لقوس قزح، وإن سبقوهم الشعراء في صيغة وحي لوصف الظواهر مثل ظاهرة قوس قزح.

***

كتابات الأستاذ عبد الواحد حمزة فريدة من نوعها من زاوية الحاجة الملحّة إلى الأفكار التي تجعل موضوعها استخراج الطاقة من الفكر لدفع الواقع نحو التغيير.

لذلك، اهتم الأستاذ عبد الواحد حمزة ب”الماركسية الخلاقة”.

كل المفكرين الذين تبنوا التحليل العلمي لفهم قضايا مجتمعهم، لم يتجاهلوا الماركسية، حتى المعروف من بينهم كونه انتمى إلى المحافظين الجدد في أمريكا، فوكوياما. فمن قرأ كتابه الشهير “نهاية التاريخ…”، يجده يستند في تركيب أفكار وفق الديالكتيك بالمعنيين المثالي (هيغل) والمادي (ماركس).

ها هو الحديث يضعنا – من ذاته- في الساحة الأمريكية. وها نحن نجد أنفسنا وقد انتقلنا زمنيا إلى خط العتبة التي تنتقل من القرن العشرين إلى القرن الواحد والعشرين. وها نحن من تلقاء أنفسنا، نجد التساؤل حول الماركسية لتصبح خلاقة في زمننا هذا: أليس من واجبنا أن نتأمل في الماركسية ذاتها ما إذا كانت في حاجة إلى تمثّل جديد متجدّد، مختلف عن التمثل الذي استحضرها به الروس والصينيون والفييتناميون والكوبيون طيلة القرن العشرين، ليستخرجوا منها كمنهج، قوالب سياساتهم في ظروف لم تعد قائمة اليوم.

مهما كانت جودة التحليل الماركسي، فأمريكا التي جعلت من الماركسية فكر أعدائها، خصوصا في مرحلة المكارثية (1950-1975)، حتى وإن هزمتها ماركسية الحزب الشيوعي الفيتنامي، وأنهى فيلم “تاكسي درايفر”، الهوس المكارثي، بقيت تتربع على رأس القوى الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية طيلة القرن العشرين وحتى اليوم وقد كاد ينتهي الربع الأول من القرن الواحد والعشرين. لم تمر عشرون عاما (1975-1991)، إلا وقد أسقطت الماركسية التطبيقية في عقر دارها: الاتحاد السوفياتي.

منذ سقوط الاتحاد السوفياتي إلى اليوم، ويا للصُدَف، بقي رمز PC كبوصلة للتغيير في المجتمع. ولكنه انتقل من المضمون البلشفي (الحزب الشيوعي) إلى المضمون التكنولوجي الحاسوب الشخصي.

أكاد أجزم أن بث الخلق في الماركسية الأولى هو الحفاظ على روحها كونها الصيغة الفكرية المعاصرة لفهم الرأسمالية واقتراح الحل العادل للقضاء على طابعها المفترس المتوحش، مع التسلح بثقافة التكنولوجيا التي يديرها الحاسوب الشخصي وهو المعنى الثاني لنفس الرمزPC. وبذلك نكتسب القدرة على الانتقال من الحضارة في موجتها الثانية إلى بناء الحضارة في موجتها الثالثة بالقاموس الذي صاغه عالم المستقبليات الأمريكي إلفين توفلر.

***

وقد أتيت على ذكر العالم الأمريكي إلفين توفلر، أكرر ما سبق أن تم ذكره في أرضية تيار اليسار المواطن والمناصفة داخل الحزب الاشتراكي الموحد في مؤتمره الرابع (2018)، من كون بوصلة اليسار العالمي انتقلت من الشرق الروسي والصيني إلى ما وراء المحيط الأطلسي: الولايات المتحدة الأمريكية. كنا، كيساريين، نمد أعناقنا نحو باريس ثم نحول نظرنا شرقا نحو موسكو (دار التقدم) ونحو بكين (منشورات بيكين)، فلم يعد لنا من حول ولا قوة سوى مدّ أعناقنا نحو الغرب، نحو أمريكا. هناك يصنع الفكر اليساري للقرن الواحد والعشرين. لأن أفول أمريكا يخلق أزمة. ومن الأزمة تبحث كل أمة عن البديل. ولا يمكن لأي أمة أن تدعي حاجة ملحاحة إلى بديل يفرش للإنسانية جمعاء طريق المستقبل أكثر من حاجة أمريكا إلى فكر بديل. ولا بديل تصنعه أمريكا على الصعيد المجتمعي باقتصاده وثقافته وسياسيته خارج المشروع اليساري الاشتراكي. وليس في شعوب الغرب قاطبة من تحدث عن قيم العدالة بتواضع دون ضجيج “اشتراكوي” أكثر من تواضع الأمريكيين. فالتيارات اليسارية في أمريكا تعرف بتسمية التيارات الليبرالية. فالمساندون للديمقراطيين أغلبهم يساريون منهم الاشتراكيون ومنهم الفوضويون وكل الحركات اليسارية. من يسارييالايطابليشمنت إلى يساريي الحركات الافريقية وحركات الشعوب الاصلية كلهم ذوي نزعات علمانية ويسارية في الولايات المتحدة…أحد أشهر من يجمع رايتهم داخل الحزب الديمقراطي ساندرز.

والعودة مرة أخرى إلى إلفين توفلر، تقتضي العودة الى مؤلفاته: انتقال السلطة، الحرب ضد الحرب، بناء حضارة جديدة…وهو في الكتاب الأخير، يفند التخوف الذي ساد بداية انتشار دخول الروبوت إلى الصناعة من كون نتائجه القضاء على فرص الشغل، ذكر تصريح الايطالي صاحب صناعة الثلاجات (10 في المائة من ثلاجات أوربا بكاملها كانت إيطالية)، الذي أكد عبره أن تعاظم حصة المعرفة في الاقتصاد التكنولوجي، ترتفع أكثر فأكثر، وتغيّر الجسم الاقتصادي وتقلل من نسبة رأس المال التقليدي (= الاستثمار في البنية التحتية عبر الثروة المالية)، فقط تحوّل الطبقة العاملة من صيغة البدلة الزرقاء إلى صيغة الطبقة العاملة المكتبية ذات الإلياقة البيضاء، وهو ما سبق للراحل عبد السلام المودن أن تحدث عنه بين اشتراكيين التقليديين في وقت مبكر. كان عبد السلام المودن مواكبا للفكر اليساري الامريكي منذ أواخر الثمانينات وبداية التسعينات.

يرجع إلفين توفلر إلى المستثمر الايطالي مرلوني، ويأتي بتصريح له، يقول مرلوني: “إن المعرفة، بداية، بديل للموجودات المخزونة عالية التكاليف. وبما أن سرعة تجاوب المصنع مع السوق تتعاظم والانتاج المجزأ يصبح اقتصاديا، فإن معلومات أفضل وأكثر مواءمة للحظات الزمنية تجعل من الممكن تقليل كمية مكونات الانتاج والسلع تامة الصنع المودعة في المخازن أوفي قاطرات السكة الحديدية، ومن الممكن بالتالي تخفيض نفقات التخزين ب60 في المائة” (بناء حضارة جديدة، ص 46). ويذكر إلفين توفلر أن المؤسسات الأمريكية واليابانية طبقت فكرة مرلونيواستعانت بالحاسوب في تنظيم العمليات وأوقات تسليم السلع…وبالتالي ليست التكنولوجيا سببا في خفض فرص العمل بل هي وسيلة لتغيير نمط الانتاج وخفض تكلفة الانتاج، ونقل للعمل من محله التقليدي إلى الحاسوب الذي ينتقل مع صاحبه المتخصص حتى لو كان مسافرا في قطار…على الماركسية إذن لتصبح خلاقة في رؤوس من يثقون في فعاليتها كمنهج ألا يحولوها إلى معتقد أورثوذوكسي ديني جامد. وقد يأتي الحديث حول ثلاثية الدياليكتيك و اللوجيستيك والتكتيك لتجديد الماركسية كي تصبح ماكينة تقنية للتغيير، كي تصبح العدالة فكرة في المجتمع (أمارتيا سين) وكإنصاف (جون رولز) في القوانين والمؤسسات. دونما حاجة إلى شعارات جوفاء نرددها مثل عيساوةوحمداشة.

وللحوار مع الأستاذ عبد الواحد حمزة بقية.

وبالمناسبة، أطمح أن يتموقع الأستاذ عبد الواحد حمزة في مسيرتنا المعرفية إلى ما يشبه التموقع الذي استحقه الراحل عبد الواحد بلكبير في الحركة الطلابية المغربية في أوج فعلها اليساري خلال السبعينات. عبد الواحد هو عبد الواحد من حيث الرمزية والمرحلة والمهام والأداة والحقل في تغيّر، على طريق فكر اشتراكي يستحق انتماءه للقرن الواحد والعشرين.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى