وجهة نظر

أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(22):من أجل الخروج من التقوقع لتدقيق التموقع واسترجاع بوصلة التوقع

هذا المقال ذو نفس النقد الذاتي، ألزم به نفسي قبل الغير، فلا ينزعج به الآخرون طالما أنه مرآة للذات وسط محيطي الاجتماعي.

“اعرفْ نفسك بنفسكْ”، تعلمها الإغريق من كهنة مصر الفرعونية. وعلينا ألا نعيد محاولة اختراع العجلة و رؤوسنا مطمورة في رمال الأوهام. علينا مواجهة الحقائق التي توزع المسؤوليات بيننا وبين من أصبحوا اليوم من صنف الأغيار.

لقد اختلط “الورع” السياسي بالاحتياط من “الطمع” السياسي. كانت أخلاقيات السياسة ونبلها تُفهَمُ بكيفية ذاتية مثالية لا علاقة عضوية لها بالربح والخسارة وطبيعة الصراع الطبقي الذي يختبئ في نسيج التموقع الايديولوجي.

ويمكن القول إن هذه النظرة المثالية الذاتية للممارسة السياسية أسقطت أصحاب “الورع” السياسي في شباك أصحاب “الطمع” السياسي. والسبب هو أن “الورع” كموروث أخلاقي مستجلب باللاوعي من موروثنا الثقافي الديني، يكاد يلعب دور التنويم المغناطيسي لصاحبه مادته الثقة المفرطة بالنفس، تتدرج من الثقة بالنفس إلى التقوقع النفسي داخل وهم صواب التصرف تجاه الآخر. مما ينقل الذات “الورعة” إلى كهف الأمان و”طمانينة” الضمير، بحيث يسقط “الورعون” من ذاتهم في حالة التقوقع. ومن يسقط في التقوقع، يفقد القدرة على ضبط ما يصيبه من تغيُّر في التموقع، وبالتالي يفقد القدرة على الإمساك بصوابية التوقع.

ساعتها، من وجدوا أخيرا موقعهم المميّز في “أرض الله الواسعة”، أنفسهم وقد اطمأن “السكان الأصليون” إلى حضورهم واستأنسوا برفقتهم الدافئة، حقهم المكتسب بموجب التعاقد المؤسس، في الاجتهاد لتعمير التجزئة الحزبية المشتركة بما تفتحه لهم آمال الانتقال إلى أرض الله الواسعة.

المأزق الذي حصل هو انكماش الشركاء، كل في مربع أحلامه الأصلية. إذ كانت أحلام أصحاب الرقيم” تتلخص في إفشال “التشتيت” وتفكيك برمجة الانشقاقات المعدة من طرف جبروت الوزير الراحل. بينما كانت أحلام الوافدين إلى المربع السبعيني من “أرض الله الواسعة” التنفس بحرية واستجلاب الحلم المشروع في تحويل المربع الصغير إلى حزب اشتراكي كبير.

كل حلم من الحلمين استند على شرعية مسيرته. وقد التقيا في منتصف المسافة الواصلة بين الحلمين. لكن ميكانيزم التشارك لم يتعد حالة التساكن والتجاور، ولم ينسج بين الفرقاء عقد سياسي جديد مؤسس.

فبسبب التقوقع داخل فريق الاندماج، خسرت فريق الفيدرالية بوصلة التموقع والتوقع. لأن دائرة كانت مغلقة تشتغل تارة بأداة التحكم (طيليكوموند) وتارة بالروشارج المجزء.

***

كشف الموقف البئيس للاشتراكي الموحد من لجنة الدستور ومن انتخابات 25 نوفمبر 2011، حالة الهواية في السياسة النزقة و طفا فوق سطح التجربة المشتركة مزاج القفز والتنطع، من سلوك الاعتدال الرصين الحصين على خلفية الدينامية الشعبية الشبابية التي أفرزتها حركة 20 فبراير، إلى موقف مقاطعة الانتخابات في ظرفية ناهضة.

طبعا، عندما يعجز قادة الحزب عن متابعة الأصداء الدولية لما بذلوه مساندةً لحركة 20 فبراير، ستعوض المزاجية الذاتية فراغ المعلومة المجهولة وهي موثّقة في التقارير الأميركية. فقد سبق للخبيرة الأمريكية مارينة أوطاوي أن أقرت بدور الاشتراكي الموحد من خلال منشورات مؤسسة كارنيجي للسلام في الشرق الأوسط خلال دجنبر 2011. فلا التقدير الذاتي للجهد المبذول كان منسجما، ولا الاطلاع على التقارير الاجنبية كان متوفرا. مما يعني أن السياسة الممارسة كانت مثل لعبة أطفال في ساحة داخلية لمنزل تقليدي مغلق. ساعتها قرَّر جمع الدراري تحويل الاستحقاق الجدي المسؤول السابق الى مجرد نزقية ممتدة في الزمن. هكذا، يظهر أن القدرة على صناعة الحدث أو – على الأقل – القدرة على المشاركة في صناعة الحدث تصبح مثل شطحة هدّاوة تحت شعار “الخدمة لله آ بلحمدوش”. كما لو كانت السياسة اليسارية المعارِضَة مجرد إثباتٍ للذات اليسارية لا غير. فانفصل العمل الدؤوب طيلة سنة 2011 انفصالين: انفصال العمل الجماهيري عن العمل المؤسساتي، وانفصل العمل الحزبي الاعتراضي عن العمل الحزبي الاقتراحي.

وظهر أن “القادة” الحزبيين لا يشتغلون ضمن الحياة السياسية العامة للبلد، بل يواصلون فقط حضورهم اليساري استمرارا لماضيهم في الحزب الكبير تارة أو لماضيهم في الحركة الطلابية تارة أخرى. حتى لا يُنعَتُوا بكونِهِم انتهى أمرهم اليساري واندمجوا في مواقع مهمة داخل المجتمع وأصبحوا ضمن الشرائح العليا للبرجوازية الصغيرة. وهم بتفكك مواقفهم وانفصال جهدهم الجماهيري عن اشتغال المؤسسات قد أكدوا – حتى بالصيغة اللينينية – قصور نظرتهم السياسية وأثبتوا أنهم كانوا سنة 2011 مصابين فعلا ب”مرض اليسارية الطفولي”. أي أنهم أنصاف بل أرباع يساريين.

***

 ولأن المصالح لا تغيب عن أفق انتظار أحد، فقد توغل أصحاب “الورع” في ورعهم، بينما استمد الوافدون إلى المربع اليساري من “أرض الله الواسعة” القدرة على التمدد وأصبحوا يصيغون نصوص المواقف وأوراق هيمنة الأغلبية مع ما فيها من إرضاءات تلفيقية تمدها بما يليق لترقيع أوصال التفكك الأصلي. نعم، لهم الخبرة والدهاء، لكن عندما تكون “النية ناقصة” نحصل على طبق حزبي “ناقص ملحه”.

مع ذلك، “القاسم المشترك” الذي كان يجمع “القادة” جميعا هو الاستقواء على مناضلات ومناضلي المناطق البعيدة. بحيث كرّس كل القادة “الأغلبيون” الجهد المتبادل بينهم للهيمنة في المركز على حساب جمهرة المناضلات والمناضلين الذين لم يصلحوا يوما سوى لإثبات حسن السيرة للزعماء المركزيين من كل الأصناف، مع “الدمير” المستمر ل”جمع الحطب” الكمي و”لتشجيع البطولة” كما يقال اليوم في كرة القدم لا غير.

ولأن “الأغلبية” دخلت غلالة التقوقع منشغلة بمشاكل التنافس فيما بينها، فقد فقدت البوصلة في مداها الآني (التموقع) وفي مداها المستقبلي (التوقّع).

***

ولأن التوحيد الاشتراكي لم يكن اشتراكا استراتيجيا طويل الأمد في العمق، جاءت ورقة “الاندماج” الصفراء لتعكر صفو ماتش التوحيد، وتحولت إلى ورقة حمراء بموجب اعتماد خلق تيار على بعد شهرين ونصف من الاستحقاق الانتخابي. كان في العمق مجرد “كارطة روشارج”. و”شحال قدك من سبحان الله آ البايت بلا عشا”. لعل أصلا “الهاتف” المستعمل كان من صنف الماضي. الهاتف قديم والمدرب أصلا فاشل.

ما بعد بطولة “الفيدرالية” وخلالها، ظهر للعيان من يستطيع صنع الحدث المعارض من داخل البرلمان، منذ 1992 وإلى ربيع 2022…

وهذا يقتضي التأمل فيما بعد زمن الفيدرالية السياسي.

***

وجد الحزب الاشتراكي الموحّد نفسه في مرحلة انتقالية جديدة.

هذه المرحلة كما كان اليساريون دائما، يعلون راية الشعب والوطن، ولا يمتطون فرس ضون كيشوط ليمارسوا السياسة ضد طواحين الريح، بل من أجل القضايا العادلة التي تجلب الناس للمشاركة السياسية المسؤولة.

***

هاتفت ذات يوم الأستاذ عبد الوهاب البقالي عن ظروفه وغلاف الزمن لديه وكيف يشتغل وما هي الأجواء. لم تكن تلك المهاتفة عفوا ولا فوضى تواصلية. بل لأن برنامجا تكوينيا حمله إلى أعضاء فرع الاشتراكي الموحد بتطوان، برنامج له علاقة باشتغال الجماعات الترابية، أخبرني العزيز أنس مرزوق أن مستجلبه للحزب عبد الوهاب البقالي. وقد نال البرنامج استحسان الأستاذة جويرية لفحل والدكتور أنس مرزوق وعلى حساب الوقت المخصص للراحة وللعائلة شمّرا على ساعديهما وحوّلوا البرنامج إلى حلقات باوربوانت وعرضاه على جهاز الداطاشو.

كان هاجسي متابعة نظرات وجدان وبدر ومحمود ومنى والحسوني وسهيلة وبلال وبشرى وفرح والطاوسي وخلود وجمال وسلوى…كانت القضية المطروحة اختصاصات الجماعات الترابية. بعدها قدّم مقرروا الورشات الخلاصات وكانوا كلهم أعضاء جددا. وكانوا يرددّون الاستشهاد بشروحات الأستاذ عبد الاله…كما قال الأستاذ عبد الاله..

كنت، أقلّب ذهني بين المناقشة الجارية ثم يصيبني الشرود فأنظر الكتب والمكتب المهداة جميعا لفرع الاشتراكي الموحد وأتذكر صاحب الهدية الذي مررت ذات يوم بشارع فقرأت اسم الشارع إذا به الأب الراحل لمن أهدى الحزب المكتب والكتب.

ثم بعد ذلك جاء رشيد وهو باحث في الجماعات الترابية وفي الصيغ التشاركية ليعمق التكوين لدى الأعضاء في الحزب. ولم يغب عن ذهني قط دور كاتبة الفرع التي تختار في كل تكوين عضوا ليقدم موجز سيرة المكون. إنها تجسيد لشعر عمر الخيّام: “مثل الفَراش الذي يسعى إلى النور وفيه الفناء”.

كل ذلك، جلب جمال للالتحاق بالركب، وكرّس قوة الارادة لدى سلوى لكي تُبقِي رمز الشمعة مرسوما على جدار واجهة منزلهم العائلي. التقيت يوما صدفة سليلة شجرة مولاي احمد الوكيلي، أستاذ الموسيقى الأندلسية المعروف في تاريخ المغرب، فسألتها: كيف كتشوف العضوية ديالك في الاشتراكي الموحد؟ كان جوابها: j’ai fait un bon choix.

نعم اختيار صائب، إذ في يوم من الأيام، وأنا رفقة العزيز عبد الحميد ذات مساء، أتى عضو منتخب في الجماعة الترابية وصرّح من صميم ذهنه: أحسن جوج منتخبين هوما ديالكوم.

نعم. يقتضي الأمر الحرص على مكتسبات هذه الانطلاقة المتجددة. فالمنتخبون أمامهم خمس سنوات للدفاع عن مصالح المغاربة في الدائرة الترابية للبلدية. ولأن الاشتراكي الموحد قوة جاذبة بفعل خطه السياسي ولكن وأيضا لأن اسمه ارتبط بامرأة مغربية تحضر بقوة في المشهد السياسي رغم كل ما وجّه ضدها من سموم وسهوم.

فكلما كان النور الذي ينبعث من الشمعة الأولى في الحزب كانت الرياح تأتي صوبها لتحاول إطفاءها. ولأن الاستقطاب يجلب الناس الى الحزب من معدنها الأصلي، فالسياسة المضادة للحزب ولها، لها قوة ضخ الطاقة بشكل مهول.

لذلك، لا يطلب الدهاء اليوم لطمس الملامح الجميلة لهذه الانطلاقة المتجددة، باسم الدفاع عن الطابوهات (بصيغة الجميل عبد الحميد) التي يصنعها اليسار بنفسه لتعرقل طريق تقدمه.

ألم نجد أنفسنا جميعا أغلبية بالفعل؟ بدل أغلبية المساطر؟ معادلة كانت كتبت في الوثائق، فتبرَّمَ منها أحد الأعزاء البلغاء، لكن ما كان مجرد استشراف للمستقبل، أصبح حقائق ملموسة من وراء الظهر.

ذ.أحمد الخمسي

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى