أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(24):مدرسة محمد بنسعيد آيت يدر أو مثلث الدياليكتيك والتكتيك واللوجيستيك
هل قدرنا أن يستند خطابنا السياسي أساسا على السجال؟ هل نترك للناس – وقد أنِسوا تصريحاتنا- يعلمون مسبقا ما سوف نصرح به تجاه إجراء حكومي أو مشروع دولة؟ هل ما زال أمامنا للخلط بين الشعار السياسي وبين البروبغندة الاعلامية مثل الشعار الذي سبق للأغلبية المفككة السابقة أن جعلته مربط الفرس “الملكية البرلمانية هنا والآن”. لم نعش وهما جعلنا منه شعارا سياسيا كما عشنا مع وهم الأغلبية المفككة السابقة شعارا سياسيا مرحليا بصيغة الطلب الفوري بصيغة الطفل الآمر: “الملكية البرلمانية هنا والآن”. يفتقد الى فهم الديالكتيك والى حدس التكتيك.
من سمات الشخصية المشرقية أنها ساخنة المشاعر. فالنخب المغربية والعربية والمشرقية عموما نخب القلب بامتياز وحتى عندما تستحضر العقل تبقى في حدود العقل الميكانيكي المزدوج الوجهين ما بين الشك واليقين. وإلى حدود القرن السابع عشر بقي العقل الغربي نفسه شبيها بالعقل الشرقي، لإنه بقي وريث العقل اليوناني الغالب، عقل أرسطو، بينما العقل اليوناني الخفي عقل ديموقريط لم يكتشفه سوى العقل الألماني الغريب عن لاتينية التراث الغربي السائد.
عقل ديكارت الفرنسي عقل المنطق الثنائي الميكانيكي(الشك واليقين) وعقل هيغل عقل الجدل الثلاثي التفاعلي. وقد كتب هيربرت ماركوز عن العقل الثورة ودور المكون السلبي (antithèse) الحيوي التفاعلي في تركيبه الثلاثي. وهو بمعنى لحظة أخذ مسافة من المعطى الأول (thèse) وليس رفضا قطعيا موقنا (من اليقين) بموقفه. لتأتي التخريجة الثالثة (syntithèse) مركبة حاملة لبذرة الموقف والفعل المستقبلي.
عقل ديكارت لم يسلم من بقاء الحبل السري مع المطلق ومع الطهرانية الكنسية ومع مركزية الحقيقة الجوهرية. بينما أسّس الجدل لنسبية الحقيقة ولثنائية النقد المزدوج (الذاتي والموضوعي) ولمركزية المجتمع حقلا للقيم والمصالح وبوصلة التقدم.
ثم تفاعل جدل هيغل مع الصراع الطبقي، وكشف قواعد عمل الرأسمالية التي تجعل “الربح فوق الشعب” (شومسكي) ليُعاد فعله واقفا على رجليه (ماركس) بدل جدل هيغل الذي بقي مثاليا محدود عند دور الفرد في التاريخ (نابليون روح العقل في نظر هيغل).
على المؤتمر الخامس للحزب الاشتراكي الموحّد أن يقرأ لحظة احتلال الانجليز لميناء طولون جنوب فرنسا، عندما انتبه الجينيرال دوغوميي (Dugommier)، لضابط صغير السن، لا يزيد عمره عن 25 سنة، اسم الضابط نابليون بونابرت، لا يتقن لهجة باريس، من “عروبية” جزيرة لاكورس، ذات اللحن الايطالي في مخارج الحروف. اقترح الضابط الصغير الحل وضبقه الجينيرال، وانتصر الفرنسيون وحرروا جزيرتهم.
نظرا لمثالية الضابط الصغير وذاتيته، وقد تمت ترقيته الى رتبة جينيرال مباشرة، والذي قاد الانتصار في حربي ايطاليا والحملة على مصر، أصبحت حروبه تهلك ما يصل 300 ألف شاب فرنسي، وقادته أنجلترا الى المنفى آخر صولته في تاريخ أوربا. كان السبب، أنه استمع إلى الخبير في الثورة الفرنسية (ايمانويل جوزيف سيييسE. J. Sieyès ) وسرق منه مخططه لإنقاذ فرنسا من فساد أعضاء الديريكطوار، وانفرد نابليون بالسلطة في انقلاب 9 نوفمبر 1999 ليصبح الأمبراطور الدكتاتور. أغلق حرية الصحافة واستنزف أموال الدولة، وأرجع العمل بتجارة العبيد وباع منطقة لويزيانا للولايات المتحدة لتمويل حروبه.
من كتبوا عن كون الثورة الفرنسية كونها بِنْت التنوير الفرنسي، أغمضوا العين عن التنوير الفرنسي نفسه الذي أغمض العين عن المبتكرات الانجلوسكسونية…. ونسوا أن الالمان الذين استفادوا من بركان الثورة الفرنسية لم يقلدوا الفرنسيين، بل تفوقوا عنهم في كشف بناء الدولة الملكية الديمقراطية والمجتمع عبر تنمية اقتصادية تفوقت على فرنسا في عهد قائد عسكري من طراز أكثر فعالية (بسمارك) من الطراز العسكري الفرنسي (نابليون)، تحت ظل الامبراطور (غليوم الأول).
يمكن لأعضاء الحزب الاشتراكي الموحد اليوم أن يتحدّوا من انشقوا مرتين، مرة عن الاتحاد الاشتراكي (2001) ومرة عن الاشتراكي الموحّد (2021)، كونهم كانوا يكتبون أوراق مرقعة مثل لباس هدّاوة. وكونهم وقد ادعوا تبني مبادئ الثورة الفرنسية أنهم لم يقرأوا أي تفصيل من تفاصيل الثورة الفرنسية المدمرة.
لا يمكن للديمقراطيين اليساريين المغاربة أن يكتفوا اليوم بترديد ملخصات الكتب المدرسية الفرنسية، ذات المنحى الشوفيني البيّن. وعلى اليساريين الديمقراطيين أن يتأملوا الموقف الرسمي من الأزمة الروسية الأوكرانية (هكذا تسميها الصيغة الاعلامية الرسمية). ليعلموا أن البلد لم يعد ذاك البوق للدولة الاستعمارية السابقة. إعلام فرنسا يسمي نفس الأزمة كما يلي: حرب روسيا على أوكرانيا. وليعلم اليساريون الديمقراطيون المغاربة كيف غطى الإعلام الرسمي الأزمة بين فرنسا ومالي الحالية. وضمن هذا التوجه الذي تألق اليوم، كان سفر الأمينة العامة ذات يوم إلى السويد بنجاح باهر، على رأس وفد يساري مغربي.
من هذه الوقائع يُستخرَجُ الدياليكتيك. فمن لم يحسن فهم تركيب الدياليكتيك عبر تفكيك الوقائع وإعادة تركيبها فلسوف يبقى عند منطق ديكارط اللاتيني الثنائي ذي النفحة المثالية. أما من أرسى ترسانة تحليلاته على الوقائع، بلا عُقَدٍ ايديولوجية، فسوف ينتقل من الدياليكتيك إلى ما يلائم في الحياة السياسية الجارية فوق الأرض، ولن يُعدِمَ حسن اختيار التكتيك.
ولأن مدرسة محمد بنسعيد آيت يدر بقيت – في العمق- مستفيدة من التاريخ الاتحادي العظيم في عهد الشهداء والمنفيين والمعتقلين، لم تحسن فقط فهم الديالكيتيك بل أحسنت التكتيك في كل مرة طفت موجة الانشقاق. وعبر “البراكسيس” الذي ينسج سلاسة الصلة بين النضال الشعبي وسير المؤسسات البطيء، تمكنت بل تميزت هذه المدرسة سليلة المقاومة الحازمة وجيش التحرير من توفير البنية التحتية بكل ما تعنيه من لوجيستيك.
فهي مدرسة المثلث الحيوي في كل حياة سياسية لشعب مكافح مثل الشعب المغربي الصبور: مدرسة فهم الدياليكتيك وملاءمة التكتيك وترسيخ اللوجيستيك.
وليست فرقة الرحّل الذين بحثوا عن موقع جاهز في “أرض الله الواسعة” فانتكسوا أو فرقة الذين اقتصروا على المقر النقابي حظيرة غذاء وكساء ودواء لكل داء.
كل المستقبل أمام الحزب الاشتراكي الموحد، شريطة أن نتحرر من عقدة “حروب نابليون”.
لقد قادت نبيلة منيب عملية إنقاذ الحزب من التدمير بحنكة خاطفة استثنائية، خلال الصيف الماضي. كانت بمثابة إشارة نابليون إلى قلعة إيغوييط (Eguillette)، والتي أنقدت مدينة طولون من الاحتلال. فقط، أمامنا فرصة التخلص من “حروب نابليون”، وبقيادة نبيلة مع الاحترام التام للقانون الأساسي.
في إمكان الحزب الاشتراكي الموحد ذلك. ليجعل مهمة اللجنة التحضرية مهمة إنصات وليس مهمة فبركة. فالبناء الجماعي هو الذي يبني السقف من حديد.