مداخلة الدكتور عبد الواحد حمزة في ندوة ” ما للتنوير الغربي وما عليه: من أجل إعادة بناء تصور موضوعي للغرب عندنا”بفاس
مداخلة رئيس الجمعية المغربية للتنوير الدكتور عبد الواحد حمزة للاستقبال والترحيب بالدكتور الأستاذ حميد لشهب، المترجم والكاتب والسيكو-بيداغوجي المقيم بالنمسا لما يزيد عن 30 سنة، وذلك في ندوة ” ما للتنوير الغربي وما عليه: من أجل إعادة بناء تصور موضوعي للغرب عندنا”، وذلك يومه السبت 11 يونيو 2022 على الساعة الرابعة زوالا بقاعة الندوات والمحاضرات بفاس- سايس- المغرب.
ما للتنوير الغربي وما عليه: من أجل بناء تصور موضوعي للغرب؟ فما التنوير الغربي وأي فرق بين التمثلات التي نكونها عنه، من جهة وما هو عليه هذا الغرب، بالضبط؟ أي تصور موضوعي له؟ وهو ما يتطلب حذرا منهجيا وفكريا على أعلى المستويات، نقدا مزدوجا فيه وحول الذات- كما يقول عالم الاجتماع المغربي الخطيبي عبد الكبير،و هو للتذكير واحد من أكبر أعلام الفكر التنويري المعاصر ببلادنا.
لعل إعادة بناء تصور متكامل ما، وعن الغرب بالذات، يستدعي العمل على إنتاج حصيلة مركبة ومزدوجة “الهدم الكلي” أو “البعض” مما وصل إليه الفكر اليوم(جاك داريدا) ، في تشعباته وتراكماته وميولاته وتبعاته، عند الغرب وعندنا وحول أنفسنا بالذات !
يبدو أن لمحاضرنا اليوم- الدكتور حميد لشهب رأي في ذلك، إذ لدينا الكثير من التجني على أكثر قيم ومناهج هذا الفكر، بل وعدم المعرفة بمجمله، سلبا وإيجابا وضعف التبيئة والنقد الذاتي ونقد الآخر والتحليل المقارن وتمثل الحقيقة الموضوعية. وكذا جدوى الانخراط الفعلي الواعي في الأحداث والسيرورات التاريخية والتعامل معها في تسلسلها المنطقي. ثم تحمل المسؤولية الفردية والجماعية لردم التأخر الحضاري التاريخي ( عبد الله العروي)- بالتمام والكمال.
فإذا كان الفكر الفلسفي عند الغرب قد توقف على الأقل منذ هايديجر وشوبنهاور، فإن ما حصل في بلادنا، – على الأكثر- منذ الثمانينات للقرن الماضي، فهو لتراجع الفكر الفلسفي عندنا، وللإجهاز الرسمي عليه وقلة الترجمة في المواضيع الفكرية والفلسفية العملية التي يتطرق إليها. وسيكون لمحاضرنا ما يقوله اليوم في مواضيع شتى متعلقة بهذا الفكر، وما يتشعب منه من أدب وفنون وهو الذي خبر جوانب لامعة منه منذ صداقته المنتجة ببعض أعلامه المعاصرين.
وهو الذي خبر أيضا “الفكر التنويري” منه -على وجه الخصوص- وألف في “الكانطية الجديدة” لسبر أغوار التنوير الجديدة (2018) واهتم بأعمال المشتغلين على فكر مغمور وواعد كفكر هايدجر وإيريك فروم ،ومنذ أن رحل شابا- وهو لازال كذلك- إلى فرنسا ثم النمسا، قادما إلى الغرب وليسكن فيه ، منذ ما يزيد على 30 سنة، من جامعة محمد بن عبد الله –فاس العالمة/ قسم الفلسفة وعلم النفس/ ظهر المهراز المناضل (1987). ومنذ أن تلبس بمحاضرات مهمة وتشبع بدروس قيمة حول “الظاهراتية” و”الفلسفة” والقانون” للفيلسوف كوكلر هانس، تحديدا، وهو الفيلسوف الغربي المعاصر المنفتح على قضايا العصر وقضايا الجنوب العادلة، تحديدا. سيعيد أستاذنا لشهب النظر والتفكير في أمور كثيرة، وأول ما استقصاه ” فكرة الله عنه الطفل”، ليجعل منها دكتوراه القيمة (1993). وسيكون من حسن الصدف أن شارك الفيلسوف كوكلر في مناقشتها،ليظل مصير محاضرنا إلى اليوم مصير المصاحب المثمر- لحسن الحظ- أظن- لهذا المفكر الكبير، ذو الرؤية المتضامنة مع المظلومين في القارات الخمس، ومع العرب والمسلمين، لاعتبارات فكرية وقانونية وإنسانية محضة.
لعله نفس الموقف الابستمولوجي المنصف سيتخذه محاضرنا لا محالة من إشكالية التنوير والنهضة عند العرب والمسلمين ولدى فلاسفة الجنوب، عموما، والطارحين لقضاياه العادلة عبر العالم و”المحاسبة الموضوعية” لأعلام عصر النهضة كالطهطاوي ومحمد عبده والكواكبي وغيرهم قليل من المعاصرين، أمثال عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وعبد الكبير الخطيبي ومحمد سبيلا وعبد السلام المودن(…).
ولعل الغرض من ذلك كله –اليوم- هو العمل على مكابدة/ أو مجابهة قوى التخلف الفكري والتشرد والتضليل الإعلامي والسياسوي الدولي والمحلي والإقصاء المزعوم وعمليات تثبيته المقيتة، بالإملاء تارة وبالقوة تارة أخرى، وكذا مواجهة التبعية بجميع مستوياتها للغرب الاستعماري والإمبريالي/ العولمي. ومن ثم ضرورة الانفتاح العادل والمنصف والصارم على العالم، من منطلق المصلحة الوطنية والجهوية والمجالية والمناطقية، إلخ…
وللذكر فمحاضرنا ألف الكثير ومن بين ما يهمنا- اليوم- الإشادة والإشارة إلى كتابه في قضايا وإشكاليات الحداثة في الفكر العربي المعاصر (2021) والشرفات الحوارية (2022)
– الفلسفية منها والسياسية- الذي سيمضيه لنا اليوم، كما اشترك مع باحثين آخرين في تأليف العقل والدين في المجتمع الحديث وما بعده (2005) ودور النزعة الإنسانية في حوار الثقافات (2007) وحوار العالمين الجرماني والعربي (2007)، كما ترجم أيضا العديد من الكتب كتفاعل الحضارات والديانات (2004) وكذا الإنسان المستلب وتحرره (2003) وجدلية العلمنة والعقل والدين (2013) إلخ (…)
والحال أنه لا يمكن أن نتحدث عن الدكتور لشهب حميد إلا ونقرنه شرفا بالفيلسوف هانس كوكلر والذي كانت أول زيارة له للمغرب سنة 1974 حيث لازال محاضرنا –وقتها- تلميذا بالثانوي. وقد عاود الفيلسوف الكبير الزيارة سنة 2009 للاحتفاء بالترجمة العربية التي أنجزها ضيفنا اليوم -أيما إنجاز- وكانت حول” تشنج العلاقة بين المسلمين والغرب: الأسباب والحلول”.
ونحن نبتغي منه اليوم، فيما نتطلع إليه منه، الإشارة لبعض تلك الأسباب التي تجعل من فقدان الثقة بين الغرب والشرق “عداوة ثابتة” والتي تشكك في أنوارية الغرب الحقة وفي موضوع التباسه وتناقضاته وَحِيَّلِهِ اتجاه قضايا الدول المستضعفة والفقراء والمهمشين عبر العالم بأكثر من مكيال، وهل من بصيص أمل لإعادة نسج التضامن والتعاون والسلم بين الدول والشعوب والطبقات الاجتماعية؟
والحال أيضا أن ” الفلسفة الإنسانية”، بما هي “إرث غربي” بامتياز، لم يتطور قيد أنملة منذ عصر الأنوار الأوروبي، بل وتم الزج بها كـ”ميتا- علم عالمي ” (كوكلر ) فيما لا يعنيها، ضدا على حق الحركات التحررية في الانعتاق وقصد تملك ناصية البلدان المتأخرة، واستغلال خيراتها ومواردها البشرية، باستعمال كلام معسول ومغرض عن التقدم التكنولوجي والتحضر والديمقراطية، وغيرها.
ثم سيأتي الكتاب الآخر لكوكلر ” العدالة الجنائية الدولية” في مفترق الطرق: عدالة عالمية أم انتقال شامل؟ ليقدم بعض الحلول/ الأجوبة العملية الفاحصة، وكأنه بنا يوصي بأن ننتقل جميعا- كإنسانية- أو نستديم نهائيا في الجحيم الأرضي، أن نغرق جميعا كما تغرق السفينة وربانها وركابها في بحر الظلمات والحروب واللامعنى والعدم.
وللتذكير -أيضا- فهو كتاب من إشراف الأستاذ لشهب حميد، دائما، وهو من أهم ما اشتغل عليه. إنه عبارة عن فحص فلسفي نقدي يفضح الطريقة التي يفهم ويتعامل بها الغرب مع الآخر، في ما يسميه مزايدة” بالعدالة الدولية”، بحيث يصوغها على مقاسه بما يحفظ مصالحه الحيوية. ويضع مفكرنا الأصبع على الخلط المقصود الذي يقوم به الغرب بين مجالي القانون والسياسة، مما يورط ما يعرف “مجازفة” بـ “النظام العالمي الجديد”، بحيث يعمل على توظيف يافطة القانون في ما يسميه بـ ” التهذيب السياسي” للدول والشعوب المتأخرة والمارقة، وهو ما يطعن بالتأكيد في مصداقية وشرعية هذا النظام العولمي، بل ويهدد باستمرار مصير السلم الكوكبي والمشترك للإنسانية – المواطنة جمعاء.
وللتذكير فإن كوكلر يرى أن ” العدالة الدولية” توجد في قلب مبادئ/ أصول الأنوار الغربية، قبل التنكر المفضوح لها اليوم، ومنها عدم السماح بالتدخل في ما لا يعني “قوى مسيطرة” معينة لدى دول وأمم وشعوب أخرى بدون موجب قانون دولي. وقد أكد على ذلك من اجل إعادة الحق لأصحابه وبموافقة المؤسسات الدولية نفسها، كالأمم المتحدة مثلا، من أجل السلام والعدل للإنسانية برمتها.
والحال أن هذه المؤسسات أصبحت تحيد عن دورها لارتباطها بإرادة القوى العظمى، التي أسستها عقب الحرب العالمية الثانية، خدمة لمصالحها، وهو ما يستوجب إعادة إصلاحها لتفي بأغراضها الأصلية المعلنة: إحلال السلم بين الأمم بالرجوع للعدالة والقانون الدولي الإنساني.
كل تلك الكتب/ الأمهات في الفلسفة السياسية والقانونية وغيرها، وكل تلك الترجمات والآداب والفنون والإبداع والحوارات والأعمال المشتركة تحط على رأس محاضرنا- وما أكثرها وأعدها- وأغلبها مطبوع بدور نشر مغربية ومهداة في مجملها للطلبة وللمهتمين وللباحثين الشباب المغاربة في المجال، تتوسل خلق فضاءات تماس حي مع الفكر الفلسفي والنقدي عموما ، وهو الفكر المرتبط شرطا بقضايا المجتمع والمواطنة والعدالة الاجتماعية والدولية.
وفي بحثه الحثيث – الواعي والدفين- عن العودة من حيث أتى(1998): الجنوب/ مسقط الرأس/ مطماطة، ليراه أكثر اخضرارا وجمالا وإنصافا وحياة وعدلا، – عكس الطيب صالح في روايته المشهورة ” موسم الهجرة إلى الشمال”، وكأني بمحاضرنا- الرافض للغربة وللاغتراب والشقاوة، يريد أن يرد الدين لبلاده الهامش- المحجوز، وهو – بأنشطته المتعددة تلك- والروائية الإبداعية، منها أيضا، يريد أن يرد الصاع عطائين وثلاث ورباع. إنه يظل باستمرار، ذهابا وإيابا، محاورا ومفكرا ومجربا ومترجما لامعا، محاولا ما من مرة استقدام النفس والنفيس، فظل يلعب ما استطاع “دور الوسيط” بين عالم الغرب والمغرب/ الشرق، حتى لا يظل الغرب متزمتا ومنغلقا وعنهجيا، على غربيته، وحتى لا يظل الشرق/ المغرب مكبلا في استثناءاته وتخلفه، وحتى يتم التداخل الوجودي والمصيري المشترك والمشتبك بينهما وتحقيق السلم والسلام العادل. إنه المثقف الكوني المتعدد والواحد والمنوجد في فكر وواقع بلده، تميزا وخَلْقاً وَخُلُقاً !
سقط جدار برلين، وعوض أن ينتهي العالم وتسود الديموقراطية أرجاء الكون، تسربت وتوزعت “ديموقراطية تسلطية” (آلان سوبيو 2018)/ و”نكران للديمقراطية”- ذاتها- على أرجائه، و”ديكتاتورية غربية – أمريكية- أوروبية”- لتعم الحروب والأزمات، وليستوطن إحساس وواقع الظلم وجدان الدول المستضعفة والشعوب المغلوبة على أمرها، فهل من أقطاب/ بدائل تنويرية جديدة، يكون للعرب والمسلمين مكانة متميزةفيها؟ أليس مستقبل العالم يصنع اليوم من جديد في آسيا؟ وهل يمكن الحديث عن ” أفول الغرب”؟ وانكسار مرآة الغرب” و”عالم بلا خرائط” (أوريد حسن)، وقد علت على مـُحَيَّى الشرق- قبل الغرب – خدوش وأخاديد وحفر في عالم جيوستراتيجي جديد قيد التشكل !؟ وهل هناك من عدالة عالمية تحتفي بالإنسانية جمعاء بدون ميز أو حيف، وبالدول والشعوب التواقة للتحرر؟ وأي دور للأنتلجنسيا في ذلك، وهي النخبة الواعية والقائدة والمعلنة والمكشوفة لإعادة التوازن والحقوق/ والواجبات للعالم، في ظل غياب قاتل لقوى اجتماعية- اقتصادية- سياسية” ثورية”، تفي بالمراد !؟
فما التنوير الغربي وما عليه من أجل تصور موضوعي للغرب !؟
الأستاذ حمزة عبد الواحد
فاس في 11/06/2022