وجهة نظر

أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(26):درس أوكرانيا يقتضي المراجعة الشاملة بدل ثنائية الصراخ والهرولة

أحمد الخمسي

عندما كتبت أول مقال في هذه السلسلة حول النزاع في أوكرانيا، علّق أحد القراء: “كتخلِّيو الأسعار هنا وكتكتبو على أوكرانيا لهيه”، كان ليسانس والمازوط ساعتها في منطقة 10 دراهم. طبعا، القارئ المعلّق نموذجا للرؤية السطحية التي لم تكن لتربط بين انطلاق الحرب هناك في أوربا الشرقية وبين الارتفاع المهول الموالي بعد خمسة أشهر هنا. أتخيّل نفس القارئ وهو يعلم أن سعر المازوط وليسانس يكاد اليوم يصل ضعف ما كان عليه عندما كتب تعليقه السطحي…ليستنتج حالة العقل العام عندنا كم هو عاجز عن رفع نظره نحو المستقبل القريب. فالرأي العام منشغل بالهاتف الذكي فرح بسهولة التعاليق السطحية إلى “حريته” في التعليق على أمثالي منكسر الإرادة أمام موجة الارتفاع المهول التي تنكسر الى اليوم. الرأي العام يستسهل الصراخ من فرط الكسل والعجز عن المراجعة الدائمة. ينتقل الرأي الرأي العام من حالة النفس اللوامة إلى حالة النفس الأمّارة بالسوء بدل النفس اللوامة بين الفينة والأخرى.

نهاية الأسبوع الماضي، عقدت روسيا ما سمته “منتدى سانبيتيرسبورغ الاقتصادي. تمكنت – رغم الحصار الغربي الأمريكي الأوربي_ من حضور أربعين دولة، من بينها أكثر البلدان ارتباطا بالسياسة الأمريكية في مجال الطاقة مثل السعودية والإمارات.

ليست الدول الخليجية الحاضرة في المبادرة الاقتصادية الروسية مجرد كومبارص في الاقتصاد العالمي. بل لاعب محوري ضمن منظمة الأوبيك المصدرة للنفط. ولم تحضر تلك البلدان دون رؤية لما قد يترتب عن حضورها من غضب أمريكي. فهي تعلم أن فرنسا نفسها ما زالت تزاوج بين تصعيد الخطاب ضد روسيا وفي نفس الوقت توازن حاجيات أوربا من النفط، وتنس فرنسا بعد لعب أمريكا ضدها في قضية صفقة الطائرات مع أوستراليا. وتعلم الدول الخليجية أن الاتحاد الأوربي نفسه لم يستطع إرغام أحد أعضائه في قلب أوربا على الالتزام بمقاطعة النفط والغاز الروسيين (هنغاريا). ومع السعودية التي تعتبر ضمن مجموعة العشرين، حضرت مصر وذكّرت الحاضرين بتاريخ الصداقة بين الدولتين موحية في كلمتها رصيد مصر مع الاتحاد السوفياتي.

وانظر السياسة المغربية التي تتحدث في الإعلامالعمومي عن “الأزمة الروسية الأوكرانية” ولا تذكر “حرب روسيا على أوكرنيا”.

ثم فليتابع المتابع نزول المشاهدة في المنطقة العربية لقناة البيبيسي التي سبق لها الاحتفاظ بالمستوى المحترم في المشاهدة مقارنة مع الانخفاض الملحوظ اليوم. فقط بسبب موقفها المنحاز سياسياً. والذي يتابع أخبار البيبيسي يملّ أخبار الحرب من منطلق “الحرب على…” وليس من منطلق “الأزمة”.

إن جديد تموقع البلدان الخليجية، بمسافة عن الولايات المتحدة بصدد النفط والأزمة الأوكرانية، يدعو إلى التفكير في كون الولايات المتحدة فقدت الكثير من هيبتها ونفوذها الخفي، وذلك منذ غزوة الكابيطول من طرف أنصار ترامب (6/01/2021). فلم يكن ممكنا لروسيا أن تستكمل إلحاق شبه جزيرة القرم (2014) بتحصين استقلال جمهوريتي شرق أوكرانيا عسكريا لو لم تستخلص عمق الأزمة الداخلية للولايات المتحدة الأمريكية. كما أن تفوّق الصين في محاصرة جائحة كورونا في الزمان والمكان، رسّخ الوضع البنيوي المستقر للحكومة الصينية داخليا وخارجيا. مما جعل روسيا والصين تتأهبان إلى توفير شروط تفكيك النظام العالمي ذي القطب الواحد.

وقد استخلص الصينيون والروس أن تعدد الأقطاب اليوم سيبقى تحت نفس السقف المعولم، مختلفا عن القطبين السابقين اللذين كان جو الحرب هو المناخ السائد بينهما. صرّح كل من الرئيس الصيني والرئيس الروسي بهذا المضمون في منتدى سانبيتيرسبورغ (17/6/2022). ويظهر أن مهمة ترتيب تعدد الأقطاب لا تتطلب سوى مطابقة قواعد اللعب العالمي مع واقع موجود. لكن الصعوبة المتبقية أمام ذلك، موجودة في المربّع العسكري، وهو ما يجري تدليلها عبر الحرب في أوكرانيا، لتأتي بعدها مسألة طايوان.

ثم إن زيارة مثلث رؤساء فرنسا وألمانيا وإيطاليا إلى العاصمة الأوكرانية ليست مؤشرا على تكثيف الدعم العسكري لأوكرانيا، وإن جرى ففقط لإتاحة الفرصة لتجريب الجديد من منتوجاتها التكنولوجية الحربية ليس أكثر. فالزيارة المذكورة استباق إعلامي لتدبير سياسي معاكس. كي تتحسّن مواقع فرنسا والاتحاد الأوربي مستقبلا في التفاوض. فالاتحاد الأوربي لم ينس البريكسيت والتحريض الأمريكي عليه. كما أن الاتحاد الأوربي وإن بقي راسخ الأقدام داخل منظمة الحلف الأطلسي، فهو يعلم أن ما بين أجنحة “الأوطان” من تباعد من تركيا إلى السويد، لن تكون الحرب في أوكرانيا سوى عاملا معرقلا لتسوية المشاكل الداخلية. خصوصا وأمريكا التي لا دور لها سوى الحفاظ على مصالحها. أما والمشكل الصيني الطايواني في قاعة الانتظار بعد خروج المشكل الأوكراني من غرفة العمليات، لا أمل لأوربا سوى الحفاظ على ما هي عليه من هشاشة مؤسساتية واقتصادية.

كل نقط القوى والضعف لدى الغرب أصبحت – تقريبا- واضحة المعالم. وكل الشطحات التكتيكية للغرب لم ترتق إلى مستوى زعزعة الاستراتيجيات الكبرى، سوى الحقيقة الاستراتيجية التي تترسخ اليوم وهي الانتقال غير السلس من نظام عالمي ذي القطب الأمريكي الواحد، إلى نظام عالمي كما هو الآن، ولكن متعدد الأقطاب.

من يتابع أخبار الحرب من الإعلام الغربي يلحظ ازدواجية التصعيد الكلامي والتخوف المصلحي، ومن يتابع أخبار الحرب من قنوات الروس والصينيين يلحظ الحرص على النظام العالمي المعولم مقابل لغة الدفاع ضد التدخل الأمريكي في المناطق الحدودية الحيوية للصين (طايوان) وروسيا (أوكرانيا). ولسوف نعلم في المستقبل أن دخول فنلندا والسويد إلى الحلف الأطلسي لم يكن من باب التصعيد سوى تكتيكيا في مقابل تلقيح السياسة الأطلسية الغربية بالهدوء السكاندينافي. مع رتوش من “الفلفلة الحارة السودانية” لأردوغان.

ما هو دور المغرب في كل هذا بعد التوازن في الخطاب الإعلامي؟ نقطتان تؤشران على التوازن في الموقف. الاعتدال الملحوظ تجاه روسيا، مقابل جمع الدول الافريقية المطلة على الأطلسي، وهو ما لم ولا ولن تستطع الجزائر لعبه كدور مستقبلي لفائدة توازن افريقيا مستقبلا بالتوسط ما بين محور الصين/روسيا ومحور الغرب الأوربي الأمريكي. وفي انتظار ما سوف ينتج عن الحرب في أوكرانيا، يمكننا أن نمد اليد للاتحاد الافريقي لنخاطبه بما يلي: وداعا أيها الاتحاد الافريقي بالصيغة السابقة. إن لم تتجدّد، وتفكر في جمع كلمتك وفق تعدد الأقطاب، بكيفية جدلية وليس بكيفية ميكانيكية.

وما عسى أم يوفره النظام العالمي متعدد الأقطاب لفائدة فلسطين؟ هنا يجب تذكر الهند التي عانت من التقسيم عندما فرح العرب والمسلمون بظهور باكستان كدولة إسلامية على حساب الوحدة القومية للهند شعبا وترابا. ففي غشت 1947 قسمت بريطانيا الهند، وفي نوفمبر 1947 تم تقسيم فلسطين في الأمم المتحدة. وعندما أصبحت باكستان دولة نووية لم يعترض العرب. ولا يمكنهم الاعتراض اليوم على البرنامج النووي الإيراني. لذلك، يقتضي الموقف لفائدة فلسطين الخروج من التخبط العميق. بدل ثنائية الصراخ القومجي والهرولة التطبيعية.

هل يستطيع العرب والمسلمون إقناع الهند بمساندة حل الدولتين في فلسطين؟ هل يتبقى لحل الدولتين قسط من القابلية للتحقق؟

يقتضي الموقف لفائدة فلسطين التفكير في موقف قريب مما تراه منظمة “المبادرة الوطنية لفلسطين” (مصطفى البرغوثي) والتي احتفلت بالذكرى العشرين لتأسيسها، ف”المبادرة” تتبع خطاب المقاومة ضد “الفصل العنصري” و”التطهير العرقي” وهو الخطاب الذي يفهمه الرأي العام العالمي اليومي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى