وجهة نظر

ذ. عبد الواحد حمزة :المشروع والرقمنة والبيئة والعمل من أجل ” عالم أفضل”(الجزء الاول )

مقـدمـة:

لازال القليل من الدوغمائيين يُخْرجون عند الحاجة فكرة محنطة “ما”، أو نصا مبسترا أو في سطور معدودة، لرمز من رموز الفكر الماركسي، لكن نادرا ما يتناولون بالطرح الإبستمولوجي اللائق والمناقشة الجدية لذات الفكر وتطبيقاته التاريخية، والذي من الممكن – على فكرة – أن يكون قد وصل كليا أو في بعض ما تناوله – لـ”حدوده التاريخية” (انظر الصعيب حسن، الماركسية ونظرية التغيير الثوري، 2022)، أو أن يصل “النموذج التنظيمي اللينيني” – ذو الطابع اليعقوبي البلانكي – للاشتراكية الفعلية حد “نفي الديموقراطية”، (نفس المرجع)، أو أن يصل النضال الجماهيري العفوي – كما نظرت له روزا لوكسمبورغ إلى الباب المسدود، وكذا قصور التطرق إلى إشكالات الوعي الطبقي واستلام السلطة من طرف البروليتاريا الصناعية عند كاوتسكي ولوكاش، وغيرهما .

كل هذه المقاربات جريئة لتبيان حدود “الماركسية الكلاسيكية”، لكن السؤال المفتوح أمام التحولات التي تعرفها الرأسمالية اليوم هو مدى نجاعة الماركسية – حتى في تجددها – على القيام بمهامها الأساسية، مهام التحليل الاقتصادي- السياسي – والاجتماعي (…) – بمفاهيم ومنهاج محدد – والتغيير وبأي أسلوب – التغيير الثوري أو السلمية (العلنية – الديمقراطية – اشتراكية القرن 21،…) (انظر خ.أ 2022)،  و” فك الارتباط ” للخروج من النظام العالمي (سمير أمين، 1986).

وإذا كان “البنك السويدي” – شماتة في تحيز جائزة نوبل لصالح الاقتصاديين الليبيراليين والنيوليبراليين / الأورتودوكس- من أتباع فالراس المؤمنين بعقلانية الأسواق وحدها دون تدخلية الدولة، بحيث لم يحصل عليها لحد اليوم من اقتصاديي التنمية إلا 3 علماء (ويليام آرثر لويس وتيودورشولتز سنة 1979 والاقتصادي الهندي الليبرالي-“التقدمي” أمارتيا سن عام 1998) ودون الإيترودوكس/ السوسيو اقتصاديين والاقتصاديين الراديكاليين، وهم الذين يفتحون الاقتصاد على مكوناته أولا وعلى محيطه ثانيا من علم  نفس وسياسة وتاريخ وفلسفة، …إلخ. إنهم يتناولون قضايا متعددة وفارقة مثل البيئة والرقمنة والأخلاق والنزاهة والعيش المشترك والمناخ…إلخ، كما يتم إبعادهم من الوظائف الحساسة في المؤسسات الرسمية، كالجامعات والمقاولات، عموما….).

وقد أنتجت الماركسية في بلدان الهامش علماء اقتصاد ذوو باع، علماء- ثالثيين، من أمثال سمير أمين وغاندر فرانك وغيرهما. ومن “منظري الضوبطة عبر الدولة” في أميريكا اللاثينية وفي بلاد النمور، نذكر بويي روبير، أغلييتا، ميسترال، إيكينيكوف، لانزاروتي، ليبييتز وأومينيامي، وآخرون. وفي المغرب نذكر أمثال بلال عزيز وباسكون بول ونور الدين العوفي (…). هكذا وضعت مسألة التراكم والتوزيع وإشكالية النمو من الداخل- الوطن الشعبي المتمركز على الذات، ودرجة الانفتاح على العالم، وثقل الأزمات وضرورة التقويمات، وإمكانية التخلص من النظام الاحتكاري العالمي الجديد (…) موضع تساؤل ومسؤولية لدى اليسار، خاصة. ومن المواضيع المركزية التي ستشغل موضوعنا إشكالية الشغل في  القرن 21، لاعتبارها التيمة- الأساس والنواة الصلبة ذات الأشكال التاريخية المحددة، لدى السوسيو اقتصاديين.  وهو ما سنعالجه في بابين اثنين:

القسم الأول: “الماركسية الخلاقة” ممارسة سياسية واعدة لاستنهاض “الكامن” وإدماج مختلف الرؤى .

القسم الثاني: مكانة مفهوم العمل في ظل الرأسمالية الاحتكارية المعممة اليوم وفي أفق اشتراكية الغد.

القسم الأول: “الماركسية الخلاقة” ممارسة سياسية واعدة لاستنهاض “الكامن” وإدماج مختلف الرؤى السياسية والرقمية والإيكولوجية…

سنتطرق في البداية إلى بعض ملامح المشروع السياسي اليساري التنويري العام، قبل أن نواصل بطرح بعض السجال الرفاقي- الثقافي العام، حول المشروع السياسي والرقمنة والبيئة ومواضيع أخرى. وهو أمر يستلهم صنافات كل من إدغار موران واقتراحات بعض الرفاق حول الرقمنة والبيئة وعلاقة التكنولوجيا بالعمل وقوته.

 أولا: في “الماركسية الخلاقة” ودمج الرؤى المختلفة والمتنافسة

إن الماركسية – ذاتها – مجرد نتاج لمرحلة تاريخية معينة، من اللازم أن ينطبق عليها ما يسري على كل الظواهر التاريخية الأخرى، ومن ثمة وجوب إبداع نظرية جديدة للتغيير تستوعب مختلف اجتهادات الماركسيين الجدد، بتجاوزها هي بالذات، ما دامت مرتبطة ومتطابقة – في “الأصل” و”الفرع” – مع الرأسمالية – ومن تمة، تحتاج للتطور التاريخي (انظر باجو حميد، 2022). ثم هل بإمكان الماركسية – الوجه الجديد – أن يلم بتحولات الرأسمالية – الإمبريالية – متجاوزة نفسها بنفسها – متحدية الوجه القديم لها من طرف أهل الدار/ الأحفاد، أم أن الأمر يستلزم القسطرة من خارج الدار/ خارج “حراس المعبد”، بالضرورة؟

هل كان ولا زال البناء الاقتصادي – الاجتماعي هو المحدد – في آخر المطاف لباقي البنيات الفوقية، من دين وإيديولوجيا وحقول الثقافة والسياسة؟ أي أسلوب ينفع في تحديد وتجديد الممارسة السياسية: أسلوب التغيير الراديكالي أو الأسلوب السلمي – العلني ولأي قوى ومع أي نخب؟! ما نجاعة مثلث الفعل السياسي الذي يقترحه خ.أ: الأصولي – الليبرالي واليسار؟ ما نجاعة الشبكة التي يقترحها إدغار موران، التحررية والاشتراكية والشيوعية والبيئية – الإيكولوجيا، في أفق “عالم أفضل”؟

“عالم أفضل” قلتم؟ لا مؤشر إيجابي على ذلك، لحد الساعة! هل هو تشاؤم؟ قد يكون كذلك، لكنه مشفوع له بالتطلع ومحمول بالمقاومة! هل من أمل صراحة، اليوم، لصد الهمجية والعنصرية وكره الأجنبي وتبخيس قيم إنسية – كونية، كالمساواة والحرية والعدل والكرامة(…)؟! أمام هول التراجع والنكوص المسجل على مستوى حقوق الإنسان في المغرب والعالم، وحق الشعوب في رسم آفاقها باستقلال تام وسيادة على مقومات الدولة الوطنية (…) لا يسعنا إلا أن نتوجس على أن لا تكون البشرية الإنسانية قد بدأت بعد! ولتعلو – بالرغم من ذلك كله- أصوات متفائلة ووجهات نظر رصينة تدعو الالتفات إلى ديناميات صاعدة، هنا وهناك، والتعريف بها وجر الانتباه للممارس السياسي إلى ما يطفو منها عبر العالم، من مبادرات متعددة، فإيجاد حلول لمشاكل حيوية، وهي حُبلى بالمستقبل.

فبالرغم من أنها مبادرات متناثرة ومتفرقة ومجزأة وحتى جاهلة – أحيانا كثيرة – لبعضها البعض، لكنها تستحق أن تُعرف. كما أن احتمال التقائها يمكن أن يحبل بمسالك إصلاحية جديدة. وهو أمر يتطلب، بالتأكيد، مجهودا جبارا من طرف المثقفين/ المفكرين – قبل غيرهم – لتركيب الرؤى – المتضامنة والمترابطة في ما بينها – (أهمية الفكر السياسي، أساسا) وبحث السبل الناجعة وإدماج المعارف اللامحدودة والمتناثرة اليوم في “كل”، لتقدير الوضع الإنساني (الكون – المحيط – التاريخ) ككل، وللنظر في مصير من حجز مقعداً في المكوك الفضائي – الأرضي من بين الأمم والشعوب (انظر إدغار موران، 2022)، ولنا في ما يقترحه هذا المفكر مشروع متكامل ليسار مستقل؛ فمن يأخذ؟!

فإذا كان اليسار (العالمي/ المغربي…) وريث فخري لكل الأفكار والحدوسات والنظريات الاشتراكية (الاشتراكية الطوباوية، الاشتراكية العلمية…) بنجاحاتها وإحقاقاتها (في المراكز الرأسمالية – الامبريالية وكذا في المحيطات، على مستوى حركات التحرر الوطنية…)، بإيجابياتها وسلبياتها النسبية (الاتحاد السوفياتي سابقا، الديموقراطيات الشعبية،… الصين، فنزويلا (…))؛ فإن ذلك يعني – استلهاما لفكر موران إدغار – البحث عن تقاطعات فكرية “كليانية”، لكن تعترف وتقدر الاختلافات، إذ هي ليست “شمولية – توليتارية” تجمع شتات المتناثر، هنا وهناك، مما هو متضامن ومترابط في الممارسة السياسية – أساسا.

وإذا قدّرنا أن تكون “اشتراكية الغد”، أو ما أصبح يعرف بـ”اشتراكية القرن 21″ أو التركيز على معضلات البيئة كما عند الاشتراكيين – الإيكولو” الخ، اعتمادا على ماركس أو بدونه، فإن الممارسة السياسية لليسار (العالمي – المغربي) مجبورة على الجدل والحوار (التحالفات، التكتيكات، الاستراتيجيات…). فبقدر ما هي “استمرار” “ليوتوبيا” نبيلة (إمحاء علاقات الاستغلال والاستيلاب والاستبداد والاستحواذ والإهانة…)، فهي بالتأكيد – أيضا – “قطيعة” مع العديد من الأفكار والتطبيقات لاشتراكية الأمس واليوم.

وعليه، فإذا أراد اليسار ذاك – أن يتموقع (إبستمولوجيا ونظريا وفي الممارسة العملية…) – اليوم – قبل المستقبل – من أجل “مجتمع أجمل” – فما عليه إلا أن يركب “الصعب – الممتنع” – أن يفي بشرط واحد أصبح ضروري وحاسم في عالم اليوم – قبل الغد – شرط الخلق والإبداع والابتكار والصواب والمواءمة والنقد (المنهجي – النظري – الإجرائي…) والمبادرة والمباغتة وتنويع أشكال ودرجات النضال والصراع (…).

ولنتذكر – دون أدنى “فوضوية-  مدمرة نيهيلية”  Nihiliste – ماركس، فيما قاله: “لست ماركسيا”!، ولعله يعني بذلك – أولا وقبل كل شيء – أن لكل مجتمع – كالمغرب وغيره – لكل حقبة او معركة رجالها ونساؤها (أي رجالاتها وهم/ وهن من “ترَجّل”) ومناضلوها/ات ومفكروها(ات)، المنخرطون/ات في صيرورة ممارسة تاريخية طويلة ومعقدة المدة والأشكال والدرجات والاستمراريات والقطائع الضرورية.

إنها دعوة صريحة لكل روافد ذلك الفكر وتلك الممارسات إلى المساهمة – كل من موقعه وموقفه – في مشروع يساري جديد/ متجدد/ ومستجد، إن على مستوى التحليل النقدي أو الممارسة في الميادين. وهو – للعلم – أمر مؤسسات ومراكز ونضال وصراع، اكبر من أن يأخذه على عاتقه “باحث يتيم” أو “مكافح دانكشوطي مغمور”!.

ولعل من بين تلك المواقع/ المواقف، ما اصطلحنا عليه “الماركسية الخلاقة”، أو “المنفتحة” أو “الغير المتحجرة” أو “المستجدة”، الخ، وأردنا الدفع بما فيها أو بما تسمح به من خلق وتخصيب وإبداع، لأنها – في “المدخل” و”المصب” – لا يمكن تجاهلها – حتى من طرف من عارضوها أو انتقدوها أو خاصموها (…) من أبناء جلدتها أو من أعدائها (انظر فوكو ياما،…)؛ إذ ظلت تستفز نفسها – دون دوغمائية – قبل غيرها. ثم إن فصائل اليسار تجمعها “وحدة الأصل” ولربما “وحدة التطلعات”، بالرغم من تناثرها وتجزؤها وتفرقها (…). ويكفي أن نعتبر أنها تتطلع إلى “عالم أفضل” أو “أقل سوء”! إذ أن الجبهات الشعبية واتحادات المقاومة والتكتلات عبر التاريخ القريب أو البعيد (الجبهة – الكتلة الديموقراطية، تجمع اليسار الديمقراطي، فيدرالية اليسار الديموقراطي، حزب الخضر المغربي ومجموعة الثمانية التي شطبتها 20 فبراير…) ظلت للحسرة عابرة على العموم، ولعل القاعدة الحيوية هي التعارضات والصراعات والاختلافات بين قوى اليسار، بإيعاز من نفسها ومن النظام السائد.

وذلك لم يمنعها قط أن تشارك – كل من موقعه وموقفه – من تطعيم الفكر الاشتراكي – أوروبا القرن 19- الجناح الإصلاحي الاشتراكي/ المغربي مطلع الستينات للقرن 20، الخ – فيما دافع الشيوعيون – أينما كانوا (فرنسا، الحزب الشيوعي المغربي،…) عن “رابطة الأخوة بين الناس”، ما يمكن لذلك أن يخفيه من تهميش المصلحة الوطنية والطبقية (حالة المغرب تحت الاستعمار الفرنسي)، عن وعي أو عن سوءه. أما “الفكر التحرري” فدافع ولا زال على قيمة استقلالية الفرد والجماعات، في عالم تطغى عليه المجموعة/ القبيلة والإجماع القاتل (…)؟! وقد رأينا كيف انتقل اهتمام جزء من اليسار من مفهوم “الطبقة العاملة” الماركسي إلى مفاهيم مهمة راهنة أخرى، كـ”الطليعة” و”النخبة” و”الأنتلجنسيا” (عبد السلام الموذن، مصطفى بوعزيز،…).

لقد كانت الماركسية – صراحة- القلب الكبير – ملهمة الجميع: الاشتراكية الاجتماعية والإصلاحية منها، بل والشيوعية، بالذات، فكان فضلها مزدوجا: أولا “البرودونية”، فهي ملهمة “الاشتراكية اللامركزية”، والباكونينية ملهمة “التيارات التحررية”، عبر العالم؛ وثانيا: عبر فكر الأنوار/ التنوير، مع أعلام كبار مثل روسو وفولتير وديدرو (…) ومساهمة هذا الفكر النهضوي في بزوغ الثورة الفرنسية والاستقلالات الوطنية لدول الجنوب وأثره على مفكري النهضة العربية -المغربية، من أمثال محمد عبده وجورجي زيدان، والأخطل، والعروي والجابري(…) الخ.

ومن الممكن للجدل الموفور مثلا في كتاب “بؤس الفلسفة” لماركس – في نقاشه لطرح برودون – أن يسعف النقاش العلمي الدائر اليوم – بيننا – حول “المركزية والجهوية”، الخ، لتبيان الحدود الإيديولوجية التي تروم إليها دولة المخزن (الجهوية الموسعة، المتقدمة،…)، لكسب رهان الوحدة الترابية أساسا، وفي أقصى تقدير ولتقويض جهوية فعلية – تاريخية للأطونوميات – في باقي الجهات المغربية (الريف، الأطلس،…) وأن تغني مشاريع البحث العربي والمغربي – التنويري الجديد، لدى كل من الجابري والخطيبي والعروي، وغيرهم، الحوار الوطني – العربي والدولي، حول إشكالات الحداثة والديموقراطية، على وجه الخصوص (…)، وجدوى كل ذلك التسفيه – التحليلي -النقدي الذي يليق بتناقضات الرأسمالية – الامبريالية، لدى أجنحة اليسار التروتسكاوي – المغربي والدولي (…) (أطاك وغيرها…).

كل هؤلاء الممارسين والمفكرين – الأساس” مهمين لبلورة مشروع مجتمعي موحد مغربي واعد. لكنهم لا يستكفون اليوم – قبل الغد – لمجاراة تطورات وتقلبات وتحولات العالم والمغرب. ثم إننا أمام كم هائل من المعلومات الدقيقة والمعارف اللامحدودة، وجب إدماج بعضها البعض، للمواءمة الذكية مع تقلبات الكون والمحيط والتاريخ (…). وسيكون لإحياء وتجديد الفكر / العلم السياسي –أساسا- شأن عظيم في عملية التركيب والاستنهاض لقيم العصرنة والمواطنة الكاملة.

لقد لاحظ المفكر المعاصر موران إدغار أن عصرنا الكوكبي دخل منذ التسعينات في “وحدة تقنو-إقتصادية”، فإذا بها تجعل من الاقتصاد الرأسمالي العالمي مكوك مدفوع بسرعة جنونية من قبل أربع محركات منفلتة: العلم والتقنية والاقتصاد والربح. ونشير – مرورا – إلى أن الاقتصاد يمكن أن يكون بدون ربح(!)، ليس لأنه لا يدر فائضا، وإنما ينتج فائض قيمة يأخذ شكلا تاريخيا محددا، هو الربح والاحتكار(…). وهو ما يطرح مشكل التحفيز الاقتصادي وإشكالية التوزيع للقيمة المضافة، في آن.

إذ نعرف في الاقتصاد السياسي – النقدي أن مجموع الأرباح ما هي إلا مجموع فوائض القيمة. وهو ما يطرح صراحة إشكالية التوزيع الاجتماعي – الاقتصادي المرتبط بـ”الإنتاجية الحدية” أو – من منظور نقدي – المرتبط بالاستغلال والاستحواذ والاستيلاب، أي بتركيبة التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية، ومدى وحِدّة الصراع الطبقي والشرائحي داخلها، وتحت سيطرة النظام الرأسمالي العولمي/ التابع والمتخلف. ولهذا فـ”الربح” مقولة سيوسيو إقتصادية تاريخية، أي طبقية وليست مرتبطة “بالإنتاجية الفردية النيوكلاسيكية – النيوليبرالية لكل عنصر فاعل اقتصادي – تقني معزول عن العلاقات الاجتماعية السائدة والمسيطرة.

نفس النقاش يمكن أن يتم في علاقة التقنية أو التقدم التقني/ الرقمي بالعِلْم. فلم يكن يعلم مكتشف الذرة وانشطارها أنها ستوظف يوما لتدمير “هوريشيما”! ثم أن  ذلك التقدم التقني – الرقمي يمكنه أن يحسن من ظروف العموم ويخدم المصلحة العامة للشعب،  أو أن يخدم مصلحة نخبة أو وظيفة أو “نموكلاتورا”، أو عصابة ضدا على مصلحة الجمهور العريض من “المنتجين الفعليين”. وهو ما يجعل من المفهومين – العلم والتقنية – مفهومان تاريخيان، وليس مفهومان مجردان ومطلقان، وإنما مرتبطان بنمط إنتاج محدد وبدرجة تطور البشرية، جمعاء. وهو ما يضع الرأسمالية الكوكبية في نهاية المطاف في صعوبة لضبط المحركات الأربعة للسفينة/ العَبَّارة الكونية، بل وضرورة تغيير مجراها – قبل فوات الأوان/ “الدمار الشامل”!، لصالح الشعب والإنسانية والكون، برمتهم!

على طول عمر المفكر موران إدغار يلاحظ “التراجع التاريخي” الذي لحق بأوروبا، والعالم، على كامل الأصعدة: (انهيار الشيوعية السوفياتية، صعود الديانات والقوميات والتعصب العرقي…، التطلّع إلى نمط الاستهلاك الغربي ودرجة الصفر لأفكار وأحزاب اليسار في الديموقراطيات الشعبية، سابقا، الحنين إلى ضمانات العهد السوفياتي، الحقد اتجاه روسيا (…)، عجز التمثيل الحزبي والنقابي للحفاظ على المكتسبات الاجتماعية، ولرفع التحديات المعاصرة (…)، “لا – يقين” الأحزاب الراديكالية، اختفاء ما كان يعرف بـ “شعب اليسار” وتدهور الأفكار الإنسية والتحررية، انتقال قيم كره الأجنبي إلى صف العمال وانتقال دول/ بلدان كانت سابقا معروفة بالفكر التحرري، كفرنسا وإيطاليا وهولندا وألمانيا، الخ، إلى بلدان شوفينية – قومية ورجعية (…)، مما سمح بصعود ألوان من اليمين، ومنه اليمين المتطرف! والإسلام السياسي الماضوي.

كل هذا وذاك يستدعي المقاومة وإحياء الفكر السياسي – العلم – الأساس – والمعاصر، خصوصا. ومما خلص إليه إدغار موران أن الطريق الجديد يتطلب “تحولا عميقا للإنسانية”، وأن المسالك الإصلاحية الممكنة – المتضامنة والمترابطة – هي التي ستجمع بين التقدمية والإصلاحية، دون أن ينسى “راديكالية الثورة”، ضدا على تقوقع أغلب البنيات الحزبية المتواجدة حاليا، في بلادنا.

كما أن عملية تحلل هذه الهياكل المتحجرة يمر عبر إدماج التحررية والاشتراكية والشيوعية، وكذا “البيئية”، وكأني بـإدغار موران يُنَظّر لحركة “فرنسا – الأبية” أو لمحاولات إعادة بناء اليسارات اليوم – عبر العالم… (الفيدراليات – الكونفدراليات…)، الخ.

الواقع أن اليسار “يسارات” وأن “المفهوم معقد” – في “الأصل” و”المصب”- وليس اختزاليا أو ميكانيكيا (…)! وان مشروع “اليسار البديل”، اليوم- يمر عبر استنهاض يسار كامن (ص.م، 2022)، وتركيب خلاق لروافد الممارسة/ الأفكار اليسارية المتشظية، ونسج دوائر متدرجة ومتعددة ومختلفة المستويات للتحالفات وللبرامج وللاستراتيجيات وللتكتيكات السياسية (الديموقراطية التمثيلية منها والتشاركية، وإحياء الفكر السياسي النقدي، وإنعاش الجامعات الشعبية ومراكز ومعاهد ومدارس التكوين السياسي للأحزاب، واعتبار القيم الأخلاقية – المدنية – المهنية (…) من أجل مغرب أفضل/ عالم أفضل أو لنقل، “عالم اقل سوء”! (المقاومة والتفاؤل) !

ويمكن أن نتساءل، اليوم، بعد انفراط عقد الفيدرالية الديموقراطية لليسار، على سبيل المثال لا الحصر، فيما يعتبر ذلك دليلا ساطعا على تحجر الهياكل الحزبوية اليسارية في المغرب، فضلا عن ترهل وتقهقر وإنهاك أحزاب اليسار التقليدي (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية…)، خصوصا، وتطرف اليسار الراديكالي (حزب النهج الديموقراطي…)؟

لكن هل من قدر حزب قليل العدد والأطر ونوعي الطرح السياسي، كحزب الاشتراكي الموحد، أن يكون جامعا مانعا محتضنا لكل ألوان الطيف اليساري الديموقراطي، مُركبا – في الممارسة السياسية – لرؤى/ تيارات مناضلة متضامنة ومترابطة ومختلفة (اليسار الإيكولوجي، اليسار الديموقراطي…)، يجمعها البرنامج / الأفق السياسي الاستراتيجي المواطن؟

أن “الاختلاف حد القطيعة” – النظرية والسياسية – بمكان – لا يسمح بـ”أدنى – برنامج شعبي” بين القوى المتخاذلة للحركة الوطنية تلك، وتبعاتها (المؤتمر الاتحادي، الوفاء الديموقراطي، الطليعة الديموقراطي – الاشتراكي…) المجتمعة و”المعلقة” و”المتحورة” –اليوم- في إطار “تحالف اليسار الديموقراطي” (وليس فدرالية اليسار الديموقراطي)، دون أن ترجع إلى “جينها الأصلي” (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية…) من جهة، ومن جهة أخرى، اليسار الجديد والمتجدد” المرتبط عضويا بديناميات الصراع الطبقي – المغربي والعولمي المعاصر (التنسيقيات الفئوية والشعبية والمناطقية والأجنحة الجذرية داخل البنيات الحزبية الوطنية – الديموقراطية، الحركات التحررية بأمريكا اللاتينية وحركات اليسار بإسبانيا واليونان (بوديموس، سيريزا،…) وغيرها، في إفريقيا وآسيا والمغارب؟!

نفترض أن صنافة إدغار موران صنافة “أكثر شمولا”، بل ويمكن اعتبارها “مشروعا جاهزا لليسار”، على الأقل” الأوروبي منه، على شاكلة الاتحاد الشعبي الإيكولوجي – الاجتماعي الجديد بزعامة ميلونشون. وإذا كان أكثر ما يغيض خ.أ هو الاقتباس والبسترة “والفاست فود” في التعامل مع الحقائق التاريخية – السياسية، ثم دعوته الصريحة إلى اعتماد قراءات “غير جاهزة” تستمد شرعيتها من تاريخ وواقع اليسار المغربي الواعد.

وهو لما يؤشر على التطور التكنولوجي الهائل/ الثورة الرقمية بـP.C، فإنه لا يغيّب اندراج ذلك ضمن علاقات اجتماعية محددة في العالم وفي المغرب، أي ضمن علاقات الاستحواذ والاستغلال والاستبداد والتحكم والتمكين، الخ، مع ما يرتبط بـذلك –جدليا- من إمكانيات الانفتاح وآفاق الحرية والانعتاق والتغيير الديمقراطي الممكن والأقل كلفة ممكنة.

إن تصوره لليسار المغربي لا يمكنه أن ينفي انفتاحه على الخُضْر، مثلا، بالرغم من أنه اخذ المسافة الكافية من “راديكالية الثورة” و”الاختيار الثوري” دون أن يسقطه في “يسار الكافيار” / “أوطيل حسان”، ويدفعه للبحث في نجاعة فرضية “اشتراكية القرن 21″، وأن يرى في إمكانية رجوع اليسار في أمريكا اللاتينية فعلا حسنا (2022). وللحقيقة أن يساريون آخرون يجدون في هذا النموذج تحريفاً وفشلا، ذلك أن هناك من اعتبر اشتراكية القرن 21 طريقا معاديا للشيوعية:

إن معاداة الشيوعية الحديثة تنتقد الرأسمالية، لكنها في نفس الوقت تشوّه النضال من أجل مجتمع اشتراكي ومن أجل مُثل الشيوعية وتجعل هذا النضال ميؤوسا منه. إنها تستغل بشكل ديماغوجي التجربة السليبة للجماهير مع خيانة الاشتراكية والرأسمالية البيروقراطية المستعادة في البلدان الاشتراكية سابقاً (انظر ستيفان إنجل (2021)، الإيديولوجية البرجوازية…، نقله إلى العربية أديب عبد السلام). ومن الممكن أن نجد موطئ قدم لهذا النظر لدى قوى سياسية يسارية مغربية بالضبط (النهج الديمقراطي العمالي،…).

والحال أن وحدة المصير/الأفق الاستراتيجي تتطلب تذييل العداوات والكثير من سوء الفهم والتقدير لتحديات الآن وغداً (البيئية – الاجتماعية – الأخوة،… الخ). ولن تصل تيارات الفكر والممارسة الماركسية – الأصل إلى نقاط إلتقاء عملية دون حوار عقلاني وجدي بين مكوناتها، يؤمن بالاختلاف حول “أطروحات مواطنة،” وليس حول أشخاص وزعامات وشيوخ!

فقليلا ما يجرؤ، اليوم، بعض الأفراد والمنظمات والدول (…) موصول الإدعاء على أنهم ذوو مرجعية “ماركسية” صرفة، أو ذوو مسحة “ما” منها، ليكتفوا باعتبارهم “إصلاحيين” أو “تحرريين” أو “اشتراكيين – اجتماعيين – إصلاحيين”، الخ، إلا أن يعلنوا -صراحة- على أنهم “شيوعيون” مثلا. وكثيرا ما تجمع سلة “السوسيو-اقتصاديين – السياسيين” كل ألوان طيف الفكر/ الممارسة النقدية، عموما. ولعل الأسباب العميقة لذلك تتمثل في هيمنة الاقتصاد الليبرالي، وتطلع العموم إلى نمط الاستهلاك الغربي، وتحرر أمم من طوق النظام الشمولي – الروسي مثلا– ممزوج بصعود القوميات، هنا وهناك، على أساس أصولي- ديني وعرقي وعنصري وكره للأجنبي (…) (إدغار موران 2022).

يتبع

ذ. عبد الواحد حمزة

سوسيو– اقتصادي 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى