وجهة نظر

أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(33):حسن النية أكيد موجود لكن الأعطاب تفقأ العين

مسبقا، ليس لأحزاب الإدارة، (1977- 2009)، ولا لأحزاب الحركة الوطنية تقاليد نقاش علني بصدد الأعطاب الداخلية. مقابل ذلك، تقاليد الطرد الجماعي مألوفة بين أحزاب الحركة الوطنية، أما أحزاب الإدارة، فعندما يتململ بعض المختلفين مع القيادة الرسمية يكفي القيادة أن تراجع أولي الأمر، لتتيقن من أن الهمز واللمز رسالة ضمنية رسمية أو مجرد تنطع ذاتي تلقائي لتحسم الأمر مع المعنيين. علما أن الترحال كان عملة رائجة من باب “ديانّا فديانّا” وكفى المومنين شرّ القتال.

بينما تتصرف الحركات اليسارية عادة بتقليد الشفافية المضادة لكل تعتيم طارئ. حتى يتبيّن الخيط الناظم. وذلك، بهدف عدم ترك الحبل على الغارب. أفرزت هذه الظاهرة الانشقاقات إذا ردّت القيادة بالتجاهل، ثم ما لبث اليسار أن ردّ بالحل الطيّع الذي تجلى في الاشتغال بالتيارات. إذ توارت الانشقاقات منذ 2002، اللهم ما كان من حكمة “تبدال المنازل راحة” في “أرض الله الواسعة”.

غير أن ظاهرة التحالفات داخل صفوف اليسار المعارض جرت ضمن فهم واحد وحيد هو التمرّن على التقارب في المواقف عبر البيانات المشتركة في انتظار الاندماج التام في حزب واحد. وهذا هو الوهم الذي غذى تجربة فيدرالية اليسار الديمقراطي السابقة.

ولأن عقد التحالف على طريق الاندماج انشغل بالترتيبات التنظيمية على المسافة الوحيدة بين نقطة (أ) نحو نقطة (ب)، أي من التحالف نحو الاندماج، ولأن القادة جعلوا من هذا السير بين النقطتين (أ) و(ب)، الهدف الوحيد، فقد نسوا أن الأهم بينهم جميعا هو البرنامج المشترك الحد الأدنى، الصحراء والدستور والانتخابات، في حالة الفيدرالية السابقة.

مما أسقط الأطراف جميعا في الانقلاب داخل بئر الصراع الذاتي المدمّر. وغلبت الذاتية بين القادة، وعبأوا القواعد للمشاركة في مأتم دفن رصيد التحالف السابق. فأصبح أقرب الناس إلى بعضهم في الأمس القريب إلى أعدى الأعداء اليوم. تورمت الذاتية وعمت على جميع الأصعدة، إلى درجة الحيرة والتناقض وفقدان البوصلة عند الوصول الى نقطة التحالفات.

ومن نتائج الغرق في وهم الأمس، الذي كان يقضي السعي بسرعة نحو الاندماج “لقلب موازين القوى” (ههه)، الغرق اليوم في بئر الانعزالية التي لم تعد تتخيل أية إمكانية للتحالف. علما أن التحالف ليس سوى حالة متينة من العلاقات العامة الواسعة والتي تصلح في جميع الحالات لخدمة هدف حسب المدى الزمني الذي يحتاج إليه تحقيق الهدف.

الجلوس أمام الطاولة وفتح خريطة الأحزاب والنقابات والجمعيات والشخصيات الوازنة، لا ترافقه في الدماغ مصلحة تحقيق الهدف المحدّد في زمن محدّد، بل يسبقه مزاج نفي إمكانية ائتلاف طيف واسع لتقوية مناعة المطلب المعني بتحقيق الهدف.

ومن هنا، يظل اليساريون يردّدون في الكلام المجرد (العروض السياسية النظرية) التعريف المتداول للسياسة كونها “فنّ الممكن”، لكن جذريتهم اللفظية وعنادهم المزاجي ينزلق بهم الى زاوية حادة في ظلمة الانعزالية مستندين الى وهم خط الجماهير. علما أن خط الجماهير ليس قط خطا أبيض مستقيما واضحا، بل لا يمكن ضم الجماهير سوى عندما تطمئن الجماهير نفسها كون المطلب/الهدف لا تجعل منه الأحزاب الأخرى خطا أحمر يتنافى مع خطها السياسي. فيسقط اليساريون في ثنائية تقديس “الجماهير” وتدنيس من ليس منهم في صفوفهم هم كيساريين معارضين لفظيا ودوما وبإصرار الأورثوذوكسية المذهبية الجوفاء أو ببلادة الهواة في السياسة. والجماهير نفسها من الذكاء بحيث تراكم النقط (القوة والضعف) فقبل أن تساند أو تهمل أية قضية.

يمكث اليساريون “الجذريون” في زاويتهم الحادّة بين تقديس أنفسهم وتدنيس من سواهم. حتى تمر عشرية زمنية لنجد العديد منهم من نسيه الناس لأنه توارى بالتدريج حتى أصبح من القوم الذين “يلعنون السياسيين والروس واليابانيين والناس أجمعين”.

ساعتها تنطبق عليهم حكمة المغاربة “قليل ومداوم ولا كثير ومقطوع” ليكونوا وقد اختاروا بداية “الكثير المقطوع” قد باتوا في خبر كان من حيث لا يشعرون. وبالمناسبة، ولأن العقلانية في السياسة تغيب عن همومهم، يميلون في الممارسة إلى العقلية الاستثمارية فيراكمون الألقاب والنياشين. ويوم يصيبهم التعب، لا يفتؤون يُذَكّرُونَ الناسَ لا بما أصبحوا عليه من عطالة، بل بكونهم معتقلين سابقين، أو أعضاء سابقين في قيادة حزب عتيد ما. تلك عقلية برجوازية في الأصل تركن إلى ما ادخرت من ألقاب ثم تنام في عسل الاستقالة. ويزيدون فوق ركام الوقت الحالي الميت نكهة سلفية عند الحديث في المقاهي عن “الزمن الجميل” في السياسة. كأن أجيال اليوم لا ضمير لها ولا تضحية ولا استقامة ولا استماتة في الدفاع عن جماهير اليوم. وهذه النبرة السلفية بصدد “الزمن الجميل” تكشف وصاية مضمرة على الأجيال الشابة المناضلة.

علما أن قانون التطور يسري على كل الكائنات والأجيال ليجعل الأجيال الموالية أكثر خبرة ودهاء وحنكة من الأجيال السابقة. فالأبوية والوصاية المضمرتين تجعلان البصيرة غائبة. والأصل في ذلك، “التعالي” الوهمي عن انشغالات الأجيال الحالية. وهو ما يصم الآذان ويعمي الأبصار ويجعل البصيرة السابقة متآكلة ومنتهية الصلاحية في الزمن الحي الراهن.

تقليد اعتلاء مواقع القيادة ومراكز القرار يكلس أصحابه عندما لا يرون لأنفسهم قيمة إلا من خلال تلك المواقع.

حتى وهم يدافعون عن كبار القادة في تجارب الشعوب الأخرى، لا يستوعبون الثابت والمتحول في الدروس التي تركها أولئك القادة الأجانب. بل يحوّلون علاقتهم بأولئك القادة الأجانب إلى مريدي ديانة يحتل فيها القادة الأجانب موقع الأنبياء المعصومين من الخطأ. وأمثلة ماركس، لينين، ستالين، ماو، كاسترو، كما يفعل الأصوليون تماما مع ابن تيمية وحسن البنا ومحمد بن عبد الوهاب، أصبحت أمثلة مضحكة مبكية.

هذه الأشكال من التكلس في الدماغ، تسري لحظة الحديث حول قضية التحالفات، ولأن التقليد الجديد رفقة السوسيال/ميديا، أضاف الجهل بمواقف الأحزاب الأخرى التي تنشر بالتتابع في جرائدها اليومية، الورقية ثم الالكترونية، مما جعل مخيلة البحث عن التكتيك للعمل المشترك الجزئي هنا وهناك قضية منسية ومنتهية وغائبة تماما عن “فنّ الممكن”: السياسة.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى