وجهة نظر

ذ.عبدالاله ابعيصيص :في تدبير المسافة بين الباحث والفاعل..

في أسباب النزول، بداية لابد أن اعترف ان سبب النزول الأول ولربما الأوحد لهذا الكلام هو اكتشافي -متأخرا طبعا- لفشلي الذريع على هذا المستوى، أقصد تدبير المسافة بين الفاعل والباحث. سيلاحظ القارئ المتمعن أن ترتيب اللفظتين مختلف بين العنوان والمتن وهو ترتيب متعمد في الحالتين. فالباحث في العنوان سابق عن الفاعل بحكم الأفضلية المعرفية التي يحوزها الباحث عن الفاعل. أما في المتن فالترتيب خضع لاعتباري أن الأصل في  الفاعلأنه سابق عن الباحث كما لو أن الامر متعلق بحالة الطبيعة وحالة الثقافة، لا أريد أن يتيه الامر بعيدا عن غاية المقال ويبتعد، لذلك أؤكد أن الموضوع يتعلق فقط بما هو واضح في العنوان أي تفصيل المقال فيما بين الباحث والفاعل من اتصال أو انفصال.

فما المقصود بالباحث وما المقصود بالفاعل؟ باختصار شديد اقصد بالفاعل ذاك الانسان الواعي المنخرط في البحث عن حلول لمعضلات الشأن العام سواء من داخل الدولة أو من خارجها وسواء من داخل النسق العام أو من خارجه. المهم أن يكون منشغلا بالفعل وليس بالقول بالشأن العام. قد يكون مسؤولا في دواليب الدولة أو إحدى مؤسساتها. معينة كانت أو منتخبة ،وقد يكون فاعلا اقتصاديا منتجا للثروة ومساهما في تحقيق الرفاه وليس محتكرا لها. لأننا في هذه الحالة لن نكون إزاء فاعل بل سنكون في واحدة من أقبح حالات الفعل وهي الاحتكار. احتكار الفعل المنتج للثورة والفعل المنتج للسياسة وكما هو معلوم إذا اجتمعت السلطة (السياسة) والمال فسدا معا ولا حاجة الآن للتفصيل أكثر. وقد يكون الفاعل مناضلا في صفوف حزب أو تنظيم سياسي أو جمعوي.  فالفاعل حسب هذا المعنى هو الباحث عن حلول واقتراحها كسياسات عمومية أو مشاريع مدرة للدخل لا مضرة للجيب، تستجيب لاحتياجات عامة الناس وخاصتهم. إذا كان في موقع المسؤولية السياسية أو الاقتصادية، أو اقتراح البدائل والبرامج الفضلى إذا كان في موقع آخر غير موقع المسؤولية التدبيرية. فأعضاء الحكومة ونواب البرلمان ورجال السلطة والمنتخبون الجهويون والاقليميون والمحليون فاعلون ومعهم ارباب المصانع والشركات والمقاولات والمشاريع المنتجة للثروة والشغل، لهم كل الاهلية لاقتراح سياسات عمومية تستجيب لاحتياجات الناس. ولربما هذا هو شغلهم الشاغل. أما المناضلون و قادة الأحزاب ورؤساء التنظيمات السياسية والمنتمون لهذه الأحزاب وهذه التنظيمات يحوزون صفة الفاعلين إذا كانوا فعلا قادرين على اقتراح البدائل لسياسات الفاعلين من داخل المؤسسات بدائل معقولة ومقبولة وقابلة للتفعيل وليس مجرد لغو وانشاء، لأن الملاحظ أن الفاعلين من داخل المؤسسات غالبا أقول غالبا ما يتسلحون بمعلومات تؤهلهم لاقتراح سياسات أقرب الى الواقعية من تلك التي يقترحها الفاعلون من خارج المؤسسات، ربما بسبب الخصاص المعرفي المرتبط بنقص المعلومات إضافة إلى أسباب أخرى كثيرة كنقص الخبرة وغياب القدرة . دور الفاعل واضح ومهمته كذلك، وهو في سبيل ذلك يتسلح بالمعلومات المتوافرة لديه والأدوات الموضوعة رهن اشارته من مثل الإدارات والوسائل العمومية والمصالح وكل ما يساعده على القيام بهذه المهمة، ولأن التدبير يخول امتيازات فإن الامر لا يخلو من تضارب للمصالح مما يجعل الاتفاق عن كل السياسات أمر غاية في التعقيد لذلك نجد الساسة من الجانبين يلجؤون الى التبرير. تبرير التدبير على نحو ما، كما نجد المعارضين يلجؤون الى نقد السياسات ونقض التبرير. فالتبرير من الجانبين. يستعملون في ذلك اللغة وحدها. اللغة للتبريرقد تكون مسنودة بوقائع أو مبررة بأرقام لكنها تبقى لغة مجرد لغة. هنا يظهر دور الباحث.

أما الباحث فهو الذي يعمل عن تفسير فعل الفاعلين. قد يفسر الوقائع ويؤول الأرقام قد يبحث عن الوجه غير المعلن للسياسات إنه من ينزع السحر عن لغة الفاعلين من الجانبين. الباحث هو من ينزع حجاب الستر الذي يلف فعل الفاعلين ونقذ المنتقدين هو من يكشف الحبر السري الذي يخفي حقيقة (الحقيقة النسبية طبعا) السياسات وتبريرات الفاعلين هو من يفكك لغة المعارضين. إن وظيفة الباحث هي ليس أن يبرر مع هذا الطرف أو ذاك فعله
أو قوله بل إن وظيفته التي تليق به كباحث/باحث وليس باحث/فاعل هي أن ينزع السحر الذي يغلف السياسة كفعل والسياسة كلغة للتبريروالسياسة كنقد للسياسة. ابتلينا في حاضرنا بمن يحوزون صفة الباحث ولا يقومون بما يفترض أنها مهمة الباحث وهي نزع السحر عن سحرة السياسة بل استكانوا لمهمة التبرير، تبرير فعل الفاعلين من الجانبين. الفاعلين من موقع التدبير والفاعلين من موقع المعارضة. أو كما سماهم أحد المتفكهين “التبريريون الجدد”.

هذا مربط الفرس هل/كيف يمكن لفاعل وباحث في آن ان يكون فاعلا وباحثا في نفس اللحظة؟

كيف يمكن تدبير المسافة الفاصلة بين الاثنين؟ هذا هو ماعانته بصيغة أخرى العلوم الإنسانية عندما وجدت نفسها محاصرة بالسؤال الكبير كيف يمكن فصل الذات عن الموضوع؟

يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى