وجهة نظر

أحمد الخمسي في قلب الأوضاع(34):العلاقات المغاربية في السياق الدولي منذ الثورة الأمريكية

العلاقات المغاربية في السياق الدولي منذ الثورة الأمريكية

أربعة أمثلة:1) الموقف من الاستراتيجيات والتحولات الكبرى ومدى القدرة على التقاط ذلك من طرف أنظمة المغرب الكبير، 2) في التنافس التجاري وصراع المصالح. 3)  في المسألة الترابية..4) مدى الاندماج في فرنسا والفرنكوفونية من طرف القادة والرموز،

***

في التقاط التحولات الاستراتيجية

من يتابع العلاقات المغربية/المغاربية، خصوصا المغربية الجزائرية، يلاحظ أن الأصل في المشاكل المتواترة والتي لم تتوقف منذ استقلال الجزائر، أن الجزء الأعمق في الاختلاف في السياسة الدولية، أن البلدين كان للسلطة فيهما تقدير مختلف لما نتج عن الثورة الفرنسية نهاية القرن 18. بل منذ الثورة الأمريكية سنة 1776.

قبل الثورتين، كان البلدان ينهجان نفس السياسة تجاه الغرب، عبر فرض ضريبة على البلدان الغربية مقابل سلامة مرور السفن الغربية في مياه البحر الأبيض المتوسط. لكن السنة التي تمّ فيها الإعلان عن استقلال الولايات المتحدة (1776)، أبرم المغرب اتفاقية مع أمريكا على عدم استرقاق الأسرى من البلدين. كانت الاتفاقية المذكورة خطوة أولى لاغتراف المغرب باستقلال الولايات المتحدة عن قوة عظمى ساعتها: انجلترا، وهو موقف مغربي جرئ تجاه انجلترا. وموقف استشرافي لقوة سيصبح لها وزنها المتصاعد في العالم كله.

لم تتمكن سلطات الجزائر من التقاط الخيط الرفيع الذي يمثل المنار لإضاءة مستقبل الأوضاع العالمية. وبقيت الجزائر تفرض الضرائب على فرنسا وانجلترا وأمريكا بالصدد المذكور أعلاه. إلى أن اتخذت فرنسا من ذلك تبريرا لإقناع الرأي العام الغربي كله، بضرورة احتلال الجزائر قصد تغيير ظروف الملاحة التجارية في البحر الأبيض المتوسط.

كوننا اليوم، نقتنع جميعا أن الغرب اتخذ قرارا استراتيجيا بانشاء كيان غربي دائم في شرق المتوسط كي يلعب دور حارس المصالح الغربية، يوجب علينا الرجوع إلى السياسة المحلية التي ساعدت الغرب على توحيد مواقف بلدانه بصدد الكيان حارس المصالح الغربية.

غفلت الأنظمة المحلية (الجزائر وطرابلس خصوصا) عن استيعاب تغير الأوضاع كما سبق ذكره من الثورات بدل النظام القديم في الغرب. واستغل الغرب الكراهية العنيفة في أوربا الشرقية وروسيا ضد مواطنيهم اليهود. وكان أثر التنوير الذي شع وسط المجتمع الأوربي، أن لحق الطوائف اليهودية نفسها. فانقسم الرأي العام اليهودي في أوربا بين التوجه يسارا في أوربا الشرقية وروسيا، تحت عنوان حزب البوند. بينما تفتق التنوير بين يهود أوربا الغربية عن ميلاد الحركة الصهيونية اليمينية.

وخلال أواخر القرن 19 وبداية القرن 20، استفحل الصراع بين اليسار اليهودي الذي كان يرى في المسألة اليهودية بأوربا قضية طبقية، في حين رأت النخب اليهودية الغربية في المسألة الحل القومي، تبعا لاتفاقيات ويستفالياالتي أنشأت الدولة القومية كحل للصراع الديني في المجتمعات الأوربية.

وخلال الحرب العالمية الأولى اتجهت انجلترا لتعميق الشقاق داخل الأقاليم العثمانية إلى تشجيع حركيتين قوميتين: أبرزت أولا ما سمي بالثورة العربية سنة 1916، ثم استتبعتها بالوطن القومي لليهود سنة 1917 تحت عنوان: وعد بلفور.

وبعد ثلاثين سنة 1947، وسعت انجلترا دائرة الاقناع إلى جميع مسلمي العالم العالم، بتقسيم الهند وخلق باكستان، ليسكتوا ويبلعوا ألسنتهم عند تقسيم فلسطين بعد ذلك بثلاثة أشهر فقط.

***

في التنافس التجاري والاقتصادي

في منتصف يوليوز 1928، كتبت الجريدة الفرنسية “الأرض المغربية”(العدد 11) التي كانت تصدر بالدار البيضاء، افتتاحية حول انقلاب ميزان القوى التجاري في العالم في مادة الفوسفاط خلال السنوات الأربع الأخيرة (1924-1928). انتقلت القيمة التجارية من صفر (1924) إلى مليون ومئتي ألف طن (1928).

كانت فرنسا، من قبل، تنتزع موقعها في سوق الفوسفاط، بفضل منتوج الجزائر وتونس. لكن عنصر التفوق في فوسفاط المغرب، كون مناجمه لا تحتاج إلى الحفر عميقا، كما أنه يستخرج عبارة عن تربة، بينما يستخرج الفوسفاط الأمريكي في شكل صخري يقتضي الطحن قبل الشحن. كما أن نسبة الفوسفاط المغربي، تصل إلى 75 في المئة (22 في المئة تربة غير فوسفاطية) صالحة للاستعمال دون أي إعداد مسبق، في حين تنخفض نسبة التربة الفوسفاطية في تونس والجزائر إلى أقل من ذلك بنسبة 10 في المئة. يستخلص من هذه المميزات أن كلفة الفوسفاط المغربي أقل، وبالتالي منافسته في السوق العالمي أقوى. وهو ما تضرر منه الفوسفاط الأمريكي (في ولاية فلوريدا) نفسه على الصعيد التجاري.

ولكي يختبئ المعمرون الفرنسيون في الجزائر وتونس وراء الفوسفاط المغربي لمنافسة الفوسفاط الأمريكي اقترحوا توحيد المقاولة المسؤولة عن التسويق العالمي. علما أن مناظرة جرت من قبل على صعيد معمري شمال افريقيا لم تضع الفوسفاط ضمن جدول أعمالها، تقول افتتاحية La Terre Marocaine.

تطرح الافتتاحية في فقراتها الأخيرة، إشكالية القوة المنافسة للفوسفاط المغربي، مقابل فوسفاط تونس والجزائر. لكن الافتتاحية لا تنس وصف المغرب كونه بلد الحكمة والابتعاد عن الشعارات..مما يجعله متقبلا احتمال الاحتفاظ بفوسفاطه دون تسويق، حتى لا يتسبب في المشاكل التجارية للبلدين الجارين، غير أن اتباع هذا المنحى سيفتح الباب للمنتوج الأجنبي (يفهم منه الأمريكي) للسيطرة على السوق.

من يقرأ بتمعن أعداد الجريدة الفرنسية المذكورة، يستخلص أنها ناطقة باسم معمري القطاع الخاص الفرنسي، يتوقف كل عدد (22 عددا من سنة 1928 إلى سنة 1930)، عند قطاع إنتاجي من القطاعات الاقتصادية، الفلاحية في الأغلب. ويغلب على الجريدة هاجس التسويق. مما يفسر كثرة صفحات الإشهار ومن خلاله التعريف بفروع الشركات الفرنسية والغربية المقيمة ساعتها في المغرب.

لكن حجب الأعداد العشرة الأولى التي صدرت ما بين حسم حرب الريف سنة 1926، والعدد الحادي عشر الذي يوجد كأول عدد في الأرشيف المنشور، يرجع ربما للصبغة السياسية التي غلبت على الأعداد المحجوبة. بينما توقفت الجريدة سنة 1930، بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية التي انطلقت سنة 1929.

لا ندري ما إذا كانت توقفت نهائيا أم أن تأثير الأزمة العالمية على مضامينها دفع سلطات الأرشيف إلى حجب ما تلا عددَيْ سنة 1930؟؟؟

في جميع الأحوال، نرى أن الجريدة الفرنسية (أرض المغرب)، صدرت بعد تحول ميزان القوى العسكري السياسي إثر نهاية المقاومة الريفية (1927). ثم توقفت (الغالب أنها توقفت) بعد انتشارالأزمة الاقتصادية العالمية (1929-1930). كان صدورها بمثابة قوس فُتِحَ ثم أُغلِقَ، لأسباب سياسية “ملائمة” سبقته، ثم لأسباب اقتصادية غير ملائمة لحقته. هذه النقطة الأخيرة محورها الفوسفاط المسكوت عنه.

***

في المسألة الترابية

من هذه الزاوية يكاد يتطابق وضع جبل طارق مع وضع سبتة ومليلية، من حيث تقدير موازين القوى من طرف الدولة ذات الامتداد الترابي الجغرافي (اسبانيا والمغرب). فاسبانيا التي تعتبر المدينتين جزءا من وحدتها الترابية، لم ينفعها الاتحاد الاوربي في استرجاع جبل طارق. بحيث أصبحت وحدة النظام السياسي أو سلطة السيادة السياسية أولوية في السياسة الخارجية للدولة الواحدة ما دام الجزء غير حيوي أو حيوي في فعالية المشاركة السياسية العالمية بل والاصطفاف العالمي للدولة المعنية بالسيادة. والأمثلة عديدة عبر العالم: قريبا: أوليفيزيا البرتغالية، جبل طارق الاسباني، سبتة ومليلية المغربيتين، وبعيدا:غوانتانامو الكوبية…قناة باناما..أو يترك لتحول موازين القوى جزئيا (سيناء المصرية منزوعة السلاح) أو جذريا: قناة السويس المصرية سابقا وما سوف يأتي لاحقا مع الصين(طايوان: دولة ونظامين)…

العقل الاقتصادويوالطبقويوالسياسوي لليسار لا يتعب نفسه مع القضايا الشائكة. لذلك لم يحاسب اليساريون لينين عندما أبرم اتفاقية السلم بريستليطوفسك مع ألمانيا الامبريالية، ومقابل ذلك، حل الجمعية التأسيسية لينفرد البلاشفة بالسلطة تحت شعار “دكتاتورية البروليتاريا”. وبموجبها أعدمت السلطة السوفياتية القادة البلاشفة أنفسهم، رفاق لينين، من أمثال زينوفييف.

ففي المسألة الترابية لم ينجز اليسار رؤية أشمل مما تركته الحركة الوطنية. لذلك، لا ينظر إلى نماذج الوضع الدولي. بل يميل ما بين الشوفينية والانفصالية.

كتبت الصحف الأجنبية سنة 1979، أن المغرب كان في إمكانه توجيه ضربة موجعة للجيش الجزائري بعد معركة بئر انزران، لكن تقدير التعقيدات الدولية تركت الأمر للزمن وللأمم المتحدة في متابعة فقرات استرجاع الاقاليم الجنوبية، يكاد الأمر يشبه عدم إقدام عبد الكريم الخطابي على دخول مليلية بعد سنة 1921. وعدم حضوره مؤتمري الاعداد للخلافة في مصر والسعودية سنتي 1925 و1926… فللمغاربة وعي استراتيجي بالتراكم عبر ألفي سنة من موجات تأسيس الدولة….كيفما كانت مسافتهم من الحكم المركزي المحلي. في محوره أو هامشه…

***

مدى الاندماج مع فرنسا والفرنكوفونية من طرف القادة والرموز

سلاسة موقف المغرب تجاه السياسة الغربية هي التي أنتجت أن المغرب بين بلدان شمال افريقيا من بقي فيه الاستعمار المباشر أقل مدة. بينما مكث في الجزائر ثلاثة المدة وفي تونس مكث ضعف ما مكث في المغرب. ثم قضية لم يتحدث عنها الرأي العام قط، هي أن رمز المقاومة الجزائرية في الأخير أصبح فرنسيا، في حدود الحقوق التي منحتها للجزائريين المسلمين، باعتبارهم رعايا فرنسيين، لا حق لهم في الترشح ولا حتى في التصويت، ولا ينطبق عليهم مصطلح المواطنين، بل السكان الأهليين (indigènes). بل تم تهييء بحث “علمي” باسم الأمير عبد القادر ليصبح عضوا في المؤسسات العلمية الفرنسية لدمجه تحت السقف الفرنسي. كل هذا لم تتمكن فرنسا من فرضه على زعيم مقاومة الريف. وهي المفارقة التي يشعر بها المتقفون الجزائريون.

واليوم، عندما ترى فرنسا أن اسم عبد الكريم الخطابي على السدود والشوارع والمؤسسات التعليمية، تستخلص أن الشق العمودي للدولة في المغرب لم ينجح، وأن الدولة في المغرب لم تسقط في الفخ الاستعماري.

ومهما لاحظنا الغزو الفرنكوفوني للمغرب، فالمتتبع لهذا المعيار يلاحظ أن المغاربة أقل تأثّرا بالفرنكوفونية من تونس والجزائر، وهو ما يوفر التوازن بين الذاتي والمؤثرات السلبية الخارجية عموما.

هذا الاختلاف يعود جذره إلى روح الاستقلال الذي تبناها المغاربة منذ اجتياح الخلافة العثمانية لشمال افريقيا خلال القرن 16. مما حذا بالدولة في المغرب الى الاعتماد على قواها الذاتية لتلافي السيطرة الاستعمارية مبكرا، سواء جاءت باسم الأخوة في الدين. أو باسم العداوة في الدين. بأحد المعاني، نهجت الدولة سياسية عقلانية (نفحة “علمانية”) كمسمى تجريبي نافع دونما حاجة الى اسم متحجر مانع.

لا شيء في المغرب منعزل عما دار في العالم. ولا يمكن لليساريين أن يدّعوا أنهم أعرف بما جرى ويجري، ولا ولن ينفع الصراخ الشفوي إذا لم يكن اليساريون ذوي صبر جميل للاطلاع على الاستراتيجيات والتكتيكات والتحالفات وأخذ الدروس النافعة في الحاضر والمستقبل بدل الادعاء الأجوف. نعم، يصبر اليساريون لبلوغ المراتب الأكاديمية التي تفضي إلى المجد الاجتماعي والترقي المهني، ولكنهم لا يوازون الحقائق المؤدى عنها بالحقائق التي تنير طريق النضال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى