الباحث عثمان بوعرفة يساءل قضايا الدين والتدين لدى الشباب المغربي
"الثابت والمتغير في الممارسة الدينية لدى الشباب المغربي."
- استهلال.
يعتبر موضوع الشباب والممارسة الدينية من المواضيع التي نالت اهتمام كبير ووافر من قبل الباحثين السوسيولوجيين والأنتروبولوجيين سواء المغاربة منهم أو الأجانب، والتي حاولت تقديم إجابات ممكنة ومحتملة عن أسئلة الشباب في علاقتهم مع معتقداتهم وقيمهم وممارساتهم الدينية. إلا أن التحولات التي يعرفها مجتمعنا المغربي بجميع أنساقه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية يطرح عدة استفهامات وأسئلة حول حيثيات وعوامل ونتائج هذا التحول، ولا شك أن الدرس السوسيولوجي بأسئلته العميقة و بحثه المعرفي المتواصل، قادر على تحليل وتفكيك هذه المتغيرات والتحولات، ولعل بروز الفئة الشبابية بكل اهتماماتها وشرائحها و تلاوينها جعلها لا تعيش باستقلالية أو بمعزل عن هذه التحولات، فهي دائما في تفاعل مستمر مع الأنساق السائدة وتؤثر وتتأثر بها من خلال تصوراتها وتمثلاتها وكذلك ممارساتها، لكن هل من أسئلة يمكن أن يفجرها الدرس السوسيولوجي والأنتروربولوجي حول هذه التحولات؟ لعل هذا هو الرهان الأول للفكر السوسيوأنتروبولوجي على المستوى البعيد والذي كان يطمح دائما إلى إنتاج وإعادة إنتاج المعنى.
وتأتي الظاهرة الدينية بكل تشعباتها ومفاهيمها لتفرض نفسها بقوة ضمن هذه التحولات سواء على مستوى التمثلات أو الممارسات، مما يعني أن الفئة الشبابية الحضرية كفئة طموحة تهدف إلى التغيير لا بد وأن تتبنى أطرا معرفية وقيما إنسانية تحقق من خلالها هذا التغيير المنشود، ولا شك أن في طليعة هذه القيم والأنماط نجد القيم التدينية، إلا أن عامل التدين يبدو بدوره لم يستطع الصمود أمام هذه التحولات الجارفة، فظهور أنماط متعددة من التدين، وبروز المرجعية الثقافية الدينية المركبة، ودخول وسائل الإعلام الحديثة على الخط كفاعل مؤثر على مستوى التدين، وتصارع حدة التوتر بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية،وتراجع دور الأسرة ونظيرها النظام التربوي، وكذلك المؤسسات الدينية والفاعلين الدينيين،وصراع أنماط التدين في الفضاء المشترك ، وانفجار الهويات المركبة ، وتنامي التطرف والعنف الدينيين، ومشاكل اندماج الشباب في الفضاء المشترك، تبدو كلها مبررات موضوعية وعلمية لطرح هذا الموضوع.
فالشباب المغربي كغيره من الشباب والذي كان دائما يوصف بالازدواجية والتركيب في خطاباته وممارساته خاصة الدينية منها ،يبدو من الضروري اليوم الوقوف بقوة عند هذه التصورات في ظل هذه التحولات، خاصة على مستوى معتقداته وممارسته الدينية، والتي غالبا ما تبدو المؤطرة والموجهة لكل تصرفاته وسلوكاته، خاصة إذا تعلق الأمر بالشباب المتدين، ولعل هذا الأخير كان دائما محطة أنظار واهتمام العديد منا، أقصد هنا كأشخاص عاديين أو كباحثين متخصصين، فمستويات التدين متفاوتة من شخص لآخر، وتأثير وسائل الاتصال الحديثة تتفاوت في حدة تأثيرها من فئة لأخرى، وكيفية تجسيد الفعل التديني يختلف من شباب لآخر، والأمر ينطبق على كل المتغيرات الأخرى.
يبدو إذن من خلال ما تقدم أنه من الصعب حصر موضوع الشباب والممارسة الدينية في جانب واحد، كما يصعب أيضا دراسة هذا الموضوع بمعزل عن التأثيرات والعوامل الخارجية والتي تساهم بشكل كبير في التأثير على قيم الشباب ومعتقداتهم وممارستهم الدينية، وخضوعا لمبادئ الدرس السوسيولوجي والذي كان دائما يطالب بالمقاربة الشمولية والعامة حتى تحقق أقصى حدود المعرفة العلمية، فقد ارتأينا أن نقارب هذا الموضوع من كل جوانبه وحيثياته حتى نتمكن من فهم واستيعاب رسائل الشباب واهتماماتهم ،مع رصد تحولات قيمهم الدينية سواء على مستوى تمثلاتهم ومعتقداتهم أو على مستوى ممارساتهم الدينية، وهذا ما سنحاول الكشف عنه من خلال الوقوف على بعض العناصر التابثة والمتغيرة في الممارسة الدينية لدى الشباب الحضري.
- إشكالية الدراسة.
إذا كان من موضوع يمكن أن يطلق عليه بالقديم -الحديث فهو “الدين”، ذلك أنه كان ملازما لتطور مختلف المجتمعات البشرية ، ولعب دورا أساسيا في مجمل التحولات التاريخية ، محاولا بذلك دعم أسس التكامل والاستقرار الاجتماعيين وتدعيم عوامل الأمن والأمان، ومحاولا تقديم إجابات عن حاجيات اقتصادية أو اجتماعية أو روحية …الخ.
هذا الارتباط المستمر للدين بالإنسان تمخض عنه أسئلة كبرى ، جعلت من العلوم الاجتماعية منذ بدايتها تحاول أن تعمل على فهم هذا الارتباط وطبيعته وانعكاساته على مختلف أوجه الحياة ، مسلحة بمفاهيم ونظريات ونماذج تفسيرية ، وذلك من أجل التأكيد على الأسس الاجتماعية والثقافية للظاهرة الدينية ،وفهم أبعادها المتعددة خاصة مع الرواد الأوائل ،” فالشأن الديني هو دائما شأن تاريخي واجتماعي وثقافي ونفساني”[1]، ، بل يمكن القول بأن “ولادة علم الاجتماع كعلم قائم بذاته، قد ارتبط بشكل وثيق بالتساؤل حول مستقبل الدين في المجتمعات الغربية ، ولم يستطع علماء الاجتماع أن يتفادوا الظاهرة الدينية في سعيهم إلى بروز المجتمعات المعاصرة “[2].
صحيح أن المجتمعات المعاصرة حققت ثورات في مجال العلم والمعرفة، وفي مجال الصناعة و التصنيع، وفي مجال التكنولوجيا والإعلام، وانتشار التمدين، وخروج المرأة للعمل، وانخفاض الولادات …الخ. إلا أن ذلك كله لم يمنع من طرح سؤال الدين والتدين في مختلف مراحل تطور هذه الثورات.
هذا الإلحاح على الاهتمام بالظاهرة الدينية ترجم بشكل قوي في السياق المغربي، ضمن الاهتمامات السوسيولوجية والأنتروبولوجية الأولى التي اهتمت درسا وتحليلا بالمجتمع المغربي ، منذ الدراسات الأولى “لإدوارد ويسترمارك” في بداية القرن العشرين ،مرورا بالدراسات الكولونيالية ، ثم الدراسات الأنجلوساكسونية في فترة الستينات ، وصولا إلى اليوم .
وقد كانت الحقبة الأخيرة من أواخر التسعينات من القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة مسرحا لعدة تحولات وتغيرات عميقة ، شملت مختلف الأبعاد والمستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وكذلك الجوانب الثقافية وما يرتبط بها من قيم ومعايير وسلوكات ومفاهيم وتمثلاث واختيارات ورغبات… ، خاصة في ظل العولمة وتقليص الحدود والمسافات بين سكان المعمورة، الشيء الذي أدى إلى بروز العديد من المشاكل والإكراهات، المرتبطة بسؤال التدين و القيم و الهوية و الروابط الاجتماعية ،و الاندماج الاجتماعي و العنف و التطرف ….
في ظل هذه التحولات المتسارعة يطرح سؤال الدين والتدين وموقعهما ضمن هذه التحولات ،ومدى قدرتهما على الاحتفاظ ببعض خصوصيتهما وهويتهما، في ظل انهيار الحدود وتصدعات المحلي وانفجار الكوني .
يعتقد”أوليفييه كالون ” السوسيولوجي الفرنسي ، بأنه “رغم قوة وثقل التحولات التي ذكرناها، إلا أن عناصر المقاومة والصمود المتمثلة في الدين والتقاليد التي تخترق كل المجتمعات ، سواء منها العربية أو الإسلامية أو الغربية الأوربية أو الأمريكية أو الشرقية، حافظت على قدر كبير من خصوصيات كل التجمعات البشرية ، وإن كان بنسب متفاوتة”[3]، هذا التصور يضعنا أمام ثنائية التابث والمتغير ، وإذا كان الدين لا زال يمثل إحدى عناصر الممانعة والمقاومة الثقافية حسب رأي “كالون” ، فما الذي تغير، ومن هذا الذي حافظ على تباثه ؟ ، خاصة إذا اعتبرنا أن “ثنائية الدين والتدين تمثل التابث والمتغير ، الفكر والممارسة ، المثال والواقع ، الجاهز والمعيش ، النهائي واللانهائي”[4].
إن البحث في إشكالية التابث والمتغير في الممارسة الدينية لا يجب أن يقتصر من وجهة نظرنا على هذه الثنائية وفقط، بل يجب أن يبحث في عوامل هذا التحول وأسباب التباث ، وعن بعض مظاهره وتجلياته وأنماطه، ومخرجاته ومؤدياته ، بالاضافة إلى الانفتاح على أشكال جديدة من التفاعلات الموجودة بين الممارسة الدينية لدى الشباب، وقضايا أخرى كالعنف، والتطرف ،والخطاب الديني ،وثقافة الصورة ….الخ.
فالتحول يرتبط “بالتغير الاجتماعي الذي يحدد الإنتقال من بنية إلى أخرى كرجة تطال الأنساق القائمة”[5]، وقد قام “آلان تورين ” بتحديد خمسة عوامل بإمكانها أن تنتج عملية التحول وهي ” القوة ، الإبتكار، التعبئة، السيطرة، التجديد، والتنمية “[6]، وتتميز عمليات التحول الاجتماعي بكونها عمليات غير معطاة سوسيولوجيا، بل تظل متخفية ذلك “أن عمليات التحول الاجتماعي ليست معطاة مباشرة في مجال السوسيولوجيا ، فهي تظل مختفية ، قبل أن تطفو على السطح وتساهم في إحداث التبدلات داخل المجتمع” [7].
ولعل التاريخ الممتد من سنة 2011 إلى الآن ، قد كشف من وجهة نظرنا عن وقائع ومتغيرات جديدة أعادت الظاهرة الدينية إلى السطح ، بطريقة أكثر حدة وأكثر عنفا، أفضى في الأخير إلى ضرورة فتح نقاش مجتمعي جدي، حول كيفية التعامل مع هذه الظاهرة في أبعادها المتعددة، خصوصا أن هذه الأخيرة أخذت أبعادا أخرى ذات طبيعة سياسية واقتصادية وثقافية، ولم تعد مرتبطة بأبعادها الفردية والروحية، الشيء الذي يدعو المقاربة السوسيولوجية والأنتروبولوجية إلى ضرورة التفاعل مع هذه المتغيرات والمستجدات ، ومحاولة إنتاج الأسئلة حولها .
ولذلك سنحاول من خلال هذا العمل الوقوف على بعض المتغيرات والعوامل الجديدة التي تؤثر وتتفاعل بشكل كبير مع الظاهرة الدينية وخصوصا الممارسة الدينية لدى الشباب الحضري، وهذا لا يعني إغفال أو تجاهل للمتغيرات والعوامل الأخرى التي تطرقت إليها الدراسات السابقة، بل العمل على تطويرها ومحاولة التجديد على مستوى المقاربة المعرفية.
وسنحاول من خلال هذه الدراسة الإجابة عن الإشكال التالي : ما التابث والمتغير في الممارسة الدينية لدى الشباب المغربي بالوسط الحضري؟، هذا السؤال تتفرع عنه أسئلة أخرى من قبيل :
- ما هي أهم التمثلات والتصورات التي يحملها الشباب الحضري حول الممارسة الدينية؟.
- ما هي أنماط الممارسة الدينية لدى الشباب الحضري؟ .
- ما الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام في التأثير على أنماط الممارسة الدينية وخصوصا ثقافة الصورة؟.
- هل من علاقة بين الممارسة الدينية والعنف في وسائل الإعلام وخاصة الخطاب الديني؟.
- ما علاقة الهوية بالممارسة الدينية لدى الشباب الحضري؟ .
- كيف تؤثر الممارسة الدينية لدى الشباب على عملية الاندماج الاجتماعي في الفضاء المشترك؟.
- أهمية الدراسة .
تتأتى أهمية موضوع “التابث والمتغير في الممارسة الدينية للشباب الحضري بالمغرب”، من خلال إدراك السياق العام الذي يمر منه المجتمع المغربي ، وهو سياق يعصف بالتحولات في شتى مناحي الحياة الفردية منها والجماعية ، وتأتي الظاهرة الدينية كأحد أبرز تمظهرات هذا التحول في علاقتها بالفئة الشبابية، ومختلف المؤسسات والقوى الفاعلة في الحقل الديني ، وهو موضوع يحيلنا مباشرة إلى مساءلة مختلف مصادر التأطير الديني التقليدية و مدى قدرتها على الحفاظ على مكانتها ووظيفتها التربوية ، كما تكمن أهمية هذه الدراسة في محاولة الانفتاح على مستجدات الحياة المعاصرة وما تشهده من انفجار على مستوى وسائل التكنولوجية الحديثة ، التي أصبح تأثيرها يمس مختلف أنماط العيش ، حيث أصبحت قادرة على خلق نماذج ثقافية افتراضية ، تتعدد وتتداخل معها المرجعيات الثقافية لتصبح أكثر تركيبا وتعقيدا بالنسبة للفئة الشبابية، هذا في الوقت الذي تعرف فيه الظواهر الدينية ذيوعا وانتشارا كبيرين على مستوى طاولة النقاشات العمومية ، وتاركة وراءها سجالات مجتمعية لا تنتهي.
ففي الوقت الذي تحاول فيه السياسة الدينية الرسمية عبر العديد من المداخل والرؤى الاصلاحية ، سواء في بعدها “التنظيمي المؤسساتي ، أو الأيديولوجي الاجتماعي ، أو التأطيري التكويني أو الاعلامي”[8] ، “أن تحتكر مختلف أدوات الإنتاج الرمزي والفكري من أجل اجتياح الحقل الديني لشرعنة هياكل الدولة ،حيث مكن إخضاع الدين لسياسة الدولة من تأطير المؤسسات الدينية والفاعلين الرئيسيين وفرض قراءات وتأويلات رسمية للنصوص المقدسة لاستعمالها ضد الخصوم السياسيين ،ولضمان الاستقرار والركود الاجتماعي، وذلك منذ إنشاء دار الحديث الحسنية سنة 1964”[9]، تبرز ممارسات دينية خارجة عن الهيمنة الرمزية للدولة ، وبعيدة عن خطاب الإسلام الرسمي، الذي لم يعد قادرا على التأثير بشكل كبير في اعتقادات وممارسات الشباب ، وذلك بفعل انفلات سلطة المعرفة الدينية من يد كل ما هو رسمي، لصالح وسائط الاتصال الحديثة من جهة، ولصالح “الممارسة الدينية الحركية من جهة ثانية (الحركات الإسلامية)، الشيء الذي أفضى إلى تنوع في المرجعيات الثقافية والدينية للشباب ، والتي أصبحت ممارساته الدينية تتميز بالتركيب والتعددية .
كما تكمن أهمية هذه الدراسة في محاولة الوقوف عن بعض مظاهر الممارسة الدينية وأنماطها وبعض أشكال تغيرها لدى الشباب الحضري، وذلك من خلال تتبع مسار تغير هذه الممارسة والعوامل المتدخلة والفاعلة في هذا التغير ، وهي دراسة لا تدعي بأي حال من الأحوال امتلاك ناصية الممارسة الدينية بكل تشعباتها وتعقيداتها ، بقدر ما تسعى إلى محاولة فهم المعنى السوسيولوجي والأنتروبولوجي لهذه الممارسة ، وكيفية تغيرها من وضعية إلى أخرى ، مع الوقوف على بعض الجوانب التابثة فيها.
المحور الأول : في المعنى السوسيولوجي للدين .
في محاولة البحث عن مفهوم الدين وتحديد ماهيته، تخبرنا مختلف حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية بأن هناك صعوبة إبستيمولوجية تواجهنا أثناء محاولة الغوص في مفهوم الدين، نظرا لما يتميز به هذا المفهوم من انسيابية عالية تشمل عوالم متعددة من جهة أولى، ونظرا لقدرة الدين على التخفي والإضمار من جهة ثانية، الشيء الذي يصعب تتبعه عن طريق الملاحظة والبحث والتقصي، كل هذا يدفعنا إلى الإعتراف بصعوبة التحكم وضبط مختلف عناصره ومكوناته التي لا تتحدد بحدود واضحة ،سواء تعلق الأمر بالفرد أو المجتمع.
وفي محاولة الاقتراب من هذا المفهوم واستنطاق معناه السوسيولوجي و الأنتروبولوجي، يحذرنا “ماكس فيبر” من بعض المنزلقات والصعوبات المنهجية التي قد نرتكبها ونحن نحاول تحديد هذا المفهوم ،ويلخصها في أمرين:
أولا: “عدم وجود فائدة تذكر من وراء صياغة تعريف عام يشمل كل أنماط السلوك المختلفة التي يصفها أصحابها بأنها سلوك ديني.
ثانيا: لم يرد الافتراض مسبقا أن كل ما هو ديني، لابد أن يشكل جزءا من السلوك اليومي الهادف في جميع المجالات، أو أن ذلك السلوك ذا دلالة إذا ما نحن رتبناه ضمن الأصناف التحليلية الخاصة بالسببية( كالدين والسحر) انطلاقا من مفاهيمنا الغربية”[10].
هذا التحذير ذو البعد المنهجي الذي أطلقه “ماكس فيبر” يدفعنا إلى ضرورة تجاوز المقاربة الاختزالية للدين، ومحاولة استحضار مختلف السياقات الاجتماعية والتاريخية التي تفاعلت معه، خاصة عندما يتعلق الأمر بظاهرة تمتاز بالتداخل والتركيب والتعقيد في ارتباطها بمختلف مناحي الحياة سواء الفردية منها أو الجماعية.
انطلاقا من إدراكنا بأهمية هذه الصعوبة الإبستيمولوجية وضرورة الوعي بها، فإننا سنقتصر على تحديد مفهوم الدين من الناحية اللغوية من جهة، ومن الناحية السوسيولوجية و الأنتروبولوجية من جهة ثانية، وذلك وفق ما يخدم أهداف دراستنا.
- التحديد السوسيولوجي لمفهوم الدين.
يكاد يجمع مختلف الباحثين في مختلف العلوم الاجتماعية أن مصطلح الدين هو من المفاهيم الأكثر تعقيدا وتركيبا، يصعب معه الوقوف على تعريف موحد وشامل، نظرا لما تمتاز به المعتقدات الدينية من تنوع وتعدد، تختلف حسب كل ديانة أو طائفة تتبنى هذا المعتقد دون غيره.
هذا العسر الإبستسيمولوجي في تحديد مفهوم الدين ينسحب كذلك على المقاربة السوسيولوجية والانتروبولوجية، والتي تختلف بحسب المقتربات التفسيرية التي اعتمدها كل تيار وكل مدرسة من المدارس الكبرى، ففي الوقت الذي تلح فيه المدرسة الوظيفية على ضرورة النظر إلى الدين من خلال وظيفته الاجتماعية والمتمثلة في الحفاظ على توازن المجتمع وضمان استمراريته، تذهب المدرسة النقدية/ الجدلية، إلى ضرورة مقاربة الدين في أبعاده الشمولية، مستحضرة كافة الأنساق التي يتفاعل معها الدين، كالحقل السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، والتي تمثل أنساقا تتفاوت فيها مظاهر التوحيد والانسجام مع مظاهر الفرقة والصراع والتشتت.
يرى الاتجاه الوظيفي سواء مع دوركهايم أو أوجست كونت أو مع بارسونز، بأن البحث عن مفهوم الدين يجب أن يتجه نحو البحث عن الوظائف والأدوار التي يقوم بها داخل المجتمع، وأثره في بعض النظم والمؤسسات الاجتماعية الثقافية، أو في عمليات الاندماج الاجتماعي سلبا أو إيجابا.
انطلاقا من هنا كان الفهم الذي يقدمه هذا الاتجاه لمختلف الظواهر وليس الدين وفقط ، نابع أساسا من الخلفية الفكرية التي تحكمت بروزه من جهة ، والأيديولوجية الرأسمالية التي تشبع بها هذا التيار ، ولذلك لا غرابة أن نجده يعتبر بأن حالة الاستقرار والسكون هي الحالة الطبيعية للمجتمع، وحالة الصراع و التناقض هي الاستثناء، ومن ضمن العناصر التي تضمن الاستقرار الفردي والجماعي نجد الدين، وهذا ما نلاحظه عند أحد زعماء هذا الإتجاه وهو ” إميل دوركهايم” حيث يرى في الدين بكونه” نظاما موحدا للمعتقدات والممارسات المتعلقة بالأشياء المقدسة، أي الأشياء التي يتعين تجنبها وتحريمها ، أو من خلال الأشياء المدنسة المرتبطة بالحياة الدنيوية، ووظيفة الدين هي التوحيد بين أولئك الذين يؤمنون به”[11].
يمكن الإحتفاظ من خلال هذا التعريف بأن للدين وظيفتين: فهو من ناحية يعمل على تجميع الناس ويخلق التضامن، وهو من جهة ثانية يمنح للناس وسيلة لإدراك العالم ورؤيته، لأن الهويات الدينية هي التي جعلت للناس هويات اجتماعية ، ينتمي الفرد إلى جماعة ما، لأنه يحمل شعارا دينيا يتفق مع الشعارات الدينية التي يحملها أفراد الجماعة نفسها.
يصدر الدين إذن عن سلطة متعالية عن الأفراد، وهي سلطة المجتمع التي لا مناص من الإمتثال لها، فالأفراد لا يستطيعون خرق الضوابط الاجتماعية، لأن ذلك يؤدي إلى إقصائهم ولفظهم، بيد أن للفرد حسب “دوركهايم” تأثيرا واضحا في تلك العادات والمعتقدات ، فامتثالنا لها يضفي عليها طابعا شخصيا، فنحن لا نمتلك بالضرورة حسا واحدا أثناء القيام بها.
يحدد المجتمع للمتدين التعاليم والممارسات والطقوس التي عليه ممارستها، وإذا ما حاولنا فهم الظاهرة الدينية علينا البحث في بنية المجتمع، وآليات اشتغال الضمير الجمعي، وبالتالي يمكن القول بأن إميل دوركهايم قد ارتقى بالدين إلى مستوى الحقيقة الموضوعية التي تفرض نفسها على الإنسان، دون أن تتعالى على هواجسه، فلا قيمة للظاهرة في ذاتها، وإنما قيمتها ماثلة في المنزلة التي يحظى بها الإنسان فيها.
” وفي هذا السياق ، نشير إلى أن إميل دوركهايم قد رفض رفضا قاطعا أن يكون الدين مجرد وهم ، فالأساطير والأديان… تعبر عن حاجة بشرية، تتم تلبيتها بالإنصهار في الجماعة، ومن هذا المنظور، فإن عبادة الآلهة( الطوطم…) تعبير مجازي عن سلطة المجتمع ، ذلك أن الله هو المجتمع”[12].
يصبح البحث في الدين من خلال ما سبق حسب “دوركهايم” مهمة شبه مستحيلة، من دون أن يتصل بالشروط الاجتماعية ، فالدين يوفر شروط النظام والتماسك الاجتماعي من داخل النظام العام، وبالمحصلة هو فعلا اجتماعيا (social fait) قبل كل شيء.
وما دام الدين هو من صنع المجتمع، فذلك يؤدي بالضرورة إلى وجود نفي الآلهة باعتبارها قوة متعالية على واقع الجماعة، لأنه لم يعد الدين يؤدي وظيفة التعلق بالآلهة، بقدر ما أصبح يلعب دورا في التماسك الاجتماعي والمحافظة عليه، فالدين يعمل على توحيد القيم والمعتقدات المشتركة المنظمة لحياة الأفراد.
وإذا ما أردنا التعرف على تعدد المعاني والدلالات لمفهوم الدين من داخل الاتجاه الوظيفي، فإننا نرى ضرورة استحضار التعريف الذي أعطاه” تالكونت بارسونز” لهذا المفهوم، وذلك لكونه جاء في سياق مغاير عن “إميل دوركهايم” من جهة، وكونه ينتمي إلى التيار الوظيفي البنيوي من جهة ثانية، ولذلك كان ينظر للدين من خلال تصورين:
- “من خلال العالمية التي يلعبها الدين في التأسيس الواقعي لكل ما هو مجتمعا أو ثقافة حديثة، بما في ذلك العلم والتكنولوجيا والإقتصاد …
- من خلال الخير الذي ينسب ( بارسونز ) إليه وإلى نتائجه، كما يتدعم ذلك في الطبيعة المطردة الاعتدال للعالم الذي يشجع عليه الدين.
يمكن القول مع بارسونز بأنه حاول معالجة مشكلة غرابة الحياة والإنفصال بين الخير والقوة ، والتأكيد على أن كلا الجانبين له جذوره في المسيحية ، ومن ثم فليس هناك نظام واحد نسب إليه بارسونز مثل هذا الخير والقوة، حيث رأى أن الكنيسة كانت الأساس والمشعل المنير بالنسبة للحضارة الحديثة“[13].
إن الفهم الذي يطرحه ” بارسونز ” للدين ناتج أساسا من كونه لا يرى أي تطور للعالم الحديث بكل منجزاته العلمية والتقنية والتكنولوجية والفكرية، دون أن نجد له جذور في العقيدة المسيحية، وذلك كون هذه الأخيرة هي التي عملت على نقل الثقافات القديمة إلى العالم الحديث، وبالتالي يذهب الرجل بشكل إطلاقي إلى أنه لا يمكن تخيل أو استيعاب مختلف الانجازات والإبتكارات الحديثة بدون العودة إلى البروتستانتية، باعتبارها شرطا تاريخيا وحضاريا لقيام الحضارة الحديثة، هذا التصور يقترب إلى حد كبير مع ما طرحه “ماكس فيبر” في مسألة العلاقة بين الأخلاق البروتستانتية والنظام الرأسمالي، ويبدو أن “بارسونز” كان على وعي بذلك، حيث يرى “بأن فيبر هو الذي ربط بين الأخلاق البروتستانتية وتطور الرأسمالية ، ليس من خلال إلغاء القيود الأخلاقية ، ولكن من خلال التعبئة الدينية لبعض الدوافع التي تكشف عن ظهور المشروع الحر“ [14].
يبدو إذن مع بارسونز أننا أمام نظرة للدين في بعده التركيبي والشمولي، حيث يعتبر المسيحية تشكل منظومة شاملة يصعب فيها الفصل بين الديني( الأخلاقي) والدنيوي ، بحيث أن “المسيحية لم تدعي السيادة على المجتمع الدنيوي، ولكنها أقامت الأساس لعلمانية المجتمع وتوحيده بالنظر إلى مجموعة من القيم المشتركة“[15].
بعد هذه الإطلالة النظرية حول مفهوم الدين في التحليل الوظيفي، لابد من الإشارة إلى أن هذا الاتجاه واجه سيلا من الإنتقادات ، وحتى لا ندخل في سجال نقدي حول ما أثارته هذه المدرسة من ردود أفعال كثيرة ، وهو ليس غرضنا في هذا المقام، نورد الملاحظة الاعتراضية التالية:
” يفسح التحليل الاجتماعي للظاهرة الدينية في هذا المجال للمدارس الوظيفية فهم الدين والتدين ، لأن التحليل الاجتماعي يتعامل معها باعتبارها ظاهرة وضرورة مكملة لتماسك الجماعة ، وجزءا من عملية إعادة إنتاج الجماعة ، ويتلخص تعريف الظاهرة بالنسبة إلى المدرسة الوظيفية في علم الاجتماع بمسألة دورها، ووظيفتها الظاهرة والمستترة في حفظ التوازن الاجتماعي القائم، وينطبق ذلك من زاوية النظر هذه على الدين ووظائفه، ولا شك في أن بإمكاننا رصد وظيفة تقليدية للدين في حفظ التوازن الاجتماعي ، وحتى النفسي لدى الفرد في مجتمعات تواجه أزمات النمو… ونقصا في الأمن الغذائي ، وارتفاعا في معدل النمو السكاني ،وفي معدلات الإعالة العائلية والإقتصادية… ولا شك أن هناك علاقة بين إرخاء قبضة التدين المتعصب اجتماعيا مع ازدياد الرخاء والنمو وغيره … ولا يلبث أن يتحول الدين إلى أداة في الثورة على النظام الاجتماعي القائم. ولكن اللافت هو توافر وظيفة له في الحالتين، حفظ التوازن، والإخلال بالتوازن.
وإذا سلمنا أن الدين قد وجد منذ أزمنة سحيقة، ونجا بعد نهاية كل مرحلة ، واجتاز عصور بأكملها، وانبعث وولد من جديد بعد كل تحول تاريخي، وتبدل وتكيف وتطور مع تقلبات المراحل التاريخية، فلابد أن له وظيفة أساسية عامة متعلقة بشرط الوجود الإنساني في الطبيعة والمجتمع، وإذا دام الدين قائما ما قامت المجتمعات فهذا يعني أن لا وظيفة محددة له ، بل هو من مكونات الإنسانية، لذلك لم ينجح علم تاريخ الأديان وسوسيولوجيا الأديان في الإتفاق على هدف أو وظيفة أصلية للدين.
وهذه هي ملاحظة المؤرخ الفرنسي ” رينيه جيرار” على التعريفات الوظيفية للدين. وللدقة نقول حتى ولو اتفق على وظيفة للدين في سياق اجتماعي سياسي حضاري محدد، فإن الوظيفة متغير إلى درجة لا يمكننا معها اعتبار تعريفا عاما للدين باعتباره ظاهرة، إلا بالقول لابد من أن للدين وظيفة، من دون تحديدها ، وفي رأينا يعني هذا تغير وظائف الدين بتغيره، أما التابث والعام فيه فلا يصلح تعريفا باعتباره ظاهرة محددة أصلا ، لأن ما هو عام فيه يجمعه مع ظواهر أخرى أيضا. وهذا يعني أن تغير تعريفاته مع تغير تركيبه العيني كظاهرة ليس أمرا مستهجنا، وهذا لا ينطبق على التعريفات الوظيفية وحدها“.[16]
رغم أهمية المعاني التي يضفيها الاتجاه الوظيفي على مفهوم الدين، إلا أننا نرى من وجهة نظرنا ، أن هذه المدرسة تبقى قاصرة وذات تفسيرات محدودة ، نظرا لكونها لا تستطيع إدراك مختلف العناصر والأبعاد الشاملة والعميقة للمظاهر الدينية في حياة الفرد والمجتمع، بحيث تعمل عن التغاضي عن العديد من المظاهر الأخرى كالتفكك الاجتماعي والديني والمذهبي الذي قد يحصل داخل المجتمع، ومن ذلك ما نراه اليوم من صراع بين الشيعة والسنة، أو بين التيار السلفي وحركات الإسلام السياسي ، أو الصراع حول امتلاك أنماط التدين في المجال العام، أو الصراع بين التمثل والممارسة…
على عكس هذا الاتجاه، يعد الاتجاه الجدلي في نظرنا قادرا على ملامسة واقع الدين في عالم اليوم، ويتمتع بقدرة تفسيرية لا يستهان بها في تفكيك الوقائع الدينية وتمظهراتها ومكوناتها المعاصرة ، ولذلك لابد من الإشارة إلى أن هذا الاتجاه يستمد أصوله وخلفياته من النظرية السوسيولوجية النقدية، والتي ظهرت مع التوجهات الكبرى للنظرية الماركسية سواء في صيغتها الكلاسيكية أو في صيغتها الجديدة مع “ألتوسير” وبيير بورديو” وغيرهم.
إن اعتمادنا على هذا الاتجاه يعود لمبررين علميين ومنهجيين:
- يفتح لنا المجال لمعرفة العلاقات المتبادلة بين الدين والمجتمع وصور التفاعل بينهما.
- التعرف على الدوافع الدينية التي تؤثر وتتأثر بالقوى الاجتماعية والتنظيم الاجتماعي الطبقي.
وعموما يمكن القول بأن هذا الاتجاه يسمح لنا بمعرفة تأثير المجتمع والثقافة والشخصية في الدين، والعكس كذلك صحيح.
يرتبط البحث في الدين في تاريخ السوسيولوجيا باسم بارز كرس جهدا ثقافيا طويلا في استقصاء الأديان القائمة في العالم، وهو ” ماكس فيبر” ، وقد تركزت مجمل دراساته على ما أسماه” أديان العالم”، والتي تندرج ضمنها الهندوسية، والبوذية، والطاوية، واليهودية القديمة، مع الإشارة إلى دراسته حول الإسلام التي لم يستكملها.
تكمن عمق المقاربة الفيبرية للدين من وجهة نظرنا في بعدها التركيبي، حيث عمل على دمج العديد من العناصر والمكونات كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، الشيء الذي يعطيه تميزا أكثر شمولية عن التصورات الأخرى.
ينطلق “ماكس فيبر” في تحديده للدين من مفهوم مركزي شكل مدخلا لدراسة العلاقة بين الدين والمسلكيات الاقتصادية وهو مفهوم “العقلنة”، حيث يضفي عليه بعدا شاملا ومتنوعا ، أي أننا أمام عقلنات بصيغة الجمع( عقلنة الحياة الاقتصادية ، عقلنة البحث العلمي، التربية، الإعداد العسكري، القانون ، التنظيم الاداري…)، هذه الأنماط العقلانية تتطور مع تطور الحضارات الغربية بمختلف مجالاتها واتجاهاتها ، أي التعرف على السمات المميزة للعقلانية الغربية، ومن ثم تفسير الأصل الذي تحدرت منه، فإذا كان علينا أن نسلم بالدور الحاسم الذي يلعبه العامل الاقتصادي في تشكل الحضارة الغربية العقلانية، فإننا في الوقت ذاته يجب أن نأخذ بعين الاعتبار العلاقات المتبادلة والارتباطات التي يقيمها هذا العامل مع عناصر ومكونات أخرى ،” فإذا كان تطور العقلانية الاقتصادية الغربية، مرتبطا في شكل عام بالتقنية وبالقانون العقلانيين ،فهو مرتبط أيضا بالقدرات وبالكفاءة التي يتمتع بها الانسان ليتبنى بعض أشكال السلوك العقلاني العملي، حيث واجه صعوبات روحانية اصدم تطور الموقف الاقتصادي العقلاني، هو أيضا، بمقاومات داخلية خطيرة ، فقد كانت القوى السحرية والدينية، إضافة إلى أفكار أخلاقية مبنية على أساسها ، تعد من بين العناصر الأكثر أهمية في تكوين السلوك“.[17]
ولفهم طبيعة العلاقة بين الاقتصاد والأخلاق الدينية وخصوصا البروتستانتية منها، ينطلق ماكس فيبر من السؤال التالي، ” في أية صيغة تتحدد بعض المعتقدات الدينية، بروز عقلية اقتصادية، وبعبارة أخرى بروز التقليد المتعلق بشكل معين من الاقتصاد”[18].
حاول فيبر الإجابة عن هذا السؤال من خلال دراسة مختلف الديانات والمقارنة بينهما ( المسيحية، اليهودية القديمة، الهندوسية والبوذية ، الكونفوشوسية والطاوية ) فخلص إلى أن “الدين البروتستانتي ، باعتباره بنية فوقية ، هو الذي ساهم في تطور النظام الرأسمالي في أوربا الغربية، لأن البروتستانتية ولا سيما مذهب كالفين ، تدعو إلى العمل والمبادرة والتنافس والاكتساب المثمر، وتنمية الرأسمال، والإقبال على الحياة بكل مباهجها ومتعتها ، وجمع الثروات لتحقيق الغنى، وفق دوافع سيكولوجية ومبادئ أخلاقية مثل ” الحرص ، والشح، والاستثمار، والإقتصاد ، والإدخار وحب العمل…”[19]
لقد عمل ماكس فيبر على فهم الترابط الحاصل ما بين الدين والتغير الاجتماعي ، وهو بذلك يعارض بشدة الموقف الذي اتخذه “ماركس ” من الدين ، إذ يرى بأن الدين لا يمثل بالضرورة قوة محافظة ، بل إن الحركات والتوجهات الدينية التي تستلهم جانبا من تعاليم الدين، قد أحدثت تحولات اجتماعية مثيرة في المجتمعات الغربية، وبالتالي فإن الدين حسب فيبر لا تنحصر وظيفته في تحقيق الانسجام الاجتماعي ، بل يتمتع بقدرة على إنتاج التجديد والتغير الاجتماعي، وهو بذلك سابق على وجود التنظيمات الاجتماعية ، بحيث يمكننا القول بأن الدين كشجرة تضرب جذورها إلى بداية تشكل المجتمع الإنساني.
وعندما تجنب “فيبر” إعطاء مفهوم للدين ، فإن ذلك يعني أنه يبقى عبارة عن مجموعة من المعتقدات ، أغلبها ضمني أكثر مما هو صريح، يتمثلها أفراد المجتمع انطلاقا من تصورهم الضمني للطبيعة والسلوك اليومي، “ومن المحتمل أن تكون الأيديولوجية الدينية مستوحاة برمتها من الحس المشترك ، ولا سيما إذا تعلق الأمر بالديانات الكونية كالإسلام والمسيحية، بيد أن هذه الأيديولوجية لا يمكن أن تفهم حتما إلا في سياق الحس المشترك”[20].
رغم ما طرحته المقاربة الفيبرية من عمق نظري في تحديدها لمفهوم الدين ، إلا أنها لم تسلم بدورها من العديد من سهام النقد ، خاصة عندما اعتبر أن الأديان الشرقية تنطوي على حواجز عالية تحول دون تنمية الرأسمالية الصناعية التي شهدها الغرب، أي أنها كانت كابحة لعملية التغير الاجتماعي، ومساهمة في إبطاء عجلة التغيير.
لذلك لم تتطور الأوضاع الإقتصادية في البلدان التي تسود فيها هاته الديانات، نظرا لافتقادها إلى العقلانية في التخطيط والتدبير والتنظيم والتفكير، وبالتالي فهي ديانات لا عقلانية.
هذا الموقف من الديانات المشرقية ومنها الإسلام طبعا، ذهب بالمفكر المغربي “محمد عابد الجابري” إلى القول بأن نظرة فيبر هي نظرة متهافتة من نواح عدة، حيث يقول ” إن إدعاءه الخاص بكون المسيحية ، بما فيها من بروتستانتية وكالفينية، أكثر عقلانية من الإسلام إدعاء لا أساس له ، فالإسلام بشهادة كثير من المستشرقين أكثر عقلانية من المسيحية بمختلف مذاهبها، وهذا ما أكده الأستاذ ” ماكسيم رودنسون” في كتابه( الإسلام والرأسمالية ) الذي أتبث فيه أن الدين الإسلامي كعقيدة أو كتطبيق، لم يكن المانع من قيام الرأسمالية في البلاد الإسلامية، ولذلك فإن أسباب قيام الرأسمالية في أوربا ، وعدم قيامها في البلاد الإسلامية ، ظاهرة يجب أن يبحث عن عواملها في مقتضيات الوضع الاجتماعي العام، تلك المقتضيات التي تلح عليها الماركسية إلحاحا خاصا”.
ويضيف الجابري” وأما القول بأن البروتستانتية وأخلاقها هي التي كانت العامل في قيام الرأسمالية في أوربا الغربية، فهذا افتراض قابل للمناقشة إلى حد كبير، يمكن مثلا أن نتساءل : هل كانت الرأسمالية نتيجة للبروتستانتية كما ادعى فيبر ، أم أن البروتستانتية نفسها هي نتيجة تحولات اجتماعية واقتصادية كانت هي بداية الرأسمالية؟ وبعبارة أخرى : هل كانت الرأسمالية نتيجة للبروتستانتية ، أم سببا لها، أم حدثا مساوقا لها ترجع أسبابه إلى عوامل أخرى؟ ، لقد لاحظ “إنجلز” في مقدمة الطبعة الإنجليزية لكتابه( الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية العلمية) ، أن العقيدة الكالفينية تستجيب لحاجيات البورجوازية الأكثر تقدما آنئذ، وما نظريتها في القضاء والقدر إلا تعبير ديني للحقيقة الواقعية التالية: وهي أنه في عالم المنافسة التجارية يتوقف نجاح الإنسان أو إخفاقه، لا على حذقه وفطنته، بل على الظروف المستقلة التي تخضع لمراقبته.
فالعقيدة الكالفينية بهذا الاعتبار ليست عاملا في قيام الرأسمالية، بل هي نفسها من نتاج الظروف الموضوعية الاجتماعية والاقتصادية، ظروف نشأة النظام الرأسمالية ذاتها”[21].
استمرارية في هذا الاتجاه الجدلي والنقدي لمفهوم الدين، يذهب ” كارل ماركس” باعتباره المؤسس الفعلي لهذه المدرسة، إلى أن الدين يمثل أداة تعتمد من خلالها السلطة على الاحتكار والاستغلال، فالطبقة المهيمنة والتي تمتلك وسائل الإنتاج والإكراه ، تسعى دائما إلى تبرير الواقع المأزوم اقتصاديا بأفكار دينية، مرتبطة بالحتمية والقدر ، أي أن الدين يشكل في نظره عاملا من عوامل الأزمة التي تعيشها الطبقة المسحوقة، وبالتالي فإن أولى خطوات التحرر هي التخلص من الدين، صحيح أننا لا نعثر على كتاب مستقل ناقش فيه ماركس الدين بتفصيل، إلا أننا نجد بعض تصوراته قد تخللت العديد من كتاباته حول التقسيم الطبقي للمجتمع، الشيء الذي جعل من تصور الماركسيين للدين خاضعا في بعض الحالات للتجاذبات والاستقطابات السياسية والأيديولوجية، والتي لا يسع المقام هنا للتفصيل فيها، لأننا لسنا مرافعين عن الرجل ، بقدر ما نحاول أن نفهم بعض تصوراته وأفكاره حول مفهوم الدين ، والتي جاءت في سياق مكاني وزماني محددين، بنوع من الخطاب الهادئ الذي يقترب من الفهم أكثر من إبداء المواقف الجاهزة.
إن الدين في نظر ماركس هو بمثابة” القلب في عالم لا قلب له ” وبالتالي فهو الملاذ الآمن من قسوة الواقع اليومي ، ولذلك فعندما أطلق ماركس عبارته الشهيرة ” الدين أفيون الشعوب” وهي مقتطفة من نص طويل رد فيه على “فيورباخ” فإنه كان يقصد بذلك ” أن الدين يرجئ السعادة والجزاء إلى الحياة الأخرى ، ويدعو الناس إلى القناعة والرضى بأوضاعهم في هذه الحياة ، ويؤدي هذا إلى صرف الانتباه عن المظالم ووجوه التفاوت واللامساواة في العالم، وإلهاء الناس بما يمكن أن يكون من نصيبهم في عالم الآخرة”[22].
إذا ما حاولنا التعامل مع المقاربة الماركسية حول الدين بنوع من المرونة ، بالفهم الذي أعطيناه سلفا، فإننا نود أن نؤكد هنا على ضرورة التوقف عند هذا التصور بتمعن، بعيدا عن إخضاع هذا التصور للصراع السياسي والأيديولوجي الذي لا ينفع الموقف العلمي كثيرا، نظرا لأننا نرى فيه العديد من العناصر المعرفية التي يمكن من خلالها تفسير بعض المظاهر الدينية ، وواقع الحقل الديني بشكل عام في المغرب.
التوقف عند التصور بنوع من التأمل والتمعن في السياق المغربي ، تلخصه الاعتبارات التالية من وجهة نظرنا:
- البعد التركيبي الذي لعبه الدين في تاريخ المجتمع المغربي، ” حيث لعب دورا مهما في مقاومة الاستعمار والتحرر منه، كمرجعية فكرية لدى النخبة الوطنية في نضالها ضد المستعمر”[23]، وكمرجعية روحية بالنسبة لزعماء المقاومة المسلحة ولعامة الناس، إلا أنه في المقابل تخبرنا العديد من الدراسات السوسيولوجية والأنتروبولوجبة على أن بعض المظاهر والتمثلات الدينية لعبت دورا معرقلا لعملية التنمية ولا زالت تلعبها إلى الآن ، وهي كلها مرتبطة بالرواسب الثقافية ذات أبعاد دينية، كالاعتقاد في الأولياء والأضرحة، التمسك بالعقيدة القدرية ، السحر والشعوذة…
- المتأمل في مختلف الإصلاحات التي واكبت تطور الحقل الديني في المغرب ، يلاحظ بجلاء بأن كل السياسات الإصلاحية تحكمت فيها على الأقل رهانين:
- رهان أمني مرتبط بالقبضة الأمنية ، حتى لا يخرج الحقل الديني عن السيطرة لصالح فاعلين دينيين منافسين .
- رهان سياسي مرتبط بتكريس الشرعية السياسية عن طريق أسس الشريعة الإسلامية ، والمتمثل في إمارة المؤمنين.
لهذه الاعتبارات قلنا بأن التصور الماركسي للدين يمكن الاستئناس به والاعتماد عليه في تفسير بعض المظاهر الدينية في المغرب، رغم أنه لا يمكن أن يسعفنا بشكل نهائي في فهم جميع تفاصيل الظاهرة الدينية، وبالتالي فالأمر يتطلب التعامل بنوع من النسبية، والأخذ بعين الاعتبار الانتقادات التي وجهت لماركس في هذا الجانب، خصوصا في بعده الأيديولوجي الغارق في الحتمية الاقتصادية.
وتأتي مقاربة “بيير بورديو” في هذا الاتجاه لتفرض نفسها بقوة ، حيث طور هذا الأخير نماذج تفسيرية تتعلق بتحليل جوهر الفعل الاجتماعي ومضامينه، وخصوصا الممارسات والأفعال الدينية والتي تعتبر جزءا من الممارسة الاجتماعية ، التي تتخذ أبعادا تاريخية تنتقل عبر الخبرات المكتسبة والموروثة لتقييم الواقع المعاش ، وتظهر قوة بورديو في المقترب التفسيري في كونه استطاع أن ينحث مفاهيم جديدة ” كالهابيتوس ومفهوم ” الحقل” ومنحهما قوة تفسيرية لسلوكات الفاعل، الذي يمنح لفعله معنى معين ، مع الإشارة طبعا إلى ضرورة التأكيد على تجاوزه للماركسية إلى أطروحات أكثر سسلجة.
إن أهم ما يمكن استخلاصه من خلال طرح “بورديو” حول مقاربته التفسيرية للسلوكات الدينية ، هو قدرة هذه المقاربة على احتواء الظاهرة الدينية في تركيبتها وشموليتها ، دون السقوط في نوع من الحتمية المفرطة التي ميزت المقاربات الأخرى.
وفي معرض حديثه عن الحقل يعتبر بورديو” أنه من يتحدث عن الحقل يتحدث عن بنية قائمة الذات، وعن قوانين تؤطر هذه الحقول، وأنه لفهم الحقل الديني مثلا وجب النفاذ لبقية الحقول المحايثة له، ففي كل حقل هناك خصوصيات معينة تميزه”[24] .
هذا التصور يجعلنا نبدي ارتياحا منهجيا حول طبيعة دراستنا ، نظرا لكوننا نحاول استحضار مختلف العناصر المشكلة للممارسة الدينية عند الشباب الحضري، والتي تندرج ضمن مفهوم الحقل الديني ،من خطاب وممارسة ، ومستحضرين في نفس الوقت مختلف الحقول المتدخلة في عملية إنتاج وإعادة إنتاج الممارسة الدينية، ” فالمجال الواحد يعوزه فاعلون ، وشبكة من العلاقات المستقلة عن إرادة هؤلاء الفاعلين ، ولكل مجال موارده أو رأسماله النوعي الخاص، وهيكل من المراكز والمكانات المتدرجة هرميا، التي تعبر عن مستويات القوة داخل هذا المجال، يتحدد مسار الصراع بين الفاعلين الذين يحولون استثمار الرأسمال النوعي المودع في الهابيتوس الخاص بهم في مجال ما، وذلك بغية الحصول على مكانة رفيعة ، وزيادة رصيدهم من الرأسمال النوعي داخل هذا المجال”[25].
ومادمنا نتحدث عن الحقل فنحن نتحدث عن حلبة للصراع ، تتنافس فيه الرغبات والمصالح والرهانات بين مختلف الفاعلين الدينيين ، وبالتالي يصبح منتجا للقيم والرأسمال الرمزي، ومختلف الأدوات والأسلحة من أجل كسب معركة الشرعية، وهذا ما أدى ببورديو إلى القول باختلاف المجالات وقوانينها الخاصة، وأن مختلف عناصر الصراع تحتاج إلى رأسمال مختلف، والأمر ينطبق كذلك على الهابيتوس الخاص بالفاعلين المتصارعين على هذه المناصب أو المراكز.
ويمكن تلخيص مفهوم الحقل الديني عند بيير بورديو من خلال ما تقدم في النقط التالية:
- الحقل الديني يشكل مجموعة من الخبرات الرمزية التي تهم مجال المقدس.
- هذه الخبرات لها سلطة الإنتاج وإعادة الإنتاج لفائدة جماعة مختصة في المقدس.
- هذه السلطة كذلك هي ذات طابع اعتباطي تؤدي إلى خلق تراتبية معينة، تقوم على سلطة معرفية تحدد ما هو أجدر بالاعتقاد، نتيجة ذلك كله هو وجود اختلاف دائم بين المختصين في المقدس وغير المختصين.
ومن جهتنا نود أن نشير إلى أن دراستنا لا تبتعد كثيرا عن مجمل التحولات التي عرفها الحقل الديني بالمغرب ، والإصلاحات والتعديلات الكثيرة التي طرأت على هذا الحقل في إطار ما سمي “بهيكلة الحقل الديني بالمغرب” ، خصوصا بعد الأحداث التفجيرية التي وقعت في 16 ماي سنة 2003 ، حيث بدأ الوعي بخطورة التحديات وإشكالية تأطير الشباب ، وفق ما يتماشى ويتناسب والسياسة الدينية الرسمية ، وبالتالي فمجمل التغيرات المحتملة التي طرأت على الممارسة الدينية عند الشباب الحضري ، لا يمكن النظر إليها خارج الحقل الديني بالمغرب.
المحور الثاني: التدين، محاولة في البحث عن المعنى.
لماذا القول بكلمة” محاولة” وليس كلمة “مفهوم” أو ” تحديد” في هذا العنوان كما جرت العادة ، الأمر يتعلق من وجهة نظرنا بمفهوم لا يمكن الحسم فيه بشكل قطعي ونهائي من جهة، ولارتباطه وتداخله مع مفهوم الدين من جهة ثانية ، ولأننا نريد من ذلك مساءلة كل التعريفات والتصورات الاختزالية والتجزيئية لمفهوم التدين من جهة ثالثة، ولذلك عنونا هذا المحور بصيغة “محاولة في البحث عن معنى التدين” ، بشكل متعمد حتى لا ندعي بأننا استطعنا أن نكون نظرة شاملة وكاملة حول هذا المفهوم ، نستطيع تعميمه على دراسات وسياقات أخرى ،فالأمر يتطلب جهدا أكاديميا جماعيا نصل من خلاله إلى توافق في حدوده الأدنى حول حقيقة هذا المفهوم بين محتلف الباحثين، ولذلك سنحاول الاقتراب أكثر من هذا المفهوم ، على أن يكون هذا الاقتراب بصيغة تساؤلية واستشكالية ، وليس بصيغة قطعية ووثوقية ، حتى نبتعد قليلا عن الخطاب السوسيولوجي البارد، ونحاول قدر الإمكان الاقتراب من الخطاب السوسيولوجي الناقد.
وإذا ما حاولنا الانطلاق من هذا التصور في محاولة المساهمة في بناء مفهوم التدين ، فإنه تطرح أمامنا عديد الأسئلة التي يمكن أن تشكل مدخلا لفهم هذا المفهوم واستجلاء عناصره ومكوناته ، وهي كالتالي:
ما علاقة الدين بالتدين ؟ وكيف يمكن التمييز بينهما ؟ وما هي الأدوات والمقاييس النظرية والمنهجية التي تجعل منا نقول بأن هذا دين وهذا تدين؟ أليس في الأمر مغالطة يجب فك لغزها وشفراتها؟ وإذا كانت بعض الدراسات تتحدث عن التدين الفردي ، فهل يمكن أن نتصور تدينا خارج الجماعة؟ وإذا اعتبرنا بأن الممارسة الدينية هي ممارسة اجتماعية أساسا ، فهل يمكننا تصورها خارج المؤسسات؟ وهل يمكن أن نتصور دين بلا متدينين؟ أم أن العكس هو الصحيح؟ وهل يوجد تدين من دون إيمان ، أم أنهما متلازمان؟ وهل يقوم الدين على التجربة الدينية فحسب، أم أنه يعمل على نفيها في بعض الأحيان؟ وإذا انطلقنا من أن الاعتقاد أو الإيمان هو فردي ، فكيف يمر من الفردي إلى الجمعي لكي يصبح ممارسة دينية ؟ وهل من العلمية و الموضوعية أن نتساءل عن أسبقية الدين أم التدين؟ أم أن الأمر يتجاوز ذلك إلى إدراك وفهم العلاقات التأثيرية والتبادلية بينهما؟.
يمكننا القول بأن المشترك بين جميع الديانات هما شيئان أساسيان ، الاعتناق والتدين، الشيء الذي يدفعنا كبشر إلى اعتناق الديانات وممارستها عبادة، هذه العبادة حتى وإن كانت ظاهرية فإننا نسميها تدينا، وقد تتحول إلى شيء موروث من باب التقاليد، كما قد تتحول إلى هوية مشتركة أو تعصب أو طائفية.
إن إطلاق صفة الشخص المتدين من قبل إنسان معين أو عامة الناس، لا يجعلنا نحمل عناء أنفسنا البحث بباطن إيمانه، بل بمحاولة التمييز بين المتدين المؤمن فعلا، أو المتدين مظهرا ، وذلك باكتشاف سلوكياته المتناقضة، أو محاولات مستمرة لشرح سبب الفجوة بين الأخلاق ومظاهر التزمت الديني، وقد تتحول هذه المظاهر الدينية إلى رمز سياسي ورأسمال رمزي في الصراع بين مختلف الفاعلين السياسيين في المجتمعات الحديثة، هذه جملة من الإشكالات التي أثارتها العلوم الاجتماعية ، وترخي بظلالها على النقاشات التي تدور بين كافة مكونات المجتمع، وبالتالي فالكل منشغل بالعلاقة بين التزمت والأخلاق وبين المظهر الديني والموقف السياسي وبينهما وبين الإيمان الحقيقي.
ولعل مختلف الدراسات الاستطلاعية التي حاولت قياس التدين، ذهبت في هذا الاتجاه ، وذلك بطرح أسئلة متعلقة بمظاهر التدين، إلا أن الأمر يتطلب عكس ذلك، أي ضرورة القول بالإيمان وحدود أدنى من الممارسة هي التي نسميها بالدينية، هذا الطرح يعززه الدكتور “عزمي بشارة” بقوله” نحن نميل إلى الإعتقاد أن جوهر الدين هو الإيمان القائم على تجربة المقدس ونفيها، لكن الدين لا يقوم من دون عقيدة هي مادة هذا الإيمان بالحد الأدنى، ومن دون اعتناق عبادة اجتماعية وممارستها ، وهو التدين، لكن شرط التدين ليس الإيمان بل الإظهار، وقد يتقاطع مع الإيمان، وقد لا يتقاطع، وبما أنه لا دين من دون معتنقين لهذا الدين، ولا دين من دون بشر ممارسين لهذا الدين، وإن بدرجات متفاوتة، فلا يلبث أن يحصل انفصال بين جوهر الدين( الإيمان) والتدين، وقد يتطور الانفصال إلى درجة يصبح فيها المظهر هو جوهر الدين، والمقصود ليس الجوهر فلسفيا، بل أقصد الجوهر اجتماعيا بمعنى ما يهم الناس من الدين”.[26]
يتضح من خلال هذا التصور بأن الدين يمارس بالتدين ، ويتمأسس بتدين معتنقي هذا الدين، وبالتدرج يبتعد عن جوهره وهو الإيمان، ويصبح جوهره هو مظهره، أي التدين.
وإذا ما حاولنا أخذ ظاهرة التدين بوصفها ظاهرة اجتماعية مميزة عن الإيمان وحده ، فالمميز فيها هو عنصر التقاليد المتراكمة، ” كتب الباحث “كلنتون سميت” أن من الأفضل أن نفصل الدين إلى مركبين على الأقل كي نتمكن من البحث : الأول هو الإيمان، والثاني هو التراكم التقليدي، لكن المشكلة في ذلك هو أنه إذا كان الإيمان هو الأساس للمظاهر الدينية أيضا، والذي يميزها عن غيرها من التقاليد بصفتها دينية، وإذا كان الإيمان داخليا لا يمكننا مراقبته أو دراسته، فكيف يمكننا أن نميز هذه التقاليد الدينية بصفتها ممارسات للمتدين عن غيرها من الديانات؟ والحقيقة أن موضوع هذه الممارسات الخارجية كعبادات هو ما يميزها”[27].
إن محاولة فهم ظاهرة معينة وهل هي تشكل دينا، يجب ألا تنتج من تعريف مسبق للدين ناتج عن حضارة محددة، بل من دراسة ممارسات محددة للبشر في ضوء السؤال: هل هي نوع من الدين؟ وبالتالي نخلص إلى القول بأنه بدل الإنشغال بمسألة الدين وتعريفه فكريا ، من الأجدى للعلوم التاريخية الانشغال بالظاهرة الدينية، ومن الأجدى لها الانشغال بموضوع التدين، أي أنماطا من الممارسة التاريخية الفردية والاجتماعية للدين، وهي أنماط مختلفة تتفاوت في داخل الدين نفسه، وهي تتفاوت تاريخيا، وجغرافيا وثقافيا، كما تتفاوت طبقيا.
لقد حاول ” جورج سيمل” أن يقيم تمييزا بين الدين والتدين، ” حيث يمثل الدين الدافع الحيوي، والتدين الشكل الاجتماعي الذي يسعى إلى الاستحواذ والسيطرة على الأول. لذلك يحضر الكائن البشري بالنسبة عالم الاجتماع ، مجبولا بطبيعته على صياغة رؤاه الدينية الخاصة عن العالم ، فكل فرد ، كما يجري بشكل عفوي، ينجذب إلى دائرة الفن والإيروس ، وبالشكل نفسه وبعفوية تفتنه المعاني الرمزية التي تتيح له الدائرة الدينية التمتع بها. وبالتالي فالتدين هو تجربة ذاتية عن علاقة بشيفرة غربية للحياة نفسها. وهذه الشيفرات التي تصوغها الأشكال الاجتماعية للديني، يجد التدين الذاتي إجابة عن الحاجات الحيوية العميقة ، مثل الحاجة إلى المطلق الذي يتجاوز حدود الخصوصية المميزة للوجود الإنساني ، أو الحاجة إلى العشق وأن يكون محل عشق من الآخرين بالشكل الصرف ، الذي يتجاوز الآثار الفعلية في المحبة”[28].
إلا أن ” جوليان فروند ” وهو من المتخصصين في علم اجتماع “سيمل” قفد رأى عكس ذلك، فالدين والتدين هما مظهران متكاملان ، وبالتالي فهذا الأخير يشكل مبدأ التجديد الملازم للأول، فكيفما كان التدين فهو ليس بالضرورة متحجرا في أشكال اجتماعية ثقافية، كما حدث تاريخيا في البلدان ذات التراث الكاتوليكي أو الإسلامي.
كما يمكن للتدين حسب “فروند” أن يمنح الأشكال غير الدينية الحياة، كما قد ينتهي إلى شحذ معنى الهوية العرقية الوطنية لشعب بأسره، مثلما يحدث في الحروب العرقية.
يمكن القول مع “سيمل ” بأن الانتقال والعبور من التدين إلى الدين يمر عبر مفهوم الورع كنمط مثير خاص بالروح، إنها إثارة تسمح للروح البشرية بحدس الروابط الاجتماعية مع الآخر، وبالتالي فبتحول التدين إلى ممارسة اجتماعية يجد المجتمع في الدين مجازا قويا للتلاحم وتجاوز الانقسامات ولتخطي مظاهر التنافس الفردي.
وقد حاول ” لنسكي” ” أن يحدد بعض جوانب التدين ، فميز بين أربعة جوانب رئيسة وهي: المرافقة، الطائفية( يشير إلى الجوانب الاجتماعية) ، والتقليدية، والتكريسية، ( يشير إلى الجوانب الثقافية ) ، وبالنسبة إلى لنسكي فإن الفرد الذي لا يحرز أي درجة في هذه الجوانب فهو غير متدين، إلا أن هذا لا يتعارض مع تعريف لنسكي للمتدين ومؤداه: أن أي إنسان عاقل وعضو في أي مجتمع إنساني يعتبر متدينا” [29].
ومن جهة أخرى حاول “جلوك” ” أن يقدم لنا جوانب أخرى للتدين أكثر تقبلا لأنها محددة في مقولات من القيم والمنظورات الدينية ،والتي تقف على نقيض من القيم اللادينية أو العلمانية، وهذه الجوانب الخمسة هي : المعايشة، أي التجربة أو المشاعر الدينية الذاتية، الشعائرية ، أي الممارسات الخاصة المتوقعة من الأفراد أو المعتنقين للعقيدة، الإيديولوجية ، أي الاعتقادات الحقيقية التي يعتنقها المنتمون إليها، والفكرية ، أي المعرفة الخاصة بالاعتقادات المتصلة بالعقيدة ، والترابطية، أي الآثار العلمانية المترتبة على الاعتقاد والممارسة والتجربة الدينية، ولعل المشكلة التي تواجه هذه الجوانب الخمس ،هي مشكلة عزلة هذه الجوانب بعضها عن بعض خاصة الجانب الإيديولوجي عن الجانب الفكري”[30].
في حين يعرف “فرنون” التدين على أساس أنه ” شكل كلي لأنماط سلوكية تشمل الأحاسيس، المواقف، العواطف… إلخ ، وكلها تأتي على هيئة مجموعة وتستجيب على أساس أنها كينونة بذاتها”.
ووضع ” روربف” “وجيسر” تعريفا للتدين “على أنه صفة للشخصية تعود إلى توجهات عقلية ( معرفية) عن الحقيقة الواقعة وراء نطاق الخبرة والمعرفة ، وعن علاقة الفرد بهذه الحقيقة ، والتوجهات موجهة ضمنا لكي تؤثر على الحياة الدنيوية اليومية للفرد، وذلك بمشاركته في تطبيق الشعائر الدينية” [31].
ويرى” دوكين” أن” التدين” استمرار لطفولة الإنسان الذي يستمع إلى تعاليم الوالدين في سلسلة من التقاليد تنتقل عبر الأهل، وأنه نوع من طاعة الوالدين واحترامهم يتشربه الطفل منذ الولادة من بين تعاليم صحيحة ومفيدة أخرى ، وهو يكبر مع الشخص[32].
وبالعودة على “جلوك” نجده يعرف “التدين بأنه الالتزام بتطبيق تعاليم الدين والتقيد بأحكامه، بحيث ينطوي التدين على فعل الممارسة الدينية”[33].
وفي بحثه الطويل عن مفهوم التدين توصل ” عزمي بشارة ” إلى التصور التالي” أهمية التدين تكمن في العادي واليومي، لا في الاستثنائي وغير العادي في التجربة الدينية، وبأن التدين ليس التجربة الأولية للمقدس، بل هو أيضا نفيها، ونفيها هو الذي يصنع الدين أي يمأسسه باعتباره ظاهرة”[34].
يحاول الباحث “عبد الباسط عبد المعطي” أن يوضح الفرق بين الدين والتدين بقوله” ولأننا معنيون بالوعي الديني، فقد تحدد قصدنا بالدين هنا، في الدين كما يفهمه البشر ويستوعبونه ، -وليس الدين الرسمي كرسالة سماوية – بحسب خصائصهم وأوضاعهم المشتركة والمتباينة، التي تحددت وتشكلت وتحولت تاريخيا إلى خصائصهم المعاصرة، المحددة أيضا بالمرحلة التاريخية ، والخصائص الجوهرية لبنية القرية المصرية ، ويتضمن فهم الناس واستيعابهم للدين الشعبي ، تعيين أهم الأساليب والعمليات التي صارت فهما واستيعابا آخرين له ، عن هذا التحديد لا يستبعد ظهور الأحكام والمبادئ الدقيقة للدين الرسمي ، كليا أو جزئيا ، نصا أو روحا، أو هما معا بالظروف والوسائط والديناميات التي من صنع البشر، والتي يعيشها البشر… فنحن معنيون – لا بالدين المنزل أو المرسل- ولكن بالعمليات البشرية لاستقبال الدين وتوظيفه في حياتهم العيانية الملموسة[35].
ويطرح ” صلاح عبد المتعال” تصوره للتدين بكونه “نمط سلوكي وأسلوب حياة، بغرض التمسك والإلتزام بأفكار المعتقد الديني وتعاليمه تجاه الخالق والمجتمع، إذ يتميز بالإرادة لتعديل السلوك استجابة لمضمون العقيدة الدينية، وينطبق ذلك على معظم الأديان والمعتقدات منذ استجاب الإنسان عبر التاريخ لنداء الفطرة الدينية”[36]
ويحاول الباحث ” عبد الغني منديب” التمييز بين الدين والتدين من خلال اعتبار ” التدين كهذا الصنف الخاص من النشاط الاجتماعي كما يسميه ماكس فيبر، وبالنسبة للباحث السوسيولوجي فهو بنية موضوعية يحاول الإمساك بها من الخارج عبر تمظهراتها، بالرغم من أن هذه البنية وككل واقع سوسيولوجي ليست واقعا مباشرا، ذلك أنه من بين الأوهام التي تعمل السوسيولوجيا كعلم اجتماعي على تدميرها هي شفافية الواقع. وتبقى مهمة الباحث الرئيسية هي محاولة إبراز البنيات الأشد خفاء والكشف عن الآليات التي تعمل على إنتاجها أو إعادة إنتاجها أو تحويلها، التدين بالمعنى الذي ذكرناه يوجد في قلب المجتمع، ودراسته تقتضي الوصول إلى النظرة إلى الكون السائدة في هذا المجتمع من جهة، ورصد وتحليل كافة الطقوس والممارسات التي تكشف عن طابعها الديني،( بمعناه العقدي الواسع لا بمعناه التيولوجي الضيق ) وتتم هذه العملية الأخيرة من خلال وصف مكثف ، يحفظ الصلة بالواقع ، ويحول دون الوقوع في تنظيرات مشوهة” [37].
ويرى “محمد عاطف غيث” “بأن التدين هو الإهتمام بالأنشطة الدينية والمشاركة فيها، إلا أنه من العسير وضع تعريف عام للتدين طالما أن الأديان المختلفة تؤكد على سلوك متباين وقيم متنوعة، ولهذا يمكن تعريفه إجرائيا في حدود درجة مشاركة الفرد في الطقوس الدينية، أو على أنه يشير إلى مجموع السلوك والإتجاهات التي يحكم عليها باعتبارها دينية في جماعة أو مجتمع معين “[38].
في حين يذهب هالباخ إلى التأكيد بأن “الإنسان مزيج من المادة ، وأن الروح جملة من الاحساسات ، وأن العلة الأولى أوالأخيرة لا ضرورة لها ،وأن الإنسان قادر إلى أن يصل بنور العقل الطبيعي إلى حقائق الوحي بدون أن تكون به حاجة إلى الدين الذي هو أصلا من اختراع رجال الكهنوت الذين يتوسلون بطقوسه وأسراره ليبقوا الناس تحت سلطانهم ، وأن خير تربية للانسان أن يعود إلى فطرته النقية البدائية، قبل أن تغيرها القوانين والأديان ، وأن أخلاق العقل المستنير أسمى من أخلاق الترهيب والترغيب، وأن الجهل هو الرذيلة الكبرى….”[39]
من خلال استعراض مختلف التصورات التعريفات التي حاولت تحديد مفهوم التدين، سواء عند الباحثين الغربيين أو الباحثين العرب، يمكن التأكيد من وجهة نظرنا على بعض الملاحظات النقدية التالية:
- لا زالت الدراسات السوسيولوجية والأنتروبولوجية في المغرب، تعاني كثيرا من وجود فراغ مفاهيمي ومعرفي، على مستوى تحديد مفهوم التدين” ، كمفهوم مرجعي يمكن من خلاله أن نفهم دلالة ومكونات الظاهرة الديينة والتدينة.
- لا زال التداخل والغموض الذي يكتنف مفهوم الدين والتدين يفرض نفسه بقوة على مجمل الدراسات السوسيولوجية والأنتروبولوجية، ولم تستطع أن تحدد حدودا معرفية واضحة بين المفهومين.
- لا يمكن أن يقتصر فهمنا للتدين على الكيفية أو الطريقة التي يمارس بها الناس معتقداتهم الدينية، كما ذهب إلى ذلك الباحث ” عبد الغني منديب” [40]، بل لابد من وجهة نظرنا من البحث عن الدلالة والمعاني السوسيولوجية والأنتروبولوجية التي تحملها هذه الممارسة، والتي يكون للإنسان المتدين دور كبير فيها ، وكذلك فهم العلاقات التبادلية الرمزية، كما تلح على ذلك أنتروبولوجيا الأنساق الرمزية مع رائها “”كليفورد غيرتز”.
- عند التعامل مع الإنسان المتدين لابد من التعامل معه بصفته كممارسة اجتماعية وبنيته ووظيفته، ومع الطقس والعبادات ، والمؤسسات الدينية ودورها الاجتماعي، كما لابد من رؤية الضغط الاجتماعي والوظيفة المحافظة للتدين التي قد تتحول إلى وظيفة نقدية في حالات معينة، كما لا بد من رؤية تفاعل العقيدة مع الأبعاد والعوامل الاجتماعية الأخرى ، ودورها ووظيفتها المتغيرة.
- لم يعد السؤال : هل يمثل الدين أهمية في حياة الأفراد والجماعات ، ذا أهمية علمية تذكر من وجهة نظرنا كما تفعل ذلك بعض الدراسات الإستطلاعية والتقارير الكمية ، بل أصبح الدين يشكل مظهرا اجتماعيا معبرا عن تطلعات قوى اجتماعية وهويات وأزمات ثقافية وأحيانا أجندات سياسية، فالتدين في هذه الحالة ليس هو الدين، بل هو حراك اجتماعي متبدل الأهداف والمنطلقات، خطابه ديني وثقافته دينية.
- العمل على فهم الممارسة الدينية من الناحية الأنتروبولوجية والسوسيولوجية، دون استحضار المقاربة النفسية ، يجعلنا نختزل علاقة المتدين بالدين وكأنها علاقة تعاقد اجتماعي ، وليس انتماءا عاطفيا وشعوريا وروحيا، والأمر ينطبق كذلك على ضرورة استحضار المقاربات الأخرى كالظاهراتية والتأويلية والتفاعلية الرمزية….
المحور الثالث: مفهوم الشباب.
يطرح مفهوم الشباب صعوبة علمية كبيرة أمام مختلف الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، وتظهر هذه الصعوبة في التنوع الكبير في دلالات هذا المفهوم بين مختلف البلدان والمجتمعات ، إذ غالبا ما يشار إليه في فئات عمرية مختلفة داخل البلد الواحد، هذا التباين جعل من الصعوبة بمكان الوصول إلى معنى دقيق وعميق وموحد لمفهوم الشباب، ولعل هذا الأمر يعود بدرجة كبرى إلى تسلل هذا المفهوم إلى مؤسسات ومنظمات دولية ووطنية مختلفة، تحاول أن تقيس الشباب كمرحلة عمرية مرتبطة بالسن، وفي مقابل ذلك تدعي مختلف العلوم والتخصصات الأخرى احتكار هذا المفهوم وتبني شرعيتها العلمية من خلال ذلك، هذا الصراع حول من له القدرة العلمية في التحكم في المفهوم ، جعل من الباحثين في المسألة الشبابية يعانون نوعا من التيه والقلق في محاولتهم العثور على مفهوم جامع ومانع للشباب ، وهو ما سنحاول الوقوف عنده بالتفصيل.
- التحديد السوسيولوجي لمفهوم الشباب.
يطرح مفهوم الشباب في علم الاجتماع صعوبة كبيرة في التعريف و التحديد، إلا أنه على خلاف علماء النفس، تحدد المقاربة السوسيولوجية المجتمع كإطار مرجعي في النظر إلى الفئة الشبابية. و تأتي سوسيولوجيا الأعمار لتحدد السن وفق إستمرارية الأدوار الإجتماعية، التي يقوم بها الأفراد طوال أطوار حياتهم و يسند لها بعدين أساسيين “بعد الوضعية الإجتماعية (تلميد، عامل ، متزوج…الخ). و بعدا ثانيا ذو صفة معيارية ، يتجلى في جملة السلوكات المحددة التي ينتظرها المجتمع و التي تتناسب مع كل و ضعية”[41].
ويمكن القول من خلال هذا التعريف بأن السن ” له بعد المكانة أو المركز، بحيث هو عبارة عن مجموعة من المكانات الاجتماعية ، التي يحتلها الفرد كتلميذ، كعامل، كرب أسرة …الخ. و التي تمتد عبر الحياة، وبعد معياري قيمي يرتبط بسلوكات متوقعة و متفق عليها في المجتمعّ، و كل وضعية و مكانة لها دور إجتماعي يتقمصه الفرد في حياته”[42].
إذا ما حاولنا الإنطلاق من هذا التصور لبناء مفهوم الشباب يمكن طرح التساؤل التالي، هل نقصد بالشباب الفئة ما بعد المراهقة؟ أم هي إعادة لتحديد أعمق لمدة الفئة العمرية؟ و هي بالتالي تشمل فئات مختلفة و متميزة ، يمكن النظر إلى إمتداداتها بالنسبة للفرد البالغ وفق طريقتين:
- النظر إلى هذه العملية يكون فيها للأسباب الخارجية الخارجة عن فئة الشباب، دورا كبيرا في تراجع هذه الفئة و إختفائها، سواء تعلق الأمر بالوضعية الإقتصادية و المؤسساتية، أو بسياسة التشغيل.
- النظر لهذه العملية كمحصلة لمجمل التحولات الثقافية، المرتبطة بالدخول لسن الرشد الخاصة بهذه الفئة العمرية.
إن النظر إلى مجمل المسارات العمرية التي يقطعها الشباب من أجل بناء حياتهم، لا يعني تجاهل العديد من الضغوطات و العراقيل ، التي تحول دون تحقيق ذلك، بل إن كل ذلك يضعنا أمام طرح الطريقة التي يلجأ إليها الشباب لتغيير مسار حياتهم. و هذا يؤدي بنا إلى مساءلة مختلف هذه الطرق و الوسائل، هل هي تابتة أم متغيرة؟ .
و إذا سلمنا بالتغير كسيرورة إجتماعية، فإن ذلك يؤدي بنا إلى القول بأن بناء سن الرشد كمركز إجتماعي و بناء الهوية التي تناسب هذا المركز ،هي عملية معقدة لا ترجع بالضرورة إلى مختلف الأشكال التواصلية (عملية التنشئة الاجتماعية)من جيل إلى جيل، و لا إلى نموذج و احد بين الأولياء و أبنائهم. بل إن مرحلة الشباب هي مرحلة السن الجديدة التي يقوم فيها بالتحضير و الإستعداد للقيام بالإختيارات، باعتبار هذا السن هو سن الإختيارات و سن بناء و تكوين الطموحات.
مرحلة الشباب إذن هي مرحلة سن انتقالية و تحول. و تؤكد بعض الدراسات السوسيولوجية مثل التي قادها “كاستيل” « castel » أن “ذلك السن الذي يتم فيه الإستعداد و التحضير للسن الرشد هو امتداد و تجاوز للمرحلة الزمنية للحياة الدراسية أو حتى التكوين الأسري (التنشئة الإجتماعي) و لا ينطبق هذا التعريف إلا بالنسبة لتلك الفئة الشبابية التي تحصلت على مستوى تعليمي أو مستوى تكويني معين”[43].
في حين يذهب ” ديسنجلي” إلى أبعد من ذلك حينما يطرح الاستقلالية و البحث عن الهوية كمدخل معرفي لتحديد مفهوم الشباب، بحيث وجب على الطفل أن يتعلم كيف يصبح مستقلا بصفة تدريجية اتجاه والديه، و هو ما ينقص علم إجتماع الشباب برأي “ديسنجلي” بحيث بدل أن يهتم بقضية الخروج، كان عليه أن يبحث عن مجموع الممارسات و العمليات التي تتم بواسطتها تفاوض الأولياء و الآباء ، بحيث يتم فيها البحث عن اكتساب فضاءات جديدة غير مراقبة من طرف الأولياء، كأن يختار الطفل مثلا من يصاحب من أقرانه أو يكون أسرة مستقلة، بدون أن ننسى بأن الأسرة تلعب أدوارا مزدوجة في هذا الإطار، فهي من جهة يقوم فيها الطفل بتسيير شؤونه في كل ما يخص أقرانه و زملائه و حياته العاطفية، و من جهة ثانية يقوم فيها الأولياء بتسيير شؤونها (الأسرة) و رعايتها بمعية الأبناء خاصة فيما يتعلق بالشؤون التربوية.
و قد يكون شرط الإستقلالية الذي طرحه “ديسنجلي” غير كاف من وجهة نظرنا ، ذلك أن ما يميز الحياة المعاصرة و التي يعتبر الشباب جزءا منها و خاصة علاقة الأولياء بأبنائهم، هي خاصية الفردانية أو النمط الاجتماعي للفرد المعاصر هذا النمط يتكون من بعدين أساسيين :هما الإستقلالية « autonomie » و اللاتبعية أو عدم التبعية « l’indépendance »، إنطلاقا من هنا وجب النظر للشباب كفئة عمرية تتميز بخاصية الإستقلالية و اللاتبعية، و ذلك وفق المعايير الإجتماعية .
في حين يقترح “شارل لاجري” زاويتين للنظر إلى مفهوم الشباب: زاوية استاتيكية و زاوية ديناميكية أو عملياتية ،و بالتالي فالذي يحاول النظر إلى الشباب بإعتماد مقياس السن، فهو يحاول بذلك نهج طريقة تعسفية اللهم إذا كانت هذه التفيئة تتم لأغراض سياسية. أما الزاوية الثانية فهي تستند على النظريات الدورية للحياة أو المسارات الحياتية. وقد عرف هذا التصور إنتشارا في و.م.أ خاصة مع مدرسة شيكاغو ثم بريطانيا، قبل أن تعرف نجاحا في فرنسا، و ينظر هذا الإتجاه إلى مرحلة الشباب كمرحلة عبور و إنتقال و مرحلة مرور إلى سن البلوغ. لكن ما ماهية هذه الحدود التي تحدد الدخول من هذه الممرات أو العبور؟ و ما هي أهم العوامل التي يمكن الإعتماد عليها كوسائل لرسم حدود هذه المرحلة العمرية؟ و ما هي الطرق التي تفرض اللجوء إلى هذا الإختيار؟ ألا يمكن اعتباره تعسفا مرة أخرى؟ و إذا كانت مرحلة الشباب هي تلك المرحلة الزمنية المحصورة بين البلوغ و ازدياد الطفل الأول، ففي هذه الحالة نجد أن بعض المجتمعات تفتقد إلى مرحلة الشباب، و إن وجدت فهي قصيرة جدا. ففي المجتمعات التقليدية نجد أن الزواج المبكر و ازدياد الطفل المبكر يأتي مباشرة بعد البلوغ.
كل هذه الأسئلة تؤدي بنا تصور يرى أن الشباب كتعبير عن عملية سواء باعتماد مبدأ الاستقلالية، أو اعتماد وجهة نظر الإنذماج الجيلي. انطلاقا من هنا سيتم الحديث عن عملية التنشئة الاجتماعية و بناء الهويات …الخ. أي التركيز على العمليات أو العلاقات الإجتماعية التي تربط تلك الفئة بالفئات الأخرى، بحث نجد أن ما يميز فئة الشباب عن البالغين مثلا، فيما يخص تكوين و نسج العلاقات الاجتماعية هو أن كل جيل يطور المواقف و الآراء الخاصة باتجاه هذا الموضوع، و بالتالي كل جيل يستحوذ بطريقته الخاصة على تلك العوامل التي تشكل هيكل الرباط الإجتماعي.
ينفرد الباحثان الألمانيان ” ليسينغ” « lessing » و “لييبج” «liebg » بتصور مغاير حينما يعلنان بأن ” الشباب لا يكاد يكون سوى مفهوم إنشائي ذهني خالص و بالمقارنة تتميز مفاهيم الطبقة و السلطة و النمو بالوضوح و القطيعة”[44].
في حين يرى السوسيولوجي “هارتمان” « hartmann » بأن ” الشباب يشكلون قو حيوية في المجتمع و أن شروط الحياة و طبيعة المشكلات التي يواجهونها تجعل منهم شريحة إجتماعية أخرى، و يرجع هارتمان التجانس الذي يتمز به الشباب إلى تأثير القوى الإجتماعية التي تجعل منهم شرائح إجتماعية متميزة و ذلك في مختلف البلدان و في مختلف مراحل التطور التاريخي”.
أما السوسيولوجي الروماني “ماهلر” « mahler » فقد حاول معالجة إشكالية مفهوم الشباب ” عبر دراسته لإتجاهات الباحثين نحو الشباب و دور الشباب في الحياة المعاصرة، و بين أن هناك مفارقات كبيرة بين الباحثين في تحديدهم لمفهوم الشباب ،و أن هناك معايير ينطلق منها لتعيين حدود هذا المفهوم، فبعض الباحثين يرون أن الشباب يمتلك ذات تاريخية فاعلة، و قادرة على مباشرة الفعل السياسي المستقل و بالتعاون مع بعض القوى السياسية. و أن سلوك الشباب يندرج في إطار السلوك الإجتماعي في كليته و شموليته، بينما يعتقد بعض آخر و على خلاف ذلك أن الشباب لا يشكل قوة سياسية و بأن سلوكه مرهون بخصوصيات بيونفسية وأنتروبولوجية متعلقة بالعمر و البنية الجسدية” [45].
لقد حاولت المقاربة السوسيولوجية أن تتفرد بتحديد واضح المعالم لمفهوم الشباب ، وذلك بالتركيز على بعض المواصفات التي تحدد بداية ظهور الشباب من جهة، وتوضيح بعض المميزات للفئات الشابة عن باقي الفئات الأخرى ، كالراشدين والشيوخ من جهة ثانية .
وعموما يمكن القول أننا أمام اتجاهين سوسيولوجيين كبيرين، يحاول كل منهما أن يقدم تحديداته وتعريفاته لمفهوم الشباب:
-الاتجاه الوظيفي : والذي ينظر للشباب من خلال الأدوار الاجتماعية التي يقوم بها ، وهو ما جعله محطة نقد من قبل أ.غالون، حيث يرى أن الشباب يعمل على خلق التجديد الاجتماعي ، ورغم اعترافه بصعوبة تعريف هذه الفئة ، نظرا لكونها أصبحت مثار صراع أيديولوجي ، إلا أنه يرى في الشباب بالمعنى السوسيولوجي للكلمة ، لم يوجد دائما، إن هذه الفئة لم تحقق وجودا اجتماعيا متميزا ، إلا في اللحظة التي توسع فيها زمن المرور، والذي يحدد وضعا اجتماعيا غير مضمون. ففي المجتمع التقليدي لم يكن يميز إلا بين الطفولة والرشد، أما المراهقة فلم تكن إلا لحظة انتقال قصيرة بين اللحظتين السابقتين، ومتمركزة حول طقوس المرور، فالشباب حسب أ. غالون ، كفئة لم يكن موجودا دائما بل إنه خلق اجتماعي يتموقع تاريخيا داخل تطور سيرورة المجتمع ذاته [46].
إن مفهوم الشباب لم يعني دائما نفس الشيء ، إن بناء مفهوم الشباب واكتشافه، ثم تطوير المراهقة ليسا بالأمرين القديمين ، بل إنهما بشكل مباشر اكتشاف الطبقة البورجوازية والمجتمع الصناعي.
ويمكن أن نلاحظ ذلك بجلاء حسب غالون ، من خلال تتبع مراحل تطور الفئة الشبابية منذ العصور الوسطى إلى حدود الفترة المعاصرة:
- لقد كانت الفئة الشبابية الأوربية في القرون الوسطى حسب غالون ، مضطهدة ومسحوقة ومبعدة عن السلطة ، ونتيجة لذلك تابعة بشكل عام للآباء الذين يحتكرون كل شيء . ورغم ذلك ، فقد كانت تتمتع بنوع من الحرية التي تسمح لها بخرق القيم والمعايير الاجتماعية ( ممارسة الجنس- تكوين العصابات- الألعاب…) في حدود معينة، ومن ثم فإن الإبن لا يبلغ مرحلة الرشد إلا بعد وفاة الأب.
- سيشكل القرن الثامن عشر زمن الاعتراف بفئة الشباب وباختلافهما عن باقي الفئات العمرية ( الشيخوخة) ، إنه زمن الاعتراف بحيوية ونجاعة الشباب، هذا الأخير الذي يبقى في نهاية المطاف قوة التطور ، والتغيير والفعل والانجاز.[47]
- أما القرن التاسع عشر فيبقى عصر صراع الأجيال، حيث سيدشن الشباب الفرنسي تحت تأثير الرومانسية أو في كنف المجتمع الرأسمالي المادي ، تقليدا جديدا ألا وهو الثورة ، سواء داخل المدرسة أو خارجها ، مع عدم نسيان ظهر رقابة تربوية فعالة ومنسقة عبر التعاليم الكاتوليكية أو المدرسية بعد ذلك [48].
- أما في القرن العشرين فستبرز الفئة الشبابية كما لو كانت الأكثر تقدما في المجتمع ، لأنها ستصبح بمثابة البؤرة حيث ستوجد الأيديولوجيات والقنطرة التي ستعبر بواسطتها عن نفسها[49].
فما الذي يعنيه هذا التطور الذي عرفته الفئة الشبابية مع تبلور البورجوازية والمجتمع الصناعي؟ .
الإجابة عن هذا السؤال تقتضي منا مراعاة العديد من السياقات التي سيعرفها المجتمع الأوربي الحديث ، والتي ارتبطت بشكل أساسي بالتمدرس ، والبطالة ، والتصنيع، وكلها سيرورات ترتبط فيما بينها بشكل عضوي يصعب الفصل بينهما.
هذا الأمر أدى بالباحثة رحمة بورقية إلى اعتبار أن المدرسة والجامعة ساهمتا في خلق مسافة مجالية بين الشباب والعائلة، الشيء الذي أدى إلى تراجع الرقابة الأبوية ، وبالتالي وضعا جديدا للشباب ، هذا الأخير ستتمدد مرحلته لمدة أطول في فرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية ، نظرا للإنفجار المدرسي الذي سينهي زمن المراهقة القصيرة ، حيث كان المراهق مجبرا على الإلتحاق بالعمل وسوق الشغل بعد فترة تمدرس قصيرة[50].
هذه المرحلة الانتقالية ستتوسع بين المدرسة وسوق الشغل نظرا لتوسع الدراسة الجامعية ، طول زمن البطالة والانتظار، تداريب التكوين والتأهيل… وغيرها من انواع التكريس الجديد الذي يجب أن يخضع له الشباب قبل أن يدخل معترك الحياة الانتاجية .
لقد ترتب عن كل ما سبق العديد من النتائج التي ترتبط بحرية واستقلالية الفرد، حيث فرض الوضع السابق على الشباب مزيدا من التشبث بالعائلة ومساكنها، ومن ثم تأخر لحظة مغادرة الأسرة وتكوين عش الزوجية ، الشيء الذي سيؤدي إلى استمرارية تبعيات الشباب لعائلتهم التي تلبي حاجياتهم المادية والروحية، بل إن بعض الشباب المتزوجين أو الموجودين في حالة ارتباط يظلون في حماية أسرهم أو يبقون على استقرارهم وتواجدهم داخل العائلة.
لقد كان لمجمل هذه التحولات أثر كبير على وضع النماذج التقليدية التي كانت تربط اجتياز المراحل : الطفولة، المراهقة، سن الرشد… بالجنس والانتماء الاجتماعي والطبقي ، حيث وضعتهما في موضع تساؤل وذلك لكون:
- الذكور لا يلجون سن الرشد (الزواج) إلا بعد الاستقرار المهني، الأمر الذي لا ينطبق على الفتيات.
- الفتيات لا تتزوجن إلا برجل يافع وراشد متخلص من كل أنواع الهيمنة ،التي تعود إلى سنه أو وضعه الاجتماعي.
- يرغم أبناء الطبقات المحرومة على مغادرة المسكن العائلي بشكل نهائي، من أجل البحث عن الاستقرار المهني ، في الوقت الذي تمدد الطبقات البورجوازية حمايتها للشباب الذين بإمكانهم العودة إليها ، حتى في حالة مغادرتها ، نظرا لتعرضهم لصعوبات أو فشلهم في محاولة الانفصال عن العائلة.
هذا التصور الذي يربط ظهور الشباب بالانفجار المدرسي ، انطلقت منه الباحثة رحمة بورقية، في بحثها عن مفهوم الشباب في المجتمع التقليدي ، حيث اعتبرت أنه كان مرادفا للعزوبة ، ويعني ذلك غياب أي اعتراف بالشباب بما هو كذلك ، وتستند رحمة بورقية في هذا التصور إلى اللغة الدرجة المتداولة سواء في البوادي الناطقة بالأمازيغية أو الناطقة بالعربية ، فلفظ مثل ” إمترافن” بالامازيغية و ” عزري” بالعربية ، رغم كونها تسمي الشباب ، إلا أنها تعني أولا وقبل كل شيء العزوبة، إن اللغة المحلية حسب الباحثة بورقية لا تضم أي لفظ يميز بين المراهقة والشباب، مادام أنه داخل هذه اللغة لا نجد إلا محاولات للتمييز بين الصغار والكبار( صغير- كبير) بين الطفل والرجل (دري – راجل)، ومن ثم فإن ألفاظ مثل لغة ” مراهق” وشاب” والتي توجد في قواميس اللغة العربية الكلاسيكية لم تبدأ في التغلغل داخل اللغة المتداولة إلا حديثا [51].
فإلى أي حد كانت الباحثة رحمة بورقية موفقة في هذه الخلاصات والنتائج؟.
إن محاولة العودة إلى اللغة المتداولة بنوع من التريث والتأمل ، سيجعلنا نضع كل ما خرجت به رحمة بورقية موضع نقد وتساؤل ، وعدم التسرع في نفي وجود الفئة الشابة في المجتمع المغربي.
فإذا اعتبرنا بأنه لا يمكن للفظين مختلفين أن يعطيا نفس الحقول الدلالية ، فإن لفظ “الدري” ليس هو “الطفل” ولا هو ” الصغير” ولا ” البعلوك” ولا ” البرهوش” ، إن لكل لفظ معناه وسياق استعماله ، حتى وإن كان هناك نوع من التقارب بينهما.
وإذا ما حاولنا الانطلاق من بعض التقابلات مثلا: الصغار- الكبار، العزارة- المزوجين، الرجالا- الدراري ، برهوش – بعقله… ، هكذا يكون الشخص في آن واحد مثلا ، من الصغار ، عزري وراجل بعقله ( عاقل) ، وقد يكون متزوج من الكبار ولكنه دري وبرهوش ، إن هذه التركيبات وغيرها قد تسمح لنا بالقول بأن الشباب هم ” الصغار” دون أن يلحق ذلك أي حكم قيمة قد يتضمن سلبية ما ، فلا ترتبط سمة “الصغر” لا بالزواج ولا بالعقل ، ولا بما دونهما، ومن هذا المنطلق قد ترتبط العزوبة بالرجولة فيقال” ولد فلان راه عزري وراجل ” ، وقد تضاف إليها عبارة “تبارك الله ” لتدعيمهما ، وتبيان لحظة الإعجاب ودرء العين وشرها كذلك، وإذا كنا نجد ألفاظا سلبية ترتبط بسمة الصغر ، أو اكثر قربا منها قد توجه إلى “الصغار” ، فإن هناك مثيلات لها في عالم الكبار ، إذ نجد “العكوزة” أو “الشارفة” ، أي المرأة المسنة، واللتان تقابلها عند الرجال ألفظ ” الشيخ ” أو ” “الهرنوفة ” ، وهي صفة تحيل إلى الطاعنين في السن.[52]
تأسيسا على ما سبق يبدو أنه من الصعب الارتكان إلى هذا التحديد لمفهوم الشباب، ذلك أنه يعمل على إقصاء وإبعاد فئات عريضة من الشباب ، خاصة في العالم القروي الذي لا تزال فيه الغالبية العظمى بعيدة عن التمدرس ، ولم تستفد من التحديث والتصنيع شيئا ، وبالتالي يمكن القول بأن ما يميز الشباب هو وضعهم الاجتماعي المشترك ، ومجموع الاكراهات والتطلعات المشتركة بين مجموعة من الشباب، إن العناصر الموحدة والوحيدة التي يكمن أن توجد بين الشباب ، تتأسس بالدرجة الأولى على مشاكلهم فيما يخص الإندماج المهني والاجتماعي والسياسي.
إذا كان هذا عن التحديد الوظيفي للشباب ، فماذا إذن عن تصور الاتجاه النقدي لهذا المفهوم؟.
-الاتجاه النقدي: يرتبط مفهوم الشباب عند هذا الاتجاه، بكون التمييز بين الفئات العمرية يرتبط ارتباطا وثيقا بالصراع الذي عرفه تاريخ البشرية حول تملك السلطة والنفوذ داخل المجتمع، ومن هذا المنطلق فإن التمييز بين الشباب والكبار وغيرهم، كان الهدف منه إقصاء الشباب من تملك السلطة التي يحتكرها من يمثلون الحكمة، وبالتالي فالتمييز بين الشباب والكبار هو أشبه بالتمييز بين الرجال والنساء ، بمعنى أنه تمييز بين طبقات ، تختفي وراءه مسألة الصراع من أجل النفوذ والسلطة داخل الجماعة.
ولذلك فالشباب والشيخوخة – حسب بيير بورديو- الذي يتزعم هذا الاتجاه ، ليسا معطيات جاهزة ولكنهما مبنيان اجتماعيا ، في سياق الصراع بين الشباب والشيوخ، وبالتالي فالعلاقة بين السن الاجتماعي والسن البيولوجي تبقى جد معقدة ، ذلك أن السن هو معطى بيولوجي قابل للاستغلال اجتماعيا ، إن الحديث عن الشباب كوحدة اجتماعية ومجموعة لها مصالح مشتركة ، وكذا إرجاع مصالحها إلى سن معرف بيولوجيا ، يشكل نوعا من الإستغلال البديهي ، الواضح والجلي[53] .
وفي نفس الاتجاه يلاحظ بورديو أن المسألة البسيطة التي لا نفكر فيها ولا نوليها الاهتمام، هي كون تطلعات الأجيال المتعاقبة ، الآباء والأبناء ، مكونة بالنسبة إلى حالات مختلفة لبنية توزيع الخيرات المتعددة، إن ما كان في أعين الآباء امتيازا عجيبا ، أصبح اليوم من الناحية الإحصائية أمرا عاديا، وإن العديد من صراعات الأجيال هي في أصلها صراعات بين أنساق من التطلعات المكونة في عصور مختلفة، فما كان بالنسبة للجيل الأول بحثا مضنيا يطول مدى الحياة ، يعطى للجيل الآني بعد الولادة ، ويبدو الإختلال بكل وضوح في وسط الطبقات المحرومة التي فقدت حتى ما كانت تملكه في سن العشرين، هذا في عصر أصبحت فيه امتيازات سنهم العشرين مشتركة بين الجميع.
ولذلك ليس من الصدفة أن نجد التمييز الذي يمارس على الشباب يعود إلى الطبقات والأفراد الذي يوجدون في الطريق إلى الزوال وإلى الشيخوخة بصفة عامة. صحيح أن الشيوخ ليسوا في مجملهم ضد الشباب، ولكن الشيخوخة هي أيضا هبوط واضمحلال اجتماعي، أي ضياع للسلطة الاجتماعية، إن الشيوخ على العموم مناهضين للشباب ومعادين للفنانين ، للمثقفين وللإحتجاج ، إنهم يناهضون كل ما يتغير ، كل ما يتحول ويتحرك …. ذلك ، لأن مستقبلهم أصبح وراءهم، فلا مستقبل لهم ، في الوقت الذي يعرف فيه الشباب بأنفسهم ويقدمونها على أنها مالكة كل المستقبل وبأنها المحددة له، أي أن المستقبل لا هوية له ولا وجود له بدونهم.[54]
ويضيف بورديو أنه رغم كل الاختلافات النابعة من الانتماء الاجتماعي ، فالشباب يمتلكون مصالح جماعية ومشتركة بين أعضاء جيل معين، ذلك أن مجرد مرورهم أو تواجدهم في حالات مختلفة للنسق المدرسي جعلهم يحصلون على ربح ضئيل من شواهدهم أقل بكثير مما حصلته الأجيال السابقة ، وينتج عن ذلك في نظر بورديو أنه بقدر ما يسعى الشيوخ إلى إبعاد الشباب وإبقائهم في هذه المرحلة ، يسعى هؤلاء الشباب إلى دفع الشيوخ إلى الشيخوخة.
هكذا يصبح الشباب في آخر المطاف ظاهرة اجتماعية مبنية اجتماعيا وثقافيا، وأما التقسيمات والتمييزات ورسم الحدود بين الأعمار، تبقى في واقع الأمر مجرد تمثلات المجتمع حول مراحله أكثر مما هي مراحل بيولوجية .
يسجل الباحث الأنتروبولوجي ” جسن رشيق ” نفس الملاحظة بخصوص الأطلس الكبير ، حيث أن بقاء الإبن في مرحلة الأفروخ ما دام الأب حيا ، يهدف أساسا إلى إقصاء هذه الفئة من الشباب من الخيرات الاجتماعية والسياسية للجماعة ، حيث لاحظ أنه أثنا توزيع الأضحيات المقدسة ، أو ما يسمى “الوزيعة” ، يحصل الأفروخ ، حتى في حالة الاستقلال المادي والسكني على حصة صغيرة من الأضحية ، في الوقت الذي يحتفظ الأرجاز بالحصة الكبرى، ولا يقف التمييز عند حدود الطقوسي ، بل يتعداه إلى ماهو سياسي على مستوى تسيير وتدبير شؤون الجماعة ، إذ يحرم الأفروخ من حضور الاجتماعات التي يقوم بها مجلس القرية ولا يتكلف بأي مهمة جماعية، فضيوف القرية يتكلف بهم رئيس العائلة الذي يمثل الجماعة، إن توزيع الأضحية هو لحظة التمييز بين الرجل (أرجاز) الذي يهيمن على الحياة الاجتماعية والسياسية داخل القرية ، ويسهر على تسيير الشأن العمومي، وبين الأفروخ الذي يعدا قاصرا ومبعدا عن كل ما هو جماعي.[55]
نلاحظ من خلال ما تقدم بأننا أمام نظرة وتصور جديدين يقدمها الاتجاه النقدي لمفهوم الشباب ، عكس الاتجاه الوظيفي ، ويمكن تلخيص الإضافة والقيمة العلمية والمعرفية التي جاءت بها المقاربة النقدية في بناء مفهوم الشباب في العناصر التالية:
- محاولة تخليص مفهوم الشباب من النظرة المحافظة التي تتميز بالكود والتباث ، التي كرسها الاتجاه الوظيفي ، والذي كان ينظر إلى الشباب كنتيجة لسيرورة تاريخية واجتماعية داخلية خاصة بالمجتمع الأوربي.
- يضع الاتجاه النقدي مفهوم الشباب في نوع من الدينامية والجدل والصراع والمواجهة ، وبالتالي لا يمكن تحديد مفهوم الشباب إلا في إطار ديالكتيكي ، على اعتبار أن الفئة الشبابية هي فئة منافسة ومقاومة ومهددة لتباث النظام القائم.
- استطاع الاتجاه النقدي أن يبني تصوره الخاص للشباب ، انطلاقا من شبكة أو نسق من المفاهيم التي يندرج ضمنها مفهوم الشباب من قبيل، السلطة ، الصراع، صراع الأجيال، المجموعة، المصالح المشتركة، التجربة المشتركة، الجيل …..الخ.
- هذا الاتجاه استطاع أن ينبهنا إلى أن مفهوم الشباب لا يمكن أن يكون كليا ومتمركزا ، كما انه لا يمكن أن يرتكز على نموذج أو تحديد مسبق أو إلى مرجعية بعينها، بل إن مفهوم الشباب يتحدد داخل المجتمع الواحد وداخل المسيرة التاريخية لكل ثقافة، أي أن لكل مجتمع شبيبته.
- يربط هذا الإتجاه بين الشباب والتغيير والتجديد ، وذلك لكون هذه الفئة كانت في غالب الأحيان رائدة التغيير وحاملة لواء التجديد، حيث فرضت عليها ضرورات الصراع ضد الفئات المهيمنة اجتماعيا والمتملكة لناصية السلطة ، قدرا من التجديد والإبداع قصد الانفلات من الأطر الاجتماعية والثقافية ، التي تؤسسها الجماعة والتي تجعل من الفئات الشابة فئات مقصية ومبعدة عن مجال السلطة والنفوذ.
فهل الشباب المغربي يميل إلى التغيير أم إلى المحافظة؟ هل ظل الشباب دائما يعيد إنتاج نفس الوضع القائم، أي يحمي المعايير والقيم الجماعية السائدة؟ أم أنه يعمل على تجاوزها والقطع معها؟ ألم يحاول الشباب نتيجة ظروف حضارية وتاريخية أن يخلق نماذج ثقافية وقيمية بديلة ، تضع قيم الجماعة موضع نقد وسؤال؟ ألم يساهم الشباب بقسط وافر في مجرى التحولات المعاصرة؟ ألم تصبح ثنائية التغيير والمحافظة أو التقليد والحداثة ذات تفسير محدود للتحولات التي تعرفها المسألة الشبابية؟ ألا يوجد خيار ثالث يصنف ضمنه الشباب؟ أم أننا أمام مسألة شبابية معقدة لا يمكن اختزالها ضمن منطق الثنائيات أصلا؟ .
الإجابة الممكنة عن هذه الأسئلة ، تقتضي منا الوقوف على ثلاث مقاربات تفسيرية للشباب المغربي من وجهة نظرنا وهي :
- مقاربة تفسيرية تدعي بأن الشباب المغربي ميال إلى المحافظة.
- مقاربة تفسيرية تعتبر أن الشباب المغربي ملازم ومرتبط بشكل وثيق بعملية التغير الاجتماعي والثقافي ، ورديف لهما، وطامح إلى التجديد.
- مقاربة تفسيرية تعتبر أن الشباب المغربي يقع بين الثنائيتين، أي يجمع بينهما.
يرى التصور الأول بأن الشباب المغربي من الناحية التاريخية، لم يكن ظل مهمشا ومقصيا من جميع الأدوار والوظائف، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية ، ما عدا بعض الأدوار الهامشية والرمزية كإحياء بعض الحفلات والإشراف عليها لمدة قصيرة ، كما يشير إلى ذلك “رشيق” و”بورقية” في الدراستان اللتان أشرنا إليهما سابقا، هذه المهام الرمزية كانت تضعهم في مكان اجتماعي دوني ، لا يمكن أن يصلوا فيه إلى مرتبة الرجال ، الشيء الذي ينتج عنه تبعية على مستويات متعددة ، مع الخضوع التام لمعايير وقيم الجماعة ، وبالتالي يصبح موضوعا للرقابة الاجتماعية التي لا يستطيع أن ينفك من سلطاتها، هذا الأمر كان له ما يبرره في المجتمع المغربي التقليدي ، الذي ينتفي معه الأنا ويبرز النحن كتعبير عن هوية الجماعة ومصالحها ، وبالتالي كان الاتجاه العام والأبرز هو الحفاظ على الجماعة القروية ، من أي تهديد خارجي ، هذا التماسك والوحدة تعززها وتوحدها قوة التماسك الاجتماعي ، الذي تلعبه القيم والمعايير الثقافية والاجتماعية للجماعة ، يصبح الشباب إذن جزءا من سيرورة المحافظة التي تفرضها الضرورات الاجتماعية ، كما يصبح منتجا ومستهلكا في الآن ذاته لقيم الجماعة ، بهذا المعنى يعتبر الشباب قوة محافظة على ضوابط ومعايير والجماعة ، وبالتالي تقوم بإعادة إنتاج نسق السلطة القائم .
في حين تذهب المقاربة الثانية إلى أن الشباب المغربي كان مساهما وفاعلا ومحركا لديناميات المجتمع، سواء على المستوى الاجتماعي أو الثقافي ، ومرد ذلك إلى أن الشباب المغربي يعيش حالة من الإقصاء الاجتماعي الذي يمارس عليهم ، بفعل عجز آليات الإدماج الاجتماعي ، الذي تسبب في ارتفاع مهول لنسبة البطالة ، وكل ذلك ساهم في خلق وضعية خانقة يجد الشباب نفسه مرغما على مواجهتها .
يستلهم هذا التصور مبرراته ومواقفه العلمية من نتائج الدراسة التي قام بها كل من “بول باسكون” و”المكي بن الطاهر “، واللذان خلصا إلى أن الشباب القروي المغربي أقرب إلى الحداثة من التقليد، بل أكثر من ذلك أن الشباب القروي قد دخل ثقافيا وأيديولوجيا في المجتمع الصناعي ، وبالتالي فالشباب القروي المغربي يوجد في طلاق مع الأجيال السابقة على آبائهم[56].
وقد خلصت هذه الدراسة إلى أن الشباب القروي ، يبقى رغم جميع الظروف غير الموائمة التي تحيط ، متفائلا، شاعرا بأن العهد الذهبي يوجد أمامه، وأن كل آمالهم وتطلعاتهم ستتحقق في الغد القريب ، إن هذا الشباب بصفة عامة مشدود إلى الأمام ، إلى المستقبل أكثر مما يلتفت إلى الماضي وإلى التقليد[57].
يدافع هذا الإتجاه إذن عن أن الشباب اليوم يبحث عن مراجعه ونماذجه الخاصة ، الخارجة عن حدود عائلته وانتمائه الضيق، ومهووسا إلى الانفتاح على عالم اليوم ، هذا العالم المعولم والحداثي والمنفتح، الذي يرى فيه الشباب وسيلة للقطع مع واقعه المأزوم اقتصاديا واجتماعيا، وبالتالي يستطيع أن ينفلث من عناصر التقليد والجمود ، إلى عناصر الحيوية والنشاط والفعل والحركة والمبادرة والمغامرة …..
في حين ترفض المقاربة الثالثة أن يوضع الشباب ضمن هاذين الثنائيتين ، ( التغيير/ المحافظة – التقليد / الحداثة) ، حيث ترى أن هناك طريق ثالث يمكن أن يتموضع فيه الشباب ، هذا الطريق لا يميل إلى الحداثة ولا إلى التقليد ، ولا يميل إلى التغيير ولا إلى المحافظة، بل هو بين الاتجاهين.
هذا الاتجاه يستمد أصوله النظرية من الدراسة التي قام بها “أندري آدم ” في الستينات من القرن الماضي ، حيث خلص إلى كون الشباب المغربي بقدر ما يسعى نحو القطيعة مع التقليد ومع الآباء ، بقدر ما يبقى مشدودا إلى الماضي وإلى الثقافة السائدة ، وبالتالي فالشباب المغربي حداثي “تقدمي” ومحافظ ” رجعي” في نفس الوقت.
فالشباب المغربي حداثي لأنه يريد أن يرتقي بواقعه وبلاده إلى الأفضل ، إلا أن ذلك لا يعني بثاثا حصول القطيعة مع التقليد، إننا أمام شباب لا هو بالتقليدي كليا ولا هو بالحداثي مطلقا، وذلك لكون أن كل جيل جديد لا يستطيع أن يعبر عن نفسه خارج الدائرة اللاشعورية التي تنتقل إليه من قبل الأجيال السابقة.
يتضح من خلال ما سبق، أن هذه المقاربة تدرك جيدا أنه رغم الاستيلاب الثقافي ، والمحاولات المتكررة للخروج من عناصر التقليد نحو مقومات الحداثة والتغيير التي يبذلها الشباب ، إلا أنه ومع ذلك يبدو أن هناك إرث ماضوي ثقيل يشد الشباب شدا، ويكبل جناحه الذي يريد التحرر، ليبقى الماضي كشبح يلاحق الشباب في حلمه ويقظته.
وبالنظر إلى التحولات السوسيوثقافية و الإقتصادية التي عرفها المجتمع المغربي خلال العقود الأخيرة و انعكاساتها على مجمل دورة الحياة يمكن القول بأننا ” تجاوزنا النموذج الذي ينظم الحياة في ثلاثة مراحل : التكوين، العمل، التقاعد. إلى نموذج مختلف يستمد من فيه الشباب تغيرا شاملا على مستوى دلالة و محتوى السن. أي أننا أمام إعادة تشكيل لدورات الحياة في ضوء تأثير طول أمد العيش و تقلص مدة الشغل (الدخول المتأخر لسوق الشغل). و بالتالي دينامية تعاقب الأجيال تمر بتحول عميق”[58]. أصبح معيار الحصول على العمل و معيار الزواج أكثر هشاشة لا يمكن الإستناد عليه لتحديد مفهوم الشباب، لأن هذا الأخير أصبح من المستحيل بمكان أن يحصل على عضوية إجتماعية كاملة ،رغم إستكماله الدراسات الجامعية، التي تتيح له ذلك.
يظهر من خلال ما سبق بأن التعامل مع الظاهرة الشبابية من وجهة نظر العمر ينطوي على الكثير من اللبس و الإختزال، لأنه يؤدي إلى إقصاء فئة عريضة من الشباب ، و هذا ما يجعل توصيف الشباب عملية محفوفة بالمنزلقات العلمية، كما أن النظر إلى الشباب كفئة عمرية متجانسة ينطوي على بعض المفارقات بالنسبة للأجيال الجديدة، حيث تتباين هذه الأجيال عن الأخرى، بتباين الشروط الإجتماعية التي تحيط بهم، و خاصة منظومة التوجهات الإجتماعية و القيمية السائدة.و تتمايز بتمايز التجارب الإجتماعية التي تؤديها. و بالتالي فإن الفئات العمرية نتاجات إجتماعية تتطوره عبر التاريخ و تتخذ أشكال و مفاهيم ارتباطا بالأوضاع و الحالات الإجتماعية، كما أن لكل مجتمع قيمه و عقله الجمعي الذي ينضبط و يحتكم إليه. مما يترتب عنه مفهوما خاصا للشباب و تحديدا اجتماعيا لخصائصه و تحولاته، و هو ما يفضي في الأخير إلى أن لكل مجتمع أكثر من مفهوم للشباب، و ذلك في ارتباط مع ما يعتمل داخل هذا المجتمع و يتفاعل فيه، أي أننا أمام شباب لكل مجتمع مختلف نوعا و درجة عن شباب المجتمع الآخر، و النتيجة النهائية هي أن لكل شباب قضاياه و مشاكله و رهاناته التي تتنوع بتنوع المجتمعات.
يبدو من خلال ما تقدم أنه من الصعب جدا الحديث عن مرحلة محددة للشباب، في أي سن يبدأ؟ و متى ينتهي؟ و رغم بساطة السؤال التي تظهر لأول مرة، إلا أن العكس هو ما يتضح عندما نريد تقديم إجابات علمية و مقنعة عن هذا السؤال. فرغم كثرة الدراسات الموجودة حول الشباب إلا أن ذلك لم يحقق نوع من الإجماع الأكاديمي حول المرحلة العلمية للشباب. الشيء الذي دفع ببيير بورديو للقول بأن “الحدود بين الأعمار و الشرائح العمرية حدودا اعتباطية، بحيث أنه لا يمكن معرفة أين تنتهي مرحلة الشباب لتبدأ مرحلة الشيخوخة، مثلما لا يمكن تقدير أين ينتهي الفقر ليبدأ الثراء”[59]. هذه الصعوبة المعرفية لا تقف عند هذا الحد بل إنها تتسلسل إلى داخل نفس التخصص العلمي، حيث نجد من داخل تخصص واحد تصورات و آراء مختلفة ،حول متى تبدأ مرحلة الشباب؟ و متى تنتهي؟ و هو ما يتضح من خلال الإطلاع على مجموعة من الدراسات و الأبحاث في هذا الشأن. فقد ذهب كل من “زهير حطب”و “عباس مكي” إلى أن “مرحلة الشباب تبدأ في سن السادسة عشر و تنتهي في سن الثالثة و العشرين”[60] في حين ذهب “عزت حجازي” إلى اعتبار أنه ” خلال المرحلة العمرية ما بين سن الخامسة عشر و الخامسة و العشرون، تحدث تحولات هامة في حياة الفرد، فعندها يترك التعليم بعد استكماله عادة و يلتحق بعمل دائم و يتزوج ،أو يسعى إلى تحقيق ذلك على الأقل، فهو بعبارة أخرى يترك فترة الطلب و يبدأ حياة الراشدين و ينزل إلى معترك الحياة ،و يرتبط بعدد من المؤسسات التي يتعامل معها الراشدون ، و يتغير تبعا لذلك تصوره لذاته و للآخرين و المجتمع و اتجاهاته نحوهم و سلوكه معهم”[61].
في حين يذهب “بول باسكون” و “بن طاهر” أن مرحلة الشباب تبدأ في سن الثانية عشر و تنتهي في سن الثلاثون ، و تكمن المرجعية هنا في المعايير الثقافية و الإجتماعية ، و هما القدرة على الصوم و وضعية الزواج”[62].
و تختلف المعايير المعينة لتحديد الفترة العمرية المحددة لسن الشباب بين الدول و المنظمات و الهيئات في العالم. حيث نجد “الأمم المتحدة” تحدد فترة الشباب بأنهم أولائك الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 24 سنة، و في حين ينظر “البنك الدولي” إلى مرحلة الشباب ما بين 15 و 25 سنة. و في بيان صحفي صادر عن “الأمم المتحدة في 9 نونبر 1982 و بمناسبة السنة الدولية للشباب نجد أن المقصود بالشباب هم ” الأشخاص البالغين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و 24 سنة و ذلك دون الأخذ بمفاهيم أخرى بها الدول الأعضاء.
وبالنسبة لمجلس وزراء الشباب العرب المنعقد في القاهرة أكتوبر 1969 ، فقد عرف الشباب بأنهم الفئة التي تتراوح أعمارهم ما بين 15 و 25 سنة ،مع الأخذ بعين الاعتبار كل مجتمع عربي.
أما بالنسبة لتعريف ” منظمة اليونيسكو” من خلال مؤتمرها سنة 1965، فقد عرفت الشباب بكونهم الفئة التي يرى المجتمع و يصطلح على أنها الشباب، كما أكد “بيان برشلونة” المنبثق عن “المؤتمر العالمي حول الشباب” أن كل التعريفات المقترحة تفضي إلى تأويلات مختلفة و متغيرة باستمرار، (المؤتمر العالمي للشباب برشلونة إسبانيا 8 و 15 يوليوز 1985)”[63].
و لقد بينت ” الدراسات التي أعدت من قبل “الأمانة العامة لليونيسكو” ، و ذلك من أجل التحضير “للمؤتمر الإقليمي” الخاص بإعداد نظام المؤشرات الشبابية في “كولومبو” 1983، أنه لا يوجد حد أدنى من التوافق الدولي حول مفهوم الشباب ، و تعود المشكلة بالدرجة الأولى إلى مسألة تحديد الفئة العمرية التي تتغاير من بلد لآخر في العالم. ففي آسيا على سبيل المثال ينتسب إلى الشباب الأفراد الذين يقعون في الفئة العمرية من سنة إلى 25 سنة في التايلاند. و من 15 إلى 35 سنة في الهند. و من 15 إلى 30 في بنغلاديش، و 15 إلى 35 سنة في الهند. و من 10 إلى 24 سنة في باكستان”[64].
بعد هذا الاستعراض لمختلف التصورات و الرؤى السوسيولوجية التي حاولت جاهدة أن تقدم إجابة عن سؤال الشباب و ماهيته و حقيقته الإجتماعية، نود من جهتنا أن نبدي ببعض ملاحظاتنا النقدية حول مجمل ما قيل:
- لا يمكن النظر إلى الفئة الشبابية بالاعتماد على مقاييس بيولوجية محضة ، و ذلك لأنها تؤدي إلى إفراغ الشباب من محتواه و أبعاده الإجتماعية.
- الإعتماد على النظرة التفييئية في تحديد مفهوم الشباب ، يؤدي بنا إلى التعميم المفرط و يساهم في قتل التنوعات و الخصوصيات الثقافية، التي يتنوع الشباب بتنوعها.
- لا يمكن ربط مفهوم الشباب بمفهوم المراهقة، بحيث لا يمكن تحديد المراهقة ، بما أنها تجربة إجتماعية بمفاهيم الحلم و النضج الفيسيولوجي، بل يجب البحث عن بدايتها عندما لا ينظر المجتمع إلى الإنسان على أنه طفل ، وعندما ينتظر منه أن يتحمل مسؤوليات راشدة .
- لا يمكن النظر إلى الشباب على أنه حالة اجتماعية عائلية دراسية و فقط ، فالدراسة و العمل أو المهنة و تكوين الأسرة، تتغير ظروفها بتغير المجتمعات و اختلاف البيئة .
- الشباب ليس حالة ذهنية دائما تشمل أنواعا خاصة من الطاقة التصور للحياة و قوة الميولات، و حب المغامرة و الجرأة و التحرر. فقد لا توجد هذه الميزات و لا يدخل أصحابها تحت دائرة الشباب .
- من الصعب جدا الحديث عن الشباب كقوة متجانسة و منسجمة ، لأن ذلك يخفي وراءه أحوالا نفسية و إجتماعية متعددة.
- يبدو من الجدية بمكان من وجهة نظرنا التفكير في إشكالية متى تبدأ الأدوار المجتمعية للشباب و متى تنتهي؟ بدل التفكير في إشكالية متى يبدأ سن الشباب و متى ينتهي؟ .
- لا يمكن التعامل مع الفئة الشبابية برؤية نمطية وفق خط مستقيم تختزل الشباب ككتلة واحدة، بل إننا أمام أنواع و شرائح من الفئات الشبابية، فهناك ” فئة الشباب النخبة” و ” فئة الشباب المحظي” و ” فئة الشباب الطامحة إلى بناء حياة كريمة ” ، و ” فئة الشباب المهمش” (شباب الظل)، و “فئات الشباب المندمج” ، و “فئات الشباب المهاجر”، و “فئات الشباب المنخرط سياسيا” ، و “فئة الشباب الذي يعرف عزوفا سياسيا”…الخ.
خلاصات مقارنة.
إن الفهم السوسيولوجي والأنتروبولوجي لظاهرة الممارسة الدينية لدى الشباب الحضري ، لابد وأن يقر بمبدأين أساسيين من وجهة نظرنا:
- المبدأ الأول: ضرورة الإقرار بتحول الممارسة الدينية وفق مسار تاريخي معقد تتداخل فيه العناصر الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية ، مع ضرورة الاعتراف طبعا بدرجة وقوة ومستويات هذا التحول .
- المبدأ الثاني: هذا التحول شكل محطة عديد الباحثين الأنتروبولوجيين والسوسيولوجيين المغاربة منهم والأجانب على حد السواء، وبالتالي واكبته هذه المقاربات بالدرس والتحليل ، مع اختلاف المرجعيات والخلفيات والمناهج، حيث حاولت رصد وتحليل مسارات هذا التحول ونتائجه وانعكاساته على حياة الفرد والمجتمع، خصوصا ونحن نتحدث عن ظاهرة تمتاز بالدينامية والحركية تبعا لحركية المجتمع وديناميته.
انطلاقا من هنا كان لابد من طرح بعض الخلاصات والاستنتاجات التي توصلت إليها هذه الدراسة وفق مقاربة مقارنة ، تستحضر معها مختلف الانتاجات والدراسات السابقة التي أنتجت في الموضوع، وبالتالي فنحن لا ندعي بأن هذا العمل يشكل نقطة البدء والختام حول موضوع الممارسة الدينية ، بل هو فقط مساهمة متواضعة تحاول إثارة النقاش حول هذا الموضوع ، ومحاولة التجديد فيه على مستوى زوايا النظر والمعالجة ، مع التأكيد على ضرورة المواكبة المستمرة لهذا الموضوع.
إننا والحالة هذه ، ننطلق من قناعة منهجية مفادها أنه لا يمكن لأي بحث علمي أن ينطلق من فراغ بل نتاج طبيعي لأبحاث ودراسات سابقة عليه ، لا يمكن بأي حال من الأحوال القطع معها ابستيمولوجيا ، فهي تشكل مرجعية علمية بحثية والعودة إليها مطلب منهجي تفرضه علينا الضرورة العلمية، قصد اختبار مدى نجاعة الفرضيات التي انطلقنا ومدى مصداقية الخلاصات والنتائج التي توصلنا إليها في الدراسة، فإلى أي حد تتواءم هذه النتائج والاستنتاجات مع ما استطعنا الحصول عليه من دراسات وأبحاث وتقارير علمية قاربت الظاهرة الدينية على المستوى الوطني؟ .
توصلنا في البداية ، على مستوى تمثلات الشباب الحضري للتدين ، إلى أن العينة المبحوثة اعتبرت أن التدين يشكل التزاما وتقيدا بتعاليم الدين الإسلامي مع تأكيدهم على البعد الاجتماعي للمارسة الدينية ، ولعل هذا ما خلصت إليه الدراسة التي قامت بها ” وزارة الشباب والرياضة حول الشباب والدين” والتي شملت 300 شاب مغربي من كل جهات المملكة المغربية، ففي جواب على سؤال ، إلى أي حد تعتبر نفسك من الشباب المتدين تطبيقا ( بمعنى الالتزام) لا قولا؟ عبر 89 في المائة من الشباب على أنهم متدينون وينفذون العبادات ، و25 في المائة من العينة المذكورة قالوا بأنهم جد مطبقين للعبادات والتعاليم الاسلامية ، و22 في المائة منهم قالوا بأنهم مطبقون، و42 في المائة قالوا بأنهم يطبقون العبادات والتعاليم الاسلامية إلى حد ما ، أما 11 في المائة من الشباب المكملة لنسبة 89 في المائة ، فقد اعترفوا بأنهم شباب غير متدين ، و7 في المائة منهم مستعدون لتنفيذ هذه التعاليم ، و4 في المائة لا يتقيدون بشيء. على هذا الأساس خلصت هذه الدراسة إلى ضرورة اهتمام الآباء بتلقين الأبناء الأسس والقواعد الدينية لأبنائهم ، الأمر الذي يشي بالبعد الاجتماعي للممارسة الدينية وهو نفس الاستنتاج الذي خلصنا إليه.
نبقى في إطار التمثلات دائما، حيث اعتبرت النسبة الأكبر من الشباب الحضري أن التدين يعد من الأمور المكتسبة ، وأن دافعهم للتدين هو دافع اجتماعي يعمل على تلبية حاجيات اجتماعية ، ولعل هذا ما ألمحت إليه الدراسة التي أنجزها “المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة ” حول الشباب المغربي والتدين والتي شملت الشباب المتراوحة أعمارهم ما بين 15 و 35 في 12 جهة بالمغرب، حيث توصلت إلى الدين يشكل جزءا أساسيا من الحياة الخاصة والحياة العامة لدى 79 في المائة من الشباب المغربي، وأن هذا الأخير يتفق بنسبة 71 في المائة على أن التدين يمتلك حلولا على المستوى الاجتماعي والسياسي ، فيما يتفق 57 في المائة على أن الدين يمتلك حلولا اقتصادية لمشاكل اليوم …[65] وفي نفس السياق كشفت دراسة حول القيم والممارسات الدينية في المغرب، أنجزتها مؤسسة “آل سعود للدراسات والعلوم الانسانية ” بالدار البيضاء شملت 1156 مغربيا يمثلون 16 جهة بالمغرب، كشفت أن 14 في المائة من المغاربة يعتبرون أن الدين شأنا فرديا ، في حين 65 في المائة اعتبروا أن للعائلة تأثير على تدينهم وممارستهم الدينية…
إذا انتقلنا الآن إلى أشكال التدين ، فقد خلصنا في هذه الدراسة إلى أننا أمام أنواع متعددة من أنماط التدين يأتي في مقدمتها التدين الحركي ، حيث تلعب حركات الاسلام السياسي دورا كبيرا في نشره بين الشباب في الوسط الحضري . ولعل هذا ما تغافلت عنه الدراسات التي عثرنا عليها. فبدءا بالدراسة المنجزة من طرف المعهد الأمريكي “غالوب” في شهر مارس 2010 ، و”تقرير الاسلام اليومي” المنجز سنة 2007 [66]، و” البحث الوطني حول القيم سنة 2005 “[67]، وغيرها من الدراسات التي لم نجدها توجه عملها البحثي الميداني إلى إبراز الأدوار التأطيرية التي تلعبها حركات الاسلام السياسي في المغرب، في تلقين الشباب الحضري لأنماط متعددة من التدين ، تتعدد وتختلف بتعدد واختلاف هذه الحركات وتأويلها للدين وللممارسة الدينية عموما، وهو تعدد يسكنه هاجس إيديولوجي يصب في نهاية المطاف في هدف إقحام التعاليم والتشريعات الاسلامية فيما هو سياسي ، وبالتالي ممارسة السلطة السياسية بناء على هذه الخلفية الإيديولوجية ، هذا إذا استثنينا الدراسة التي أجرتها وزارة الشباب والرياضة التي أشارت إلى ضعف ومحدودية التأطير الديني المدني…
كما لا يفوتنا أن نشير هنا إلى أن تفسيرنا لتصدر التدين الحركي مقارنة مع أنماط أخرى من التدين ، يختلف بشكل كبير مع التفسير الذي ذهبت إليه الباحثة ” مونيا بناني الشرايبي” ، حينما اعتبرت بأن مساندة الشباب للحركات الإسلامية يعبر عن تنامي النزعات الفردية الأسر لاعتماد قيم دينية بديلة كشكل من أشكال الاحتجاج والثورة على القيم الأبوية السائدة في المجتمع والداعمة لاستمرار الاستبداد السياسي”[68] .
وفي نفس السياق خلصت إلى أن لوسائل الإعلام دور كبير في تغيير أنماط التدين لدى الشباب الحضري، وفي هذا المقام يمكن القول بأن هناك دراسات ، وإن لم توضح ، أن لوسائل الإعلام المختلفة دور في تعدد أنماط التدين ، إلا أنها كشفت عن وجود تنوع كبير في مصادر المعرفة الدينية من إنترنيت وأقراص مدمجة وفضائيات كمصادر مغذية للمعرفة الدينية الجديدة ودخول وسائل حديثة أصبحت تنافس الوسائل التقليدية للتنشئة الدينية في المغرب، غير أن ” تقرير الإسلام اليومي “الصادر سنة 2007 يشير إلى استمرار تصدر المسجد لمصادر المعرفة الدينية بالنسبة للمغاربة ، الأمر الذي يشي بوجود تضارب يصل إلى حد التناقض بين هذه الدراسات حول مصادر المعرفة الدينية، فالمؤكد وهذا ما توصلنا إليه ، أن وسائل الإعلام أصبحت اليوم الموجه والمؤثر الحقيقي في عملية التدين خاصة لدى الشباب . إننا والحالة هذه، أمام تراجع لرموز السلطة الدينية التقليدية المتمثلة في الشيخ والفقيه والعلامة والإمام، حيث أصبحت هذه المصادر والمراجع كلها موضع نقد وتساؤل، ولعل الإمكانيات التي تتيحها وسائل الإعلام الحديثة على مستوى سهولة الوصول إلى المعلومة هو العامل الذي يبدو لنا وجيها في تفسير هذا الأمر ، الشيء الذي يؤثر بشكل أو بآخر في تعدد وتنوع أنماط التدين.
واستمرارا في نفس سياق تعدد أنماط التدين لدى الشباب الحضري ، توصلنا إلى خلاصة أساسية مفادها أن هناك علاقة وثيقة بين الخطاب الديني والعنف ، فقد تبين لنا من خلال هذه الدراسة أن الخطاب الديني الذي يبث في وسائل الإعلام اليوم له بالغ الأثر على فئة لا بأس بها من الشباب الحضري من حيث توجههم إلى تبني أفكار تمتاز بالإنغلاقية والمحدودية ، قد تصل أحيانا إلى التطرف وممارسة العنف، ومرد ذلك في نظرنا إلى ضيق أفق الخطاب الديني الإسلامي المعاصر وترنحه تحت وطأة من السيل الجارف للحداثة الغربية على جميع المستويات ، الأمر الذي جعل ممثلي هذا الخطاب الاسلامي إلى تبني توجه عام يسير نحو الماضي، بهدف حفظ نوع من الخصوصية بدلا من الذوبان المطلق فيما أفرزته الحداثة من أفكار ورؤى وقناعات تسير رأسا نحو التخفيف إن لم نقل القضاء من سطوة الدين على الحياة الاجتماعية والسياسية داخل الإجتماع البشري .” فالشباب يتشبث بشكل عام بالماضي كأداة لفهم وتأويل النصوص المقدسة، حيث ترتكز المقاربة الماضوية للدين على ماض متخيل ، مثالي وغير واقعي ، وتبقى ملامح الشخصيات الدينية الرئيسية تقريبية ، غير دقيقة وخارج التاريخ. يبدأ الكثير من الشباب حديثهم عن معتقداتهم الدينية بعبارة ” يقال” “سمعت بأن” ، حيث يغلب الانتماء والعواطف على الجوانب المعرفية وتختلط التمثلات بالوقائع التاريخية المجتزأة والخرافات والروايات الأسطورية”[69] ، إن هذه المحدودية والإنغلاقية التي تميز الخطاب الديني اليوم هي تعبير عن حيرة وتيهان العقل العربي أمام واقع اليوم، وانشطار ذات الشباب المسلم بين مطرقة منجزات العصر الحديث وسندان متطلبات الإنتماء الهوياتي الضيق الذي يضرب بجذوره في ماضي الإسلام السحيق لما كانت الأمة الإسلامية ذات بأس شديد، “فوضع الشباب غير المريح يرجع بالأساس إلى استمرار التجاذب غير المحسوس بين قيم الحداثة المفروضة وقيم التراث، التقليد والمحافظة”[70]. إن هذا التحليل الفلسفي للخطاب الديني ، وإن كان ليس ما نسعى إليه في هذه الخلاصة ، إلا أننا نجد له وجاهة إبستيمولوجية على اعتبار أن أي خطاب ديني وراءه عقل يشتغل وفق ميكانيزمات في التصور والحكم على الأشياء. وبالعودة إلى التحليل السوسيولوجي نجد أن الخطاب الذي يبث في وسائل الإعلام هو في الغالب خطاب مشيخي مشرقي يتلقى الدعم الكامل من طرف بعض الأنظمة السياسية ذات التوجه المحافظ ، نظرا لقوته الكبيرة على التأثير وصناعة الرأي العام، غير أننا لم نعثر في الدراسات التي عثرنا عليها على ما يزكي هذه الخلاصة التي توصلنا إليها.
وأما عن علاقة الهوية بأنماط التدين لدى الشباب الحضري فقد توصلنا في هذه الدراسة إلى أن الدين يشكل محددا من محددات الهوية لدى الشباب الحضري، ولعل هذا ما أشارت إليه العديد من الدراسات نذك منها على سبيل المثال لا الحصر ، الدراسة التي أنجزها ” المعهد الأمريكي غالوب” سنة 2010 ، حيث صنفت المغرب من البلدان الأوائل في العالم التي يشكل الدين فيها جزءا مهما من الحياة اليومية لمواطنيها، فحوالي 93 في المائة من المغاربة يعتبرون أن الدين يمثل شيئا أساسيا في حياتهم اليومية ، في حين أجاب 6 في المائة فقط بالعكس”[71]، هذا بالإضافة إلى دراسة “أندري آدم ” حول “الشباب المغربي والتدين سنة 1961”[72] التي أكد فيها أن الدين في المجتمعات التقليدية يشكل محورا مركزيا في حياة الناس وكثيرا ما تتجمع الرموز الدينية والطقسية وتتغلغل في تفاصيل الحياة المادية والروحية والثقافية والفنية – كذلك لا ننسى الدراسة التي أنجزتها وزارة الشباب والرياضة، الذي خلصت فيها إلى أن التدين يشكل معطى أساسيا في تحديد هوية الشباب المغربي. غير أننا لم نتوقف عند هذا الحد في هذه الخلاصة ، بل لامست وجود علاقة بين تغير أنماط التدين لدى الشباب الحضري وتغير هويتهم ، صحيح أن هوية جماعية مشتركة ، لكنها تتلون وتتغير حسب شكل التدين لدى كل فرد على حدة ، وذلك راجع في نظرنا إلى أمرين:
تمثل كل فرد للدين وللممارسة الدينية بشكل عام ، ونوع التدين الذي يفرضه الإنتماء الحركي أو التأطير الديني.
أخيرا ، خلصنا في دراستنا إلى وجود علاقة وثيقة بين أنماط التدين وعملية الاندماج الاجتماعي في الفضاء المشترك ، بالشكل الذي يمكن القول معه بأن هذه الأنماط لها بالغ الأثر سلبا أو إيجابا على عملية الاندماج ككل ، فلقد تبين لنا الدراسات التي اطلعنا عليها لم تشر إلى هذه النقطة ، في الوقت الذي توصلت فيه نتائج دراستنا أن الشباب الذين يلتحقون بالجماعات الدينية لديهم نمطا معين من التدين الذي نسميه التدين الحركي، والمفارقة هنا أن التحاقهم بهذه الجماعات هو راجع بالأساس إلى عدم قدرتهم على الاندماج في الفضاء المشترك من جهة، وهذا الالتحاق يفرض عليهم عدم الاندماج من جهة أخرى. وعلاقة بالنقطة الأخيرة ، يمكن القول بأن هذه الحركات تفرض على المنتمي ألا ينساق مع ما هو سائد ، فالسائد فاسد ومنحل لا يجب الانغماس فيه ، والمطلوب هو تعويضه بما هو أجود وأحب وأرضى لله والرسول، وعلى هذا الأساس تبنى شخصية المتدين الحركي.
خلاصات عامة للدراسة.
إن مهمة السوسيولوجيا هي تناول الوقائع والسعي إلى فهم الظواهر، والبحث داخل بنتياتها ؛ ومن خلال تطورها للوقوف على الأسس والعلل من خلال التجليات ؛ ومن هنا كان الإهتمام بالظاهرة الدينية داخل المجتمع المغربي ومحاولة فهم طبيعة تبلورها تاريخيا وحاضرا، والإمساك بجوانب الظاهرة اقتضى القراءة السوسيولوجية للوقائع بمجموعة من التصورات والمفاهيم لفهم أسسها الثقافية والاجتماعية .
لقد برزت الظاهرة الدينية ضمن مجموعة من التحولات الجارفة التي يعرفها المجتمع المغربي في جميع مجالات الحياة الفردية والجماعية ؛وخاصة لدى الفئة الشبابية كجزء لا يتجزأ من هذه التحولات سواء على مستوى التمثلات و التصورات ؛ أو على مستوى الممارسات والأفعال ؛ فتعقد الحياة الاجتماعية لدى هذه الفئة جعلها تلقي بظلالها على مستوى الحياة الدينية والتدينية نظرا للتفاعل والتداخل ما بينهما؛ فكل إنتاج لحياة اجتماعية إلا ويصاحبها إنتاج حياة تعبدية وعقائدية وتدينية يحاول من خلالها الشباب كيفية التأقلم و الانسجام مع هذا الواقع من جهة ؛ والبحث عن أجوبة محتملة عن كل ما يكتنف هذا الواقع من ظواهر ووقائع وأحداث من جهة ثانية .
ولقد أراد هذا العمل المتواضع الكشف عن أبرز التحولات التي مست الظاهرة الدينية في علاقتها بالفئة الشبابية ؛ وتوضيح بعض المتغيرات الحديثة التي دخلت على الخط و بدا تأثيرها واضح على الحياة التدينية للشباب ؛ بالإضافة إلى تراجع بعض المؤسسات التقليدية وظهور مؤسسات حديثة وموازية ساهمت في بروز أشكالا وأنماطا متعددة من التدين.
انطلاقا من هنا فقد سجل الدراسة عدة خلاصات من بينها :
- على مستوى تمثلات الشباب الحضري حول التدين ، فقد اعتبرت هذه العينة أن التدين يشكل التزاما وتقيدا بتعاليم الدين الاسلامي، وهو يشير إلى المعنى الشرعي لمفهوم التدين ، كما أكد الشباب الحضري كذلك على البعد الجماعي للممارسة الدينية.
- ومن جهة أخرى اعتبرت النسبة الأكبر من العينة المبحوثة أن التدين يعد من الأمور المكتسبة، كما سجلت الدراسة بأن دافع الشباب للتدين هو دافع اجتماعي يعمل على تلبية حاجيات اجتماعية .
- وأما من ناحية أشكال التدين فقد سجلت الدراسة بأننا أمام أنواع متعددة من أنماط التدين، يتقدمها التدين الحركي كنمط مهيمن على الأنواع الأخرى، كما تلعب حركات الإسلام السياسي دورا كبيرا في نشره في وسط الشباب الحضري.
- في حين سجلت الدراسة أن لوسائل الاعلام دورا كبيرا في تغير أنماط التدين لدى الشباب الحضري ، على اعتبار أن هذه الوسائل تعمل على تكريس أنماط متعددة من التدين وليس نمطا واحدا، إلا أن انتشار هذه الوسائل يؤثر بشكل سلبي في الحفاظ على خصوصية الممارسة الدينية المغربية.
- وفي علاقة التدين بالعنف في وسائل الإعلام الحديثة وخصوصا الخطاب الديني، أكدت نتائج الدراسة على وجود علاقة وثيقة بين الخطاب الديني والعنف ، وذلك لكون هذا الخطاب يتميز بالانغلاقية وعدم الانفتاح، كما أكدت نتائج هذه الدراسة على أن العنف والتطرف الموجود في العالم العربي اليوم ،يعود سببه بشكل كبير إلى الخطاب الديني الذي يبث في وسائل الاعلام، وهي ما أكدت عليه نسبة كبيرة من العينة المبحوثة حينما اعتبرت أن تجديد ومراجعة الخطاب الديني ، يعتبر من الحلول الرئيسية للحد من التطرف والعنف الدينيين.
- وأما عن علاقة الهوية بأنماط التدين لدى الشباب الحضري ، فقد سجلت الدراسة أن الدين يشكل محددا رئيسا من محددات الهوية لدى الشباب الحضري ، كما أكدت الدراسة على وجود علاقة بين تغير أنماط التدين وتغير هويتهم، وبالتالي فكلما تغيرت الممارسة الدينية إلا وأدى ذلك إلى تغير هويتهم، الشيء الذي يؤدي إلى نتيجة مفادها أننا أمام هويات متعددة وليس أمام هوية واحدة و تابثة .
- أما فيما يتعلق بأنماط التدين وتأثيره على عملية الاندماج في الفضاء المشترك ، فقد أكدت الدراسة على وجود علاقة وثيقة بينهما، بل أكثر من ذلك اعتبرت أن الشباب الذي يلتحقون بالجماعات الدينية المتطرفة يحملون نمطا تدينيا حركيا، أما فيما يخص أسباب التحاقهم بها ، فقد أكدت الدراسة على أن العوامل الاجتماعية تلعب دورا كبيرا في هذا الجانب ، وبالتالي فإن عدم اندماجهم في الفضاء المشترك يعد سببا رئيسا وأكثر أهمية من الأسباب الأخرى في التحاق الشباب بالجماعات الدينية المتطرفة، كما ذهبت الدراسة إلى أن الأسرة تعتبر المسؤولة بدرجة أولى على عدم اندماجهم في الفضاء المشترك.
تأسيسا على ما سبق يمكن القول بأن الممارسة الدينية لدى الشباب الحضري بالمغرب تراوحت وتأرجحت بين ثنائية التباث والتحول، ولا يمكن التسليم بتباثها بشكل كامل أو بتحولها بشكل مطلق، بل إن هذه الممارسة والأشكال حافظت على بعض خصوصيتها وعناصرها من جهة ، وخضعت لتحولات كبرى من جهة ثانية ، الشيء الذي يصعب معه الحسم بشكل نهائي ومطلق في هاتان الثنائيتان .
فمن ناحية التباث حافظت الممارسة الدينية للشباب الحضري على بعدها الاجتماعي ، أي الالتزام بمضامين الشريعة الاسلامية ، وذلك عن طريق تجسيدها داخل الجماعة الدينية، والذي تنتقل عبره مختلف أشكال التبادلات الاجتماعية والرمزية، وتتقوى عبره العلاقات الروابط الاجتماعية ، بالإضافة إلى حفاظه على بعده المكتسب.
أما من الناحية التحول ، فقد عرفت الممارسة الدينية لدى الشباب الحضري ، تحولات على مستوى أنماط التدين الذي انتقل من بعده الرسمي إلى بعده الحركي، والذي لعبت فيه مختلف وسائل الإعلام الحديثة دورا كبيرا، كما انتقلت الممارسة الدينية من بعدها التسامحي والمعتدل ، إلى بعهدها العنيف والمتطرف ، وذلك عن طريق الخطاب الديني الذي يمتاز بالانغلاقية والتعصب، هذا التحول أثر كذلك على أشكال الهوية ، حيث انتقلنا من هوية واحدة إلى هويات متعددة ، والتي لعبت فيها الممارسة الدينية دورا كبيرا، والأمر ينطبق كذلك على عملية الاندماج الاجتماعي في الفضاء المشترك، والذي لم تعد فيه الممارسة الدينية عاملا مساعدا، بل أصبحت تعمل على عرقلة هذا الاندماج.
وفي الأخير لابد من التأكيد على أن عموم الفرضيات التي انطلقت منها الدراسة قد تحققت وتأكدت من خلال المنهجية التي ثم اتباعها من جهة ؛ ومن خلال التساؤلات التي ثم الإجابة عنها من جهة ثانية .
لكن مادامت الممارسة الدينية والفئة الشبابية يعرفان تحولات ؛ وفي ديناميكية وحركية مستمرة ؛ فإن السؤال السوسيولوجي بانهجاسه المعرفي والتساؤلي المتواصل يبقى مواكبا ومراقبا لكل هذه التحولات قصد تفكيك وكشف كل ما يعتل هذا المجتمع من جهة ؛ والبحث عن إجابات محتملة تساعدنا على رسم ملامحه ومعالمه الأساسية من جهة ثانية.