وجهة نظر

المشروع والرقمنة والبيئة والعمل من أجل “عالم أفضل” ذ. عبد الواحد حمزة

ذ. عبد الواحد حمزة

مقـدمـة:

لازال القليل من الدوغمائيين يُخْرجون عند الحاجة فكرة محنطة “ما”، أو نصا مبسترا أو في سطور معدودة، لرمز من رموز الفكر الماركسي، لكن نادرا ما يتناولون بالطرح الإبستمولوجي اللائق والمناقشة الجدية لذات الفكر وتطبيقاته التاريخية، والذي من الممكن – على فكرة – أن يكون قد وصل كليا أو في بعض ما تناوله – لـ”حدوده التاريخية” (انظر الصعيب حسن، الماركسية ونظرية التغيير الثوري، 2022)، أو أن يصل “النموذج التنظيمي اللينيني” – ذو الطابع اليعقوبي البلانكي – للاشتراكية الفعلية حد “نفي الديموقراطية”، (نفس المرجع)، أو أن يصل النضال الجماهيري العفوي – كما نظرت له روزا لوكسمبورغ إلى الباب المسدود، وكذا قصور التطرق إلى إشكالات الوعي الطبقي واستلام السلطة من طرف البروليتاريا الصناعية عند كاوتسكي ولوكاش، وغيرهما .

كل هذه المقاربات جريئة لتبيان حدود “الماركسية الكلاسيكية”، لكن السؤال المفتوح أمام التحولات التي تعرفها الرأسمالية اليوم هو مدى نجاعة الماركسية – حتى في تجددها – على القيام بمهامها الأساسية، مهام التحليل الاقتصادي- السياسي – والاجتماعي (…) – بمفاهيم ومنهاج محدد – والتغيير وبأي أسلوب – التغيير الثوري أو السلمية (العلنية – الديمقراطية – اشتراكية القرن 21،…) (انظر خ.أ 2022)،  و” فك الارتباط ” للخروج من النظام العالمي (سمير أمين، 1986).

وإذا كان “البنك السويدي” – شماتة في تحيز جائزة نوبل لصالح الاقتصاديين الليبيراليين والنيوليبراليين / الأورتودوكس- من أتباع فالراس المؤمنين بعقلانية الأسواق وحدها دون تدخلية الدولة، بحيث لم يحصل عليها لحد اليوم من اقتصاديي التنمية إلا 3 علماء (ويليام آرثر لويس وتيودورشولتز سنة 1979 والاقتصادي الهندي الليبرالي-“التقدمي” أمارتيا سن عام 1998) ودون الإيترودوكس/ السوسيو اقتصاديين والاقتصاديين الراديكاليين، وهم الذين يفتحون الاقتصاد على مكوناته أولا وعلى محيطه ثانيا من علم  نفس وسياسة وتاريخ وفلسفة، …إلخ. إنهم يتناولون قضايا متعددة وفارقة مثل البيئة والرقمنة والأخلاق والنزاهة والعيش المشترك والمناخ…إلخ، كما يتم إبعادهم من الوظائف الحساسة في المؤسسات الرسمية، كالجامعات والمقاولات، عموما….).

وقد أنتجت الماركسية في بلدان الهامش علماء اقتصاد ذوو باع، علماء- ثالثيين، من أمثال سمير أمين وغاندر فرانك وغيرهما. ومن “منظري الضوبطة عبر الدولة” في أميريكا اللاثينية وفي بلاد النمور، نذكر بويي روبير، أغلييتا، ميسترال، إيكينيكوف، لانزاروتي، ليبييتز وأومينيامي، وآخرون. وفي المغرب نذكر أمثال بلال عزيز وباسكون بول ونور الدين العوفي (…). هكذا وضعت مسألة التراكم والتوزيع وإشكالية النمو من الداخل- الوطن الشعبي المتمركز على الذات، ودرجة الانفتاح على العالم، وثقل الأزمات وضرورة التقويمات، وإمكانية التخلص من النظام الاحتكاري العالمي الجديد (…) موضع تساؤل ومسؤولية لدى اليسار، خاصة. ومن المواضيع المركزية التي ستشغل موضوعنا إشكالية الشغل في  القرن 21، لاعتبارها التيمة- الأساس والنواة الصلبة ذات الأشكال التاريخية المحددة، لدى السوسيو اقتصاديين.  وهو ما سنعالجه في بابين اثنين:

القسم الأول: “الماركسية الخلاقة” ممارسة سياسية واعدة لاستنهاض “الكامن” وإدماج مختلف الرؤى .

القسم الثاني: مكانة مفهوم العمل في ظل الرأسمالية الاحتكارية المعممة اليوم وفي أفق اشتراكية الغد.

القسم الأول: “الماركسية الخلاقة” ممارسة سياسية واعدة لاستنهاض “الكامن” وإدماج مختلف الرؤى السياسية والرقمية والإيكولوجية…

سنتطرق في البداية إلى بعض ملامح المشروع السياسي اليساري التنويري العام، قبل أن نواصل بطرح بعض السجال الرفاقي- الثقافي العام، حول المشروع السياسي والرقمنة والبيئة ومواضيع أخرى. وهو أمر يستلهم صنافات كل من إدغار موران واقتراحات بعض الرفاق حول الرقمنة والبيئة وعلاقة التكنولوجيا بالعمل وقوته.

 أولا: في “الماركسية الخلاقة” ودمج الرؤى المختلفة والمتنافسة

إن الماركسية – ذاتها – مجرد نتاج لمرحلة تاريخية معينة، من اللازم أن ينطبق عليها ما يسري على كل الظواهر التاريخية الأخرى، ومن ثمة وجوب إبداع نظرية جديدة للتغيير تستوعب مختلف اجتهادات الماركسيين الجدد، بتجاوزها هي بالذات، ما دامت مرتبطة ومتطابقة – في “الأصل” و”الفرع” – مع الرأسمالية – ومن تمة، تحتاج للتطور التاريخي (انظر باجو حميد، 2022). ثم هل بإمكان الماركسية – الوجه الجديد – أن يلم بتحولات الرأسمالية – الإمبريالية – متجاوزة نفسها بنفسها – متحدية الوجه القديم لها من طرف أهل الدار/ الأحفاد، أم أن الأمر يستلزم القسطرة من خارج الدار/ خارج “حراس المعبد”، بالضرورة؟

هل كان ولا زال البناء الاقتصادي – الاجتماعي هو المحدد – في آخر المطاف لباقي البنيات الفوقية، من دين وإيديولوجيا وحقول الثقافة والسياسة؟ أي أسلوب ينفع في تحديد وتجديد الممارسة السياسية: أسلوب التغيير الراديكالي أو الأسلوب السلمي – العلني ولأي قوى ومع أي نخب؟! ما نجاعة مثلث الفعل السياسي الذي يقترحه خ.أ: الأصولي – الليبرالي واليسار؟ ما نجاعة الشبكة التي يقترحها إدغار موران، التحررية والاشتراكية والشيوعية والبيئية – الإيكولوجيا، في أفق “عالم أفضل”؟

“عالم أفضل” قلتم؟ لا مؤشر إيجابي على ذلك، لحد الساعة! هل هو تشاؤم؟ قد يكون كذلك، لكنه مشفوع له بالتطلع ومحمول بالمقاومة! هل من أمل صراحة، اليوم، لصد الهمجية والعنصرية وكره الأجنبي وتبخيس قيم إنسية – كونية، كالمساواة والحرية والعدل والكرامة(…)؟! أمام هول التراجع والنكوص المسجل على مستوى حقوق الإنسان في المغرب والعالم، وحق الشعوب في رسم آفاقها باستقلال تام وسيادة على مقومات الدولة الوطنية (…) لا يسعنا إلا أن نتوجس على أن لا تكون البشرية الإنسانية قد بدأت بعد! ولتعلو – بالرغم من ذلك كله- أصوات متفائلة ووجهات نظر رصينة تدعو الالتفات إلى ديناميات صاعدة، هنا وهناك، والتعريف بها وجر الانتباه للممارس السياسي إلى ما يطفو منها عبر العالم، من مبادرات متعددة، فإيجاد حلول لمشاكل حيوية، وهي حُبلى بالمستقبل.

فبالرغم من أنها مبادرات متناثرة ومتفرقة ومجزأة وحتى جاهلة – أحيانا كثيرة – لبعضها البعض، لكنها تستحق أن تُعرف. كما أن احتمال التقائها يمكن أن يحبل بمسالك إصلاحية جديدة. وهو أمر يتطلب، بالتأكيد، مجهودا جبارا من طرف المثقفين/ المفكرين – قبل غيرهم – لتركيب الرؤى – المتضامنة والمترابطة في ما بينها – (أهمية الفكر السياسي، أساسا) وبحث السبل الناجعة وإدماج المعارف اللامحدودة والمتناثرة اليوم في “كل”، لتقدير الوضع الإنساني (الكون – المحيط – التاريخ) ككل، وللنظر في مصير من حجز مقعداً في المكوك الفضائي – الأرضي من بين الأمم والشعوب (انظر إدغار موران، 2022)، ولنا في ما يقترحه هذا المفكر مشروع متكامل ليسار مستقل؛ فمن يأخذ؟!

فإذا كان اليسار (العالمي/ المغربي…) وريث فخري لكل الأفكار والحدوسات والنظريات الاشتراكية (الاشتراكية الطوباوية، الاشتراكية العلمية…) بنجاحاتها وإحقاقاتها (في المراكز الرأسمالية – الامبريالية وكذا في المحيطات، على مستوى حركات التحرر الوطنية…)، بإيجابياتها وسلبياتها النسبية (الاتحاد السوفياتي سابقا، الديموقراطيات الشعبية،… الصين، فنزويلا (…))؛ فإن ذلك يعني – استلهاما لفكر موران إدغار – البحث عن تقاطعات فكرية “كليانية”، لكن تعترف وتقدر الاختلافات، إذ هي ليست “شمولية – توليتارية” تجمع شتات المتناثر، هنا وهناك، مما هو متضامن ومترابط في الممارسة السياسية – أساسا.

وإذا قدّرنا أن تكون “اشتراكية الغد”، أو ما أصبح يعرف بـ”اشتراكية القرن 21″ أو التركيز على معضلات البيئة كما عند الاشتراكيين – الإيكولو” الخ، اعتمادا على ماركس أو بدونه، فإن الممارسة السياسية لليسار (العالمي – المغربي) مجبورة على الجدل والحوار (التحالفات، التكتيكات، الاستراتيجيات…). فبقدر ما هي “استمرار” “ليوتوبيا” نبيلة (إمحاء علاقات الاستغلال والاستيلاب والاستبداد والاستحواذ والإهانة…)، فهي بالتأكيد – أيضا – “قطيعة” مع العديد من الأفكار والتطبيقات لاشتراكية الأمس واليوم.

وعليه، فإذا أراد اليسار ذاك – أن يتموقع (إبستمولوجيا ونظريا وفي الممارسة العملية…) – اليوم – قبل المستقبل – من أجل “مجتمع أجمل” – فما عليه إلا أن يركب “الصعب – الممتنع” – أن يفي بشرط واحد أصبح ضروري وحاسم في عالم اليوم – قبل الغد – شرط الخلق والإبداع والابتكار والصواب والمواءمة والنقد (المنهجي – النظري – الإجرائي…) والمبادرة والمباغتة وتنويع أشكال ودرجات النضال والصراع (…).

ولنتذكر – دون أدنى “فوضوية-  مدمرة نيهيلية”  Nihiliste – ماركس، فيما قاله: “لست ماركسيا”!، ولعله يعني بذلك – أولا وقبل كل شيء – أن لكل مجتمع – كالمغرب وغيره – لكل حقبة او معركة رجالها ونساؤها (أي رجالاتها وهم/ وهن من “ترَجّل”) ومناضلوها/ات ومفكروها(ات)، المنخرطون/ات في صيرورة ممارسة تاريخية طويلة ومعقدة المدة والأشكال والدرجات والاستمراريات والقطائع الضرورية.

إنها دعوة صريحة لكل روافد ذلك الفكر وتلك الممارسات إلى المساهمة – كل من موقعه وموقفه – في مشروع يساري جديد/ متجدد/ ومستجد، إن على مستوى التحليل النقدي أو الممارسة في الميادين. وهو – للعلم – أمر مؤسسات ومراكز ونضال وصراع، اكبر من أن يأخذه على عاتقه “باحث يتيم” أو “مكافح دانكشوطي مغمور”!.

ولعل من بين تلك المواقع/ المواقف، ما اصطلحنا عليه “الماركسية الخلاقة”، أو “المنفتحة” أو “الغير المتحجرة” أو “المستجدة”، الخ، وأردنا الدفع بما فيها أو بما تسمح به من خلق وتخصيب وإبداع، لأنها – في “المدخل” و”المصب” – لا يمكن تجاهلها – حتى من طرف من عارضوها أو انتقدوها أو خاصموها (…) من أبناء جلدتها أو من أعدائها (انظر فوكو ياما،…)؛ إذ ظلت تستفز نفسها – دون دوغمائية – قبل غيرها. ثم إن فصائل اليسار تجمعها “وحدة الأصل” ولربما “وحدة التطلعات”، بالرغم من تناثرها وتجزؤها وتفرقها (…). ويكفي أن نعتبر أنها تتطلع إلى “عالم أفضل” أو “أقل سوء”! إذ أن الجبهات الشعبية واتحادات المقاومة والتكتلات عبر التاريخ القريب أو البعيد (الجبهة – الكتلة الديموقراطية، تجمع اليسار الديمقراطي، فيدرالية اليسار الديموقراطي، حزب الخضر المغربي ومجموعة الثمانية التي شطبتها 20 فبراير…) ظلت للحسرة عابرة على العموم، ولعل القاعدة الحيوية هي التعارضات والصراعات والاختلافات بين قوى اليسار، بإيعاز من نفسها ومن النظام السائد.

وذلك لم يمنعها قط أن تشارك – كل من موقعه وموقفه – من تطعيم الفكر الاشتراكي – أوروبا القرن 19- الجناح الإصلاحي الاشتراكي/ المغربي مطلع الستينات للقرن 20، الخ – فيما دافع الشيوعيون – أينما كانوا (فرنسا، الحزب الشيوعي المغربي،…) عن “رابطة الأخوة بين الناس”، ما يمكن لذلك أن يخفيه من تهميش المصلحة الوطنية والطبقية (حالة المغرب تحت الاستعمار الفرنسي)، عن وعي أو عن سوءه. أما “الفكر التحرري” فدافع ولا زال على قيمة استقلالية الفرد والجماعات، في عالم تطغى عليه المجموعة/ القبيلة والإجماع القاتل (…)؟! وقد رأينا كيف انتقل اهتمام جزء من اليسار من مفهوم “الطبقة العاملة” الماركسي إلى مفاهيم مهمة راهنة أخرى، كـ”الطليعة” و”النخبة” و”الأنتلجنسيا” (عبد السلام الموذن، مصطفى بوعزيز،…).

لقد كانت الماركسية – صراحة- القلب الكبير – ملهمة الجميع: الاشتراكية الاجتماعية والإصلاحية منها، بل والشيوعية، بالذات، فكان فضلها مزدوجا: أولا “البرودونية”، فهي ملهمة “الاشتراكية اللامركزية”، والباكونينية ملهمة “التيارات التحررية”، عبر العالم؛ وثانيا: عبر فكر الأنوار/ التنوير، مع أعلام كبار مثل روسو وفولتير وديدرو (…) ومساهمة هذا الفكر النهضوي في بزوغ الثورة الفرنسية والاستقلالات الوطنية لدول الجنوب وأثره على مفكري النهضة العربية -المغربية، من أمثال محمد عبده وجورجي زيدان، والأخطل، والعروي والجابري(…) الخ.

ومن الممكن للجدل الموفور مثلا في كتاب “بؤس الفلسفة” لماركس – في نقاشه لطرح برودون – أن يسعف النقاش العلمي الدائر اليوم – بيننا – حول “المركزية والجهوية”، الخ، لتبيان الحدود الإيديولوجية التي تروم إليها دولة المخزن (الجهوية الموسعة، المتقدمة،…)، لكسب رهان الوحدة الترابية أساسا، وفي أقصى تقدير ولتقويض جهوية فعلية – تاريخية للأطونوميات – في باقي الجهات المغربية (الريف، الأطلس،…) وأن تغني مشاريع البحث العربي والمغربي – التنويري الجديد، لدى كل من الجابري والخطيبي والعروي، وغيرهم، الحوار الوطني – العربي والدولي، حول إشكالات الحداثة والديموقراطية، على وجه الخصوص (…)، وجدوى كل ذلك التسفيه – التحليلي -النقدي الذي يليق بتناقضات الرأسمالية – الامبريالية، لدى أجنحة اليسار التروتسكاوي – المغربي والدولي (…) (أطاك وغيرها…).

كل هؤلاء الممارسين والمفكرين – الأساس” مهمين لبلورة مشروع مجتمعي موحد مغربي واعد. لكنهم لا يستكفون اليوم – قبل الغد – لمجاراة تطورات وتقلبات وتحولات العالم والمغرب. ثم إننا أمام كم هائل من المعلومات الدقيقة والمعارف اللامحدودة، وجب إدماج بعضها البعض، للمواءمة الذكية مع تقلبات الكون والمحيط والتاريخ (…). وسيكون لإحياء وتجديد الفكر / العلم السياسي –أساسا- شأن عظيم في عملية التركيب والاستنهاض لقيم العصرنة والمواطنة الكاملة.

لقد لاحظ المفكر المعاصر موران إدغار أن عصرنا الكوكبي دخل منذ التسعينات في “وحدة تقنو-إقتصادية”، فإذا بها تجعل من الاقتصاد الرأسمالي العالمي مكوك مدفوع بسرعة جنونية من قبل أربع محركات منفلتة: العلم والتقنية والاقتصاد والربح. ونشير – مرورا – إلى أن الاقتصاد يمكن أن يكون بدون ربح(!)، ليس لأنه لا يدر فائضا، وإنما ينتج فائض قيمة يأخذ شكلا تاريخيا محددا، هو الربح والاحتكار(…). وهو ما يطرح مشكل التحفيز الاقتصادي وإشكالية التوزيع للقيمة المضافة، في آن.

إذ نعرف في الاقتصاد السياسي – النقدي أن مجموع الأرباح ما هي إلا مجموع فوائض القيمة. وهو ما يطرح صراحة إشكالية التوزيع الاجتماعي – الاقتصادي المرتبط بـ”الإنتاجية الحدية” أو – من منظور نقدي – المرتبط بالاستغلال والاستحواذ والاستيلاب، أي بتركيبة التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية، ومدى وحِدّة الصراع الطبقي والشرائحي داخلها، وتحت سيطرة النظام الرأسمالي العولمي/ التابع والمتخلف. ولهذا فـ”الربح” مقولة سيوسيو إقتصادية تاريخية، أي طبقية وليست مرتبطة “بالإنتاجية الفردية النيوكلاسيكية – النيوليبرالية لكل عنصر فاعل اقتصادي – تقني معزول عن العلاقات الاجتماعية السائدة والمسيطرة.

نفس النقاش يمكن أن يتم في علاقة التقنية أو التقدم التقني/ الرقمي بالعِلْم. فلم يكن يعلم مكتشف الذرة وانشطارها أنها ستوظف يوما لتدمير “هوريشيما”! ثم أن  ذلك التقدم التقني – الرقمي يمكنه أن يحسن من ظروف العموم ويخدم المصلحة العامة للشعب،  أو أن يخدم مصلحة نخبة أو وظيفة أو “نموكلاتورا”، أو عصابة ضدا على مصلحة الجمهور العريض من “المنتجين الفعليين”. وهو ما يجعل من المفهومين – العلم والتقنية – مفهومان تاريخيان، وليس مفهومان مجردان ومطلقان، وإنما مرتبطان بنمط إنتاج محدد وبدرجة تطور البشرية، جمعاء. وهو ما يضع الرأسمالية الكوكبية في نهاية المطاف في صعوبة لضبط المحركات الأربعة للسفينة/ العَبَّارة الكونية، بل وضرورة تغيير مجراها – قبل فوات الأوان/ “الدمار الشامل”!، لصالح الشعب والإنسانية والكون، برمتهم!

على طول عمر المفكر موران إدغار يلاحظ “التراجع التاريخي” الذي لحق بأوروبا، والعالم، على كامل الأصعدة: (انهيار الشيوعية السوفياتية، صعود الديانات والقوميات والتعصب العرقي…، التطلّع إلى نمط الاستهلاك الغربي ودرجة الصفر لأفكار وأحزاب اليسار في الديموقراطيات الشعبية، سابقا، الحنين إلى ضمانات العهد السوفياتي، الحقد اتجاه روسيا (…)، عجز التمثيل الحزبي والنقابي للحفاظ على المكتسبات الاجتماعية، ولرفع التحديات المعاصرة (…)، “لا – يقين” الأحزاب الراديكالية، اختفاء ما كان يعرف بـ “شعب اليسار” وتدهور الأفكار الإنسية والتحررية، انتقال قيم كره الأجنبي إلى صف العمال وانتقال دول/ بلدان كانت سابقا معروفة بالفكر التحرري، كفرنسا وإيطاليا وهولندا وألمانيا، الخ، إلى بلدان شوفينية – قومية ورجعية (…)، مما سمح بصعود ألوان من اليمين، ومنه اليمين المتطرف! والإسلام السياسي الماضوي.

كل هذا وذاك يستدعي المقاومة وإحياء الفكر السياسي – العلم – الأساس – والمعاصر، خصوصا. ومما خلص إليه إدغار موران أن الطريق الجديد يتطلب “تحولا عميقا للإنسانية”، وأن المسالك الإصلاحية الممكنة – المتضامنة والمترابطة – هي التي ستجمع بين التقدمية والإصلاحية، دون أن ينسى “راديكالية الثورة”، ضدا على تقوقع أغلب البنيات الحزبية المتواجدة حاليا، في بلادنا.

كما أن عملية تحلل هذه الهياكل المتحجرة يمر عبر إدماج التحررية والاشتراكية والشيوعية، وكذا “البيئية”، وكأني بـإدغار موران يُنَظّر لحركة “فرنسا – الأبية” أو لمحاولات إعادة بناء اليسارات اليوم – عبر العالم… (الفيدراليات – الكونفدراليات…)، الخ.

الواقع أن اليسار “يسارات” وأن “المفهوم معقد” – في “الأصل” و”المصب”- وليس اختزاليا أو ميكانيكيا (…)! وان مشروع “اليسار البديل”، اليوم- يمر عبر استنهاض يسار كامن (ص.م، 2022)، وتركيب خلاق لروافد الممارسة/ الأفكار اليسارية المتشظية، ونسج دوائر متدرجة ومتعددة ومختلفة المستويات للتحالفات وللبرامج وللاستراتيجيات وللتكتيكات السياسية (الديموقراطية التمثيلية منها والتشاركية، وإحياء الفكر السياسي النقدي، وإنعاش الجامعات الشعبية ومراكز ومعاهد ومدارس التكوين السياسي للأحزاب، واعتبار القيم الأخلاقية – المدنية – المهنية (…) من أجل مغرب أفضل/ عالم أفضل أو لنقل، “عالم اقل سوء”! (المقاومة والتفاؤل) !

ويمكن أن نتساءل، اليوم، بعد انفراط عقد الفيدرالية الديموقراطية لليسار، على سبيل المثال لا الحصر، فيما يعتبر ذلك دليلا ساطعا على تحجر الهياكل الحزبوية اليسارية في المغرب، فضلا عن ترهل وتقهقر وإنهاك أحزاب اليسار التقليدي (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية…)، خصوصا، وتطرف اليسار الراديكالي (حزب النهج الديموقراطي…)؟

لكن هل من قدر حزب قليل العدد والأطر ونوعي الطرح السياسي، كحزب الاشتراكي الموحد، أن يكون جامعا مانعا محتضنا لكل ألوان الطيف اليساري الديموقراطي، مُركبا – في الممارسة السياسية – لرؤى/ تيارات مناضلة متضامنة ومترابطة ومختلفة (اليسار الإيكولوجي، اليسار الديموقراطي…)، يجمعها البرنامج / الأفق السياسي الاستراتيجي المواطن؟

أن “الاختلاف حد القطيعة” – النظرية والسياسية – بمكان – لا يسمح بـ”أدنى – برنامج شعبي” بين القوى المتخاذلة للحركة الوطنية تلك، وتبعاتها (المؤتمر الاتحادي، الوفاء الديموقراطي، الطليعة الديموقراطي – الاشتراكي…) المجتمعة و”المعلقة” و”المتحورة” –اليوم- في إطار “تحالف اليسار الديموقراطي” (وليس فدرالية اليسار الديموقراطي)، دون أن ترجع إلى “جينها الأصلي” (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية…) من جهة، ومن جهة أخرى، اليسار الجديد والمتجدد” المرتبط عضويا بديناميات الصراع الطبقي – المغربي والعولمي المعاصر (التنسيقيات الفئوية والشعبية والمناطقية والأجنحة الجذرية داخل البنيات الحزبية الوطنية – الديموقراطية، الحركات التحررية بأمريكا اللاتينية وحركات اليسار بإسبانيا واليونان (بوديموس، سيريزا،…) وغيرها، في إفريقيا وآسيا والمغارب؟!

نفترض أن صنافة إدغار موران صنافة “أكثر شمولا”، بل ويمكن اعتبارها “مشروعا جاهزا لليسار”، على الأقل” الأوروبي منه، على شاكلة الاتحاد الشعبي الإيكولوجي – الاجتماعي الجديد بزعامة ميلونشون. وإذا كان أكثر ما يغيض خ.أ هو الاقتباس والبسترة “والفاست فود” في التعامل مع الحقائق التاريخية – السياسية، ثم دعوته الصريحة إلى اعتماد قراءات “غير جاهزة” تستمد شرعيتها من تاريخ وواقع اليسار المغربي الواعد.

وهو لما يؤشر على التطور التكنولوجي الهائل/ الثورة الرقمية بـP.C، فإنه لا يغيّب اندراج ذلك ضمن علاقات اجتماعية محددة في العالم وفي المغرب، أي ضمن علاقات الاستحواذ والاستغلال والاستبداد والتحكم والتمكين، الخ، مع ما يرتبط بـذلك –جدليا- من إمكانيات الانفتاح وآفاق الحرية والانعتاق والتغيير الديمقراطي الممكن والأقل كلفة ممكنة.

إن تصوره لليسار المغربي لا يمكنه أن ينفي انفتاحه على الخُضْر، مثلا، بالرغم من أنه اخذ المسافة الكافية من “راديكالية الثورة” و”الاختيار الثوري” دون أن يسقطه في “يسار الكافيار” / “أوطيل حسان”، ويدفعه للبحث في نجاعة فرضية “اشتراكية القرن 21″، وأن يرى في إمكانية رجوع اليسار في أمريكا اللاتينية فعلا حسنا (2022). وللحقيقة أن يساريون آخرون يجدون في هذا النموذج تحريفاً وفشلا، ذلك أن هناك من اعتبر اشتراكية القرن 21 طريقا معاديا للشيوعية:

إن معاداة الشيوعية الحديثة تنتقد الرأسمالية، لكنها في نفس الوقت تشوّه النضال من أجل مجتمع اشتراكي ومن أجل مُثل الشيوعية وتجعل هذا النضال ميؤوسا منه. إنها تستغل بشكل ديماغوجي التجربة السليبة للجماهير مع خيانة الاشتراكية والرأسمالية البيروقراطية المستعادة في البلدان الاشتراكية سابقاً (انظر ستيفان إنجل (2021)، الإيديولوجية البرجوازية…، نقله إلى العربية أديب عبد السلام). ومن الممكن أن نجد موطئ قدم لهذا النظر لدى قوى سياسية يسارية مغربية بالضبط (النهج الديمقراطي العمالي،…).

والحال أن وحدة المصير/الأفق الاستراتيجي تتطلب تذييل العداوات والكثير من سوء الفهم والتقدير لتحديات الآن وغداً (البيئية – الاجتماعية – الأخوة،… الخ). ولن تصل تيارات الفكر والممارسة الماركسية – الأصل إلى نقاط إلتقاء عملية دون حوار عقلاني وجدي بين مكوناتها، يؤمن بالاختلاف حول “أطروحات مواطنة،” وليس حول أشخاص وزعامات وشيوخ!

فقليلا ما يجرؤ، اليوم، بعض الأفراد والمنظمات والدول (…) موصول الإدعاء على أنهم ذوو مرجعية “ماركسية” صرفة، أو ذوو مسحة “ما” منها، ليكتفوا باعتبارهم “إصلاحيين” أو “تحرريين” أو “اشتراكيين – اجتماعيين – إصلاحيين”، الخ، إلا أن يعلنوا -صراحة- على أنهم “شيوعيون” مثلا. وكثيرا ما تجمع سلة “السوسيو-اقتصاديين – السياسيين” كل ألوان طيف الفكر/ الممارسة النقدية، عموما. ولعل الأسباب العميقة لذلك تتمثل في هيمنة الاقتصاد الليبرالي، وتطلع العموم إلى نمط الاستهلاك الغربي، وتحرر أمم من طوق النظام الشمولي – الروسي مثلا– ممزوج بصعود القوميات، هنا وهناك، على أساس أصولي- ديني وعرقي وعنصري وكره للأجنبي (…) (إدغار موران 2022).

ثانيا: المشروع السياسي النهضوي الشعبي الشامل

لن نناقش “الكثير – المهم” مما تناوله الأستاذ خ.أ في إطلالاته المحمودة/ “في قلب الأوضاع” الوطنية – الإقليمية والدولية، وإنما سنقتصر على ما أخصه لنا – مباشرة – مشكورا في نقطة أو نقطتان محددتان متعلقتان ببعض ملامح التاريخ السياسي – الاقتصادي لبلادنا – المغرب، ولمكانة اليسار فيه، على وجه الخصوص، من جهة وبمدى وجدوى واثر “التحول الرقمي والبيئي” والمؤسساتي على الاقتصاد والمجتمع والسياسة – في بلادنا والعالم، من جهة أخرى.

يبدو أن الذي يهمنا أكثر من غيره هو الميل العام لهذا اليسار بالذات، مرجعياته ورهاناته (…)، فقد حبذ لو يكون النقاش حول تبعات ذلك التحول على مصير وراهن ومستقبل اليسار المغربي – بالضبط. لقد أشر على ذلك بملاحظة ذكية -لطيفة بتغير المحتوى الرمزي ل P.C/ الحاسوب الشخصي/ وللمقاولات، وما يتطلب ذلك من تغيير ضروري على مستوى البنيات المجتمعية، برمتها، وكذا على مستوى سلوكات الأفراد والمنظمات والدول، وغيرها.

وهو ما سنتناوله في حينه تحت اسم ما أصبح يعرف بـ”الحكامة بالأرقام”، وضرورة اعتمادها في ركاب الاستراتيجيات والتكتيكات المستقبلية لهؤلاء الأفراد والمنظمات الحزبية – النقابية وللمجتمع المدني وللمقاولات وللدول (…)، عوض الاستكانة إلى الهياكل المغلقة والمتحجرة للمؤسسات الكلاسيكية، ومنها – بالذات – الأحزاب الشيوعية العربية، ومعظم منظمات اليسار العربي والمغربي والعالمي، عموما. لعل هذه النقلة “التقنو-إقتصادية” أصبحت ضرورية وحاسمة في الصراع نحو “عالم أفضل” للأوطان وللعالم أجمع !.

وإذا كانت أسباب طبيعة القضايا/ الأسئلة التي يطرحها اليسار – عموما – لا زالت قائمة، فإن “التحول التكنولوجي” يفترض تحولا في أدوات وتقنيات الصراع والنضال، من أجل التغيير المجتمعي إلى أنظمة أسمى في تطور الإنسانية. لعله “الشرط التقني الممتنع” الذي سيعيد البريق لما آلت إليه الأحزاب اليسارية – التقليدية من اندحار عبر العالم – في الشرق كما في الغرب، في الديموقراطيات الشعبية، سابقا، كما في أحزاب الغرب نفسه، ومن داخل روسيا، كذلك. لعله الشرط ليتحول “النجم القزم”/ الشيوعي – الرفيق المدافع عن قيمة نبيلة – كقيمة “الإخاء الإنساني” – إلى سابق عهده، إلى عهد جديد !؟ .

وإذا كان الرهان الحقيقي بجدية ومشروعية وشرعية التحول الديمقراطي- على الأقل في الأنظمة التي تختار الديمقراطية كخيار دستوري -، فلن يكون – حتما – “التحول الرقمي” إلا وسيلة “حاملة لقيم” من أنجع الأدوات لتحقيق ذلك الرهان لدى اليسار الديموقراطي – وليس غاية في حد ذاته.

إن النقاش الذي أطلقه خ.أ والدعوة إلى المساهمة فيه – كل من موقعه وموقفه – من داخل المرجعية الفكرية العامة التي قد نتقاسمها وحتى من خارجها – لدى الخصوم. ونحن لما نتحاور، فمن منطلق الاهتمام المشترك والثقافة العامة، وليس المتخصصة بالضرورة، وهو ما دأبنا عليه في تنشئة اليسار، ويمكن لمن له تخصص في هذه المواضيع أن يدخل على الخط متى أراد، نقداً أو إغناءً.

فالنقاش/ دعوة محمودة للحوار الهادئ حول ضرورة نظرية ومنهجية لانتقال ممارسة اليساريين – المغاربة – وفي العالم – اليوم وغدا– إلى براديغم “اشتراكية جديدة” متطابقة مع خصوصيات ومتطلبات بلادنا والعالم – أي التطلع إلى اشتراكية ما أصبح يعرف بـ”اشتراكية القرن 21″.  لقد تعرض خ.أ لذلك – في ما يخصنا – من خلال وصلتين متتاليتين (15) و(16) من ركنه الرقمي: في “قلب الأوضاع”، على أساس أن يرجع إلى التفاعل مع ما قد نرد به أو نثمنه حول الاقتراحات المتواضعة التي تفضلنا بها، سابقا.

إنه يدعونا– صراحة – إلى المعرفة بموضوعاتنا وبمناهجنا التحليلية الاجتماعية، قبل “التموقع السياسي” الجريء ضمن قضايا اليسار الأساسية ببلادنا، على وجه الخصوص؛ وذلك ضمن سياق فكري وافق اشتراكي مغاير ومتغير وزاوية نظر، تتعامل بالجزم اللازم مع “أصول” الماركسية قبل “المصب” (انظر في هذا الباب مخطوطات ماركس 1844، انظر أيضا إصدار حديث جدا لترجمة بالعربية لكتاب “تصور ماركس للإنسان” لصاحبه إريك فروم، عن دار نشر سورية…).

لقد أسلفنا في مداخلتنا/ مقالنا الأصل/ الأول إلى أن هذه الاشتراكية للقرن 21 تجد أصلا لها  في ماركسية غير دوغمائية، سميتها بـ”الماركسية الخلاقة”. وهي “فرضية عمل” يمكن أن تكون واعدة، خاصة وأن النقاش مع خ.أ لا يعدو أن يكون “تقنيا” فحسب، حول أثر التحول التكنولوجي – عموما – والرقمي – خصوصا – على البنيات والسلوكات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وإنما هو نقاش تاريخي – سياسي – اقتصادي – ثقافي، بالذات وأيضا. وإذا كنا قد تعطلنا في التفاعل مع الدعوة للنقاش، حول قضايا تاريخية لليسار وأثر التحول الرقمي في بلادنا، فلهول الموضوع وما يتطلبه من وقت وجدية.

وللعلم، فمناقشة الاستاذ خ.أ – في مجالي التاريخ السياسي والتقنية – لمقالنا الأصل: “نقض أسس ممارسة سياسية “كائنة” لإستنهاض قوى تغيير “كامنة” (الصادر في 20 مارس 2022)، – هي مناقشة لمفهومي “الكائن” و”الكامن” في ممارسة اليسار الديمقراطي المغربي، اللذان أخذتهما – قبلئذ – عن مقال ص.م، في مداخلة متميزة خاصة له، مقال “مخاض يساري كامن”، تفضل بإلقائها في الندوة الوطنية للحزب الاشتراكي الموحد، حول “سمات الوضع الوطني…”. وقد سبق وأن أعاد نشرها بالتدريج طوال شهر رمضان المنصرم.

وفي تأكيد منه لقيادي صارم، وخوفا منه على تضييع الفرص مرة أخرى، أعاد نشر نفس المحتوى – تقريبا – ولكن بشكل مركّز أقرب إلى الورقة التقنية/ البوصلة/ سبورة القيادة، منهم إلى المقال: “اليسار المغربي بين كلفة الاجتهاد ومهاوي تكرار التجربة”، بتاريخ 29 يوليوز 2022.

ثم أن ما اعتبره الأستاذ خ.أ من صميم “مفارقة اليسار الكبرى” (الوصلة 15 بتاريخ 2/4/2022) هو ما تبنيته لدى الأستاذ ص.م – كفرضية عمل ناجعة”، حيث “يوجد اليسار المغربي – اليوم وعن حق – أمام مفترق طرق: إما الاستكانة والحفاظ على الذات وتصيد فرصة التدبير الحكومي، من جهة أو إعادة صياغة المضمون اليساري للحراكات الاجتماعية الجديدة، من جهة أخرى. وهو ما يعني الإمساك باللحظة النوعية والفارقة والعمل على “بلورتها “سياسيا وأدائيا وبعقلية وممارسة جديدة”.

وهي مفارقة فيبيرية – بحق – تعاني منها النخب المغربية – أو على الأقل جزء وافر منها – حد “السكيزوفرينيا” والخيانة (انظر كتاب خيانة المثقفين لصاحبه إدوارد سعيد(2014))، وكذا “القلق الوجودي” الذي يعتورها تحت وطأة القمع والتشهير والسجن (…) والإغراء!، تختلط فيه المصلحة الضيقة والانتهازية المعروفة لدى البورجوازية الصغيرة، (انظر مهدي عامل، 1979، ص 82، البحث في أسباب الحرب الأهلية في لبنان) من جهة؛ بالمبدئية والطهرانية النضالية، من جهة أخرى.

وهي الفرضية التي ستسمح بالتقاط بعض “الاقتراحات” والتوصيفات لسلوكات المثقفين والممارسين في حقل السياسة بالمغرب، والتي قد تساعد على فهم بعض الانفجارات في الإطارات الوحدوية أو الفيدرالية أو غيرها، وعلى نقد ممارسة روافد الحركة الوطنية السياسية ومآلاتها اليوم.  وقد تمثل بعضها الوجه الانتهازي للبورجوازية المغربية التي ناوأت خيار الفعل الشعبي (الأغلبية الحكومية برئاسة بنكيران، وفي نفس الخط حكومة العثماني، وبعدها الجزء المنشطر من تجربة فيدرالية اليسار الديمقراطي) واختارت الاندماج السلبي في دولة المخزن.

وهو ما عبّر في حينه عن انكسار العلاقة مع قوى يسارية بعينها، رافضة لخط الحزب الصلب: الخط الشعبي. وكأننا أمام معاودة ما أسفر عنه دستور 1996 من انقسام وانشطار منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، والذي يعتبر حزب الاشتراكي الموحد-رفقة تيارات مناضلة أخرى- بمثابة امتداد أصيل لها.

ثم إن تلك “الاقتراحات” متى كانت “وجيهة”، فهي عناصر وخلاصات سريعة لبلاغات وبيانات قوى ثقافية جمعية رأت من واجبها- في حينه – التموقع/ التموقف في دينامية المجتمع المغربي وفي آفاقه الواعدة، وقد صيغت ونشرت في “الصحافة المستقلة” في أعقاب حراك 20 فبراير 2011، وقبل حراكات الشمال والشرق بالمغرب بقليل (انظر البيبليوغرافيا للمقال: “نقض أسس ممارسة سياسية(…)”). وسيأتي مقال “مشروع اليسار البديل”، الذي تشرفت بإلقائه في نفس الندوة/ الجامعة الوطنية شهر يناير 2022، ليقدم بعض تلك الاقتراحات/ المداخل، على شكل نقاط مقتضبة جداً ومفتوحة على الإغناء (القضية الوطنية، الحسم مع تركة الحركة الوطنية، الخ). كما أن بعض قراءات اليسار المغربي وعدد من المثقفين المحسوبين عليه لا زالت – وإلى حينه، تدعو لاعتماد “قراءات” أصيلة – صاحية – متصلة – مغايرة – متجدرة – ذات حجية مغربية متميزة ومفخرة خالصة لليسار المغربي – ولتاريخه الواعد.

وهو ما يعني – وكما استشفه خ.أ – في نفس خط ص.م ضرورة مراجعة وتجديد الفكر والخطاب السياسي لدى إنتلجنسيا الثقافة والسياسة، ببلادنا. وهو ما يعني- أيضا – بأسلوبه “الحاجة إلى الأفكار النيرة…” وإلى “طاقة الفكر” من أجل التغيير الديمقراطي (وصلة 16 بتاريخ 12/4/2022)، وإلى قيادة طليعية رشيدة وأصيلة، الآن وهنا.

وقد لاحظ ص.م أن مجموع “التعددية الوطنية”، بما فيها التقدمية اليسارية الممتدة على طول الساحة السياسية، ليست إلا تعبيرات مختلفة عن عقلية ومِخيال “الوطنية الاستقلالية”. ومن تم ضرورة القطع الفكري وفي الممارسة السياسية معها، وأشار إلى أربعة مفاتيح أنقذت الحزب من خطة قرصنة مبيّتة، وجعلته منيعا من انحراف وانزلاق وشيك نحو مواقع الانتهازية السياسية اليسراوية – الطبقية .

ذلك أنه رفض “الاندماج العددي القسري” لمناوءته لخيار “الفعل الشعبي” الأصيل، وما للعمل الجماعي الحامي للحزب من أهمية ضُيّعت في الطريق من طرف ما اعتبر نفسه – بمفارقة ما – “التيار الوحدوي”!. إن الطينة الطبقية الشعبية، -في معضمها، موقعاً وموقفاً، لمناضلي/ النواة الصلبة للحزب سمحت ببروز خط سياسي أصيل مستثمر للمفاتيح الأربعة الكبرى: من الإرادة الشعبية إلى السيادة الشعبية وما أحدث الحراك الشعبي بالريف من ثقب في السقف اليساري المنخفض ودعم النضالات الشعبية من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ثم الوحدة الشعبية. وهو ما تطلب الاجتهاد على ابتكار مفاهيم وتوضيحها من أجل ممارسة نوعية فارقة، تُلغي كل الوصاية والتعالي على النضال الشعبي السلمي الحضاري، بل والتعلم منه لبناء مغرب الغد.

ذلك أن تغيير أسس الممارسة السياسية للحزب تقتضي إلغاء منطق الأقواس للدولة، وتختار لها استراتيجية النضال الشعبي الديمقراطي السلمي الحضاري وتتبنى العدالة الاجتماعية والجهوية والمناطقية وتعمل على تكريس الانفتاح السياسي وعلى تأسيس تعاقد جديد وشامل بين دولة عصرية ومجتمع مواطن. إن حزب يساري شعبي، هو ليس “شعب اليسار الوهمي” ويقتضي بادئ ذي بدء نقد تجربة الحركة الوطنية والتقدمية واليسارية المغربية، ويدعو إلى مصالحة حقيقية مع الريف بإطلاق سراح سجنائه وكل معتقلي السياسة والصحافة والتدوين.

يتفق الأستاذ خ.أ على أن “الماركسية الخلاقة” توصيفة محمودة وواعدة للخروج باليسار من تحجره وتقوقعه وتكلسه وانغلاقه وانشطاره الموصول عبر التاريخ السياسي لبلادنا وللعالم. وهو يفهمها على أنها جدلية (أطروحات و”نقيض- أطروحات” لقوى اجتماعية سياسية واعية لذاتها – أو تعي مكانها ووظائفها من خلال الصراع الاجتماعي السياسي الملموس- وتراكيب لتلك “الأطروحات- النقيض”، وآليات مبدعة كـ”التيارات” المعتمدة، مثلا – في سابقة بالبلدان العربية – الإسلامية – في الحزب الاشتراكي الموحد – الذي يكيله كل الفخر والتميز رغم كل المحن…)، وخاصة منه الدياليكتيك المادي- التاريخي. كما يدعو إلى تمثل جديد للماركسية مختلف عن التمثل الكلاسيكي لها للقرن 20. وهو ما يعني أهمية إعتماد منهج متميز لصياغة السياسات العمومية متماشي مع تغير الظروف الاقتصادية – الاجتماعية – السياسية – والتكنولوجية، تحت ركاب ومهماز العولمة.

وهكذا، القيادات اليسارية ومثقفيها تجاوز الكيليشيهات القديمة والتحلي بروح التحليل النقدي لما يحبل به الواقع، اليوم، من تغيرات وتحولات وتحديات محلية ودولية وعلى جميع الأصعدة.

والحال أن المؤتمر العالمي لعلم الاجتماع (2004) التقط محتوى ودرس معاني النضالات الاجتماعية التي أصبحت تكتسي الساحة السياسية عبر العالم، لما كان قد أشَّر عليه تحت اسم “التشظّي الأجري”، نسبة إلى تعدد وتشتت فئات وأقطاب القوى العاملة، وكذا مدى صعوبة إعادة تشكيل انسجام موفق لها، عبر بحث في إمكانيات توافق نضالاتها ومقاوماتها اللارأسمالية. وهو اختيار شديد التعقيد، لما يتطلبه من تجاوز صعوبات التأطير والتنظيم والتوحيد.

هكذا كان لابد أن توضع الأطروحة الماركسية الأساس – الصراع الطبقي على محك التقلبات السوسيولوجية والثقافية للعشريات الأخيرة من القرن 21، وكذا وجوب الوقوف على ضبط العلاقات بين تحولات العمل والصراعات الاجتماعية الملازمة لها، ليقفل المؤتمر بدراسة الصراع الطبقي العولمي.

ومن التيمات التي ناقشها المؤتمر إشكالية طبيعة وأشكال الصراع الاجتماعي الجديد ومشاكل الفقر والهشاشة وأطروحة “البرولتاريا” وموضوع “الطبقة الوسطى” وما يمكن تسميته بـ”وسطنة المجتمع”؛ الخ. وليتساءل أيضا، في ما إذا لم تصبح العديد من المقولات التحليلية الكلاسيكية موضوع تساؤل ضروري، اليوم، بل وأكثر من ذلك، في ما إذا تحول كثيرها إلى “سراب” و”أساطير” ومن تم الإشارة الماسة لإعادة النظر، بحيث أن النضالات ضد النيولبرالية، اليوم، تسمح باستخلاص دروس وتجويد الرؤى وأدوات التحليل النقدي وإنعاش صحوة القوى الحية في العالم.

هكذا وضعت على محك التمحيص ما يسمى بنظرية “الرجوع”، وكذا نظرية “تجديد الصراع الطبقي”، وهو أمر ضروري أمام تفكيك البناءات الاقتصادية – الاجتماعية والسياسية والرمزية، اليوم، لقوى العمل (المادي واللامادي…) في العالم.

ولعل من الفرضيات/ الأطروحات/ الأسئلة التي تشكل حجر زاوية تفكير/ قلق الأستاذ خ.أ ما يلي:

  • كيف يمكن إقناع الناس – اليوم – بجدوى الممارسة السياسية “السلمية”، تلك الممارسة التي تصون الكرامة والحياة، وتجري تحت مظلة الدولة الوطنية – نفسها – وعبر الوسائل القانونية – المشروعة؟
  • جدوى العمل السياسي اليساري العلني المواطن (منظمة العمل الديمقراطي الشعبي،…).
  • إذا كان على اليسار أن يعيد قراءة التاريخ – المغربي (والعالمي)، فله ما يكفيه من الحجج التي تجعله فخور بمغربيته وتميزه وأصالته، عميق الجذور والحضور، وبعيدا عن البسترة والاقتباس والجاهز (…).
  • إن بث الروح في الماركسية يمر عبر الحفاظ على صيغتها الفكرية المعاصرة لفهم الرأسمالية، ومن تم اقتراح بدائل مشروعة/ عادلة للقضاء عليها في طابعها المفترس.
  • إن تجديدها يقتضي – أيضا – التسليح بثقافة التكنولوجيا التي يديرها الحاسوب للانتقال إلى موجة الحضارة الثالثة (كما يراها ألفين توفلر…).
  • الأفق السياسي الملائم في المغرب هو “الملكية البرلمانية”، حيث الملك يسود ولا يحكم، على الطريقة الأنجلوساكسونية (انجلترا، إسبانيا…). وللمغرب سابقة في ذلك، حيث الجناح اليساري في حزب الاستقلال دبر الحكم بقيادة عبد الله ابراهيم – عبد الرحيم بوعبيد (1958-1960)، فقرر ونظم ونفذ السياسات العمومية الكبرى – الداخلية والاجتماعية منها – على الخصوص.
  • إن ما يبعد اليسار اليوم عن مشروع رفقة جديدة مع الملك – فضلا عن عسر تعامل النظام معه، خاصة في سنوات الجمر والرصاص – إلا ما استشرى من سياسة الفساد وشرعنة الاستبداد وتكريس لأعمدة النظام الطبقي – النخبوي الحاكم – وليس شخص الملك في ذاته – وذلك ضدا على الموروث المشترك للمغاربة – جميعهم – ولرمز سيادتهم – “العرش الملكي”، وضدا على توازن ضروري لمعادلة الملكية الديموقراطية – الملكية البرلمانية.

هكذا، فإذا كان الطريق الوحيد للاعتراف في آن بشرعية الملكية من جهة والديمقراطية – رابع ثوابت الأمة ( بعد الدين الإسلامي للدولة والوحدة الترابية والملكية الدستورية)، من جهة أخرى، هو دمجهما في نظام “الملكية البرلمانية”، فإن ما يسمح به مناخ هذه الأخيرة السياسي العادي هو “التناوب على السلطة/ الحكم”، حيث الملك يسود ولا يحكم. وسيكون من اللازم- بعد حسم سؤال طبيعة النظام ومحورية حكم الشعب، أن يتقدم اليسار الشعبي المغربي الجديد للأمة ومعها، ببرنامج سياسي مبني على حكامة تربط المسؤولية – حقا – بالمحاسبة، ومن تلك الأسئلة التي يمكن أن تشغل مشروعه الاشتراكي ما يلي:

  • إلى أي حد يستطيع “اليسار الشعبي المغربي” أن يعرف بدقة ويصارع خصومه وأعداءه بحنكة، على جميع المستويات والدوائر المحلية والعالمية، أولا، وأن يبني برنامجا سياسياً واعدا، طموحا وإرادويا، ثانيا، وأن يؤسس لتنظيمات قوية مستقلة، حزبية ونقابية وجمعوية، ثالثا، (انظر جوريس جون 1900) ضدا على الأصولية الليبرالية الإدارية والدينية، التي تخدم الاقتصاد المخزني؟
  • ألا يقتضي تجاوز الرأسمالية الضروري – في المراكز كما في الهوامش – تبني شكل جديد للاشتراكية ذات الملمح التشاركي واللامركزي والفيدرالي والديمقراطي والإيكولوجي والمختلط والنسواني (…) الخ (انظر بيكتي طوماس 2022، لتحيا الاشتراكية !)، في سياق تتعاظم فيه السلطوية ويتم الحصار على الحريات العامة؟
  • أليس لنا في المغرب في ما اقترحه إدغار موران – مع التمييز الضروري – مشروع يساري واعد في الميادين النضالية (…)، بالرغم مما اعترى اليسار المغربي من انكسارات في أفق توحيده؟ وهل تشكل “آلية التيارات” الديمقراطية، الضامن للوحدة في الاختلاف في إطار يسار شعبي موحد؟
  • ونظرا لأهمية النقض والنقد الذاتي لأي مؤسسة حزبية، وما لذلك من دور في تحسين أداء الأطر السياسية، فهل من شقوق قد تعتور أصالة ” الطينة الشعبية الطبقية للحزب، بعد انفراط عقد الفيدارلية ومشروع التوحيد لما يناهز 20 سنة؟ وهل من حظ لكي يتبوأ خيار ” اليسار الشعبي” – السلمي- الحضاري منزلة محترمة في استراتيجية الحزب اليساري المرتقبة، ولعل ذلك ما قد يتطلب نقدا ضروريا للقيم البانية لفكر وسلوك النخبة القائدة ومجموع المناضلين (دحض للطهرانية والوصاية والتعالي المحتمل…)؟.

وفي ختام هذا الفصل، يبدو أن الماركسية المنفتحة الصدر لكل أبنائها وبناتها، من تعبيرات التيارات والقوى الاجتماعية بداخلها، لهم -قبل وبعد كل شيء- نفس المصدر، وإن اختلفت روافد المصب في النظر والتطبيق. وإذا كان ماركس ينازع العلم الاقتصادي والسياسي في شيء، فليس بالضرورة في جدوى الاشتراكية، وإنما في المعرفة الدقيقة بطبيعة الرأسمالية التاريخية، كنمط إنتاج وتوزيع للقيمة المضافة، أصلها وفصلها، وخاصة في الحقبة الصناعية، منها، ولو في شكل من أشكال تطورها- كالشكل الاحتكاري المعمم الحالي- أو تشوهها، كما هو الأمر في البلدان المتأخرة والتابعة لمراكز القرار الدولي.

إن الفيصل في المجال العلمي هو قوة التحليل الملموس للواقع الملموس. أما في الحقل السياسي، فالأمر قد يتطلب تذييل الاختلاف والبحث عن المشترك العملي/ الحد الأدنى في خدمة البرنامج السياسي الوطني الشعبي الواعد. إن ذلك يمر أساسا عبر القدرة على الابتكار والجرأة والوعي لاستنهاض القوى الحية من تحت الرماد، والتعلم منها وقيادتها- ومعها، في آن، من أجل عالم / مغرب أفضل. وبديهي أن للاجتهاد كلفة، وذلك لتجنب الأخطاء القاتلة وتجاوز ” مفارقة اليسار الكبرى”، لبلورة المضمون اليساري للحراكات الاجتماعية الجديدة، والإمساك باللحظة التاريخية والفارقة وبعقلية جديدة.

إنما يضير النفس ما أصاب الأحزاب التقدمية سليلة الحركة الوطنية من بؤس فكري سياسي، حيث فينومينولوجيا الانحراف السياسي جعلت النزعة الشعبوية عملة جارية. لقد أضحى كل من ” الخواء الفكري وعقم التنظير السياسي”، لازمة الأحزاب السياسية المغربية خصوصا سليلة الحركة الوطنية، وهو الداء/ العضال الذي أدخلها في قوقعة الارتماء في خط الفكر البراغماتي/ الانتهازي، والانشغال بالأمور التنظيمية والتعبئة المدججة والمهتجسة بفكرة التصارع على الزعامات، فلم تعد الفكرة الحزبية مبنية على الاجتهاد في تطوير الفكر السياسي/ التنظيري، بقدر ما اختزلت الحزبية في التصارع بين الأشخاص وممارسة ثقافة الإقصاء والإقصاء المضاد، وفي تغييب قسري لثقافة الحوار. وعليه غدت هذه الأحزاب مثقلة بعيوب التنظيم وصناعة القرارات والتأطير والتموقع والتحالف وعوز الدمقرطة، مع أفق سياسي محدود ومسدود لا يتعدى دائرة النزوع نحو كسب عطف وود السلطة والصراع والتنافس على التقاط إشاراتها وتعليماتها وإملاءاتها، وهو ما ضرب إمكانية تشكل المأسسة الحزبية وأصابها في مقتل خصوصا في ظل المتغيرات المعيارية والقانونية (الدستور، قانون الأحزاب …) الناظمة لها. (انظر بؤس الفكر السياسي لدى الأحزاب سليلة الحركة الوطنية / د.عثمان الزياني 2015، وجهة نظر رقم 64)

ولعل من المداخيل الاقتصادية السياسية المفضلة لدى السوسيواقتصاديين لأجرأة المشروع، ذلك، فهم مختلف القوى الاجتماعية السياسية الحاضرة في الساحة النضالية، حقا، وقبل كل ذلك، أثر التحولات الراهنة على مكانة قوى العمل فيها، بالضبط، في ظل رأسمالية اليوم، خاصة.

القسم الثاني: مكانة مفهوم العمل في ظل الرأسمالية الاحتكارية المعممة اليوم وفي أفق اشتراكية الغد

لقد اعتبر الكثير أن “العمل” آيل للتبخر، ومن تم الضربة القاضية لما ينبني عليه اليسار واستراتيجياته: القوى العاملة/ الطبقة العاملة/ البروليتاريا، الخ. لا شك أن هناك تحولات أساسية مست في العمق مضمون هذه القوى الاجتماعية، مما سيؤثر على مكانتها في الإنتاج وفي الحقل السياسي، ومنه المغربي. وللعلم فماركس لم يدْرُس الاشتراكية، في ذاتها، لكنه حلل علميا النظام الرأسمالي الاقتصادي، في كتابه الضخم: الرأسمال، 3 أجزاء، المنشورات الاجتماعية. وخصص له أزيد من 20 سنة من عمره الشيخ (حسب تحقيب ألتوسير لويس).

والحال أنه لم يعمل أبدا على عزل إشكالية العمل عن طابعها التاريخي الاجتماعي، وكذا عن سؤال التقنية والتكنولوجيا. فإلى أي حد يمكن اعتبار العلاقة بين هذين الأخيرين – حقا ودائما – علاقة طردية، متناقضة ومتنافرة ومضادة؟. هل انتفى الحديث عن شروط الاستغلال – الاستبداد – الاستحواذ، كما تدعي ذلك النظرية النيوليبرالية التي تُعطي لكل فرد / “فاعل إنتاج” حسب إنتاجيته الفردية والحدية؟ هل لم يعد معنى لمفهوم “فائض القيمة Plus value”، خاصة وأنه من أهم ابتكارات ماركس على الإطلاق؟ فما جدواه في ظل الرأسمالية الاحتكارية المعممة  Capitalisme monopolistique généralisé(سمير أمين) اليوم؟ وهو ما سنتعرض له في نقطتين: تحدي الانتقال الرقمي والاقتصادي والبيئي والمؤسساتي (أولا) وسنحاول الإجابة عن سؤال في مفترق الطرق بين ما عليه الرأسمالية اليوم من تناقضات صارخة، وما نستشرفه من آفاق لليسار الشعبي،  فأيهما في أزمة “آلعمل المأجور” أو “العمل الإنساني” في حد ذاته؟ (ثانيا).

أولا: تحدي الانتقال الرقمي والاقتصادي (…) والبيئي والمؤسساتي

لدراسة العلاقة بين قوى العمل والتكنولوجيا والرقمنة واستشراف بعض ملامح سردية اليسار الممانع في أفق 2021، لابد- في رأينا- من الانطلاق من مشروع ماركس الأصلي.  إنه يفترض في تحليله النقدي لرأس المال فصل نمط عمل قانون القيمة الرأسمالي عن قناعه المتمثل في مظاهر عمل الأسواق. ومن الواضح كيف أن هذا يمثل خياراً غير مفهوم بالنسبة للاقتصاد البورجوازي والرأسمالي [المتخلف والتابع]، والذي يعتقد، بروحه المتميزة بالمنطق الشكلي والوضعية الأمبريقية، أنه يستطيع فهم “الواقع”، مباشرة (انظر سمير أمين 2019، نظرية القيمة…، ص 36، مصر).

كما أن عمله الجبار انتهى بنقد الاقتصاد البورجوازي برمته، وبتحول ضروري من التحليل المتمحور حول السوق إلى تحليل أعماق الإنتاج، حيث يتحدد كل من القيمة واستخلاص فائض القيمة، فمن دون هذا التحول من النظرة السطحية إلى دراسة الجوهر، أي من الظاهر إلى الخفي، لا يمكن أن يكون هناك نقد جذري للرأسمالية، (ولكافة أشكالها التطورية، في الهوامش وبلدان النمور) (انظر سمير أمين، ص 112، نفس المصدر).

وبالرغم من أهمية ما كتب في مرحلة شبابه (البيان الشيوعي، مخطوطات 1844، الخ…)، وفي تثمينه لما أنتجه مؤسسو الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، بيّن أهمية وحدود نظرية آدم سميث (العمل المطلوب: Travail commandé) ونظرية ريكاردو (العمل المستدمج= المندرج في البضاعة Travail incorporé)، لكن تحليله للعمل تم حسب مقولة (العمل الاجتماعي المتوسط Travail social moyen)، وهو بهذا لا يقيم وزناً لنظرية عوامل الإنتاج التي تضع العمل والرأسمال على نفس قدم الأهمية. وقد دقق في التمييز بين معنى (العمل الملموس Travail concret) و(العمل المجرد Travail abstrait)، كما ميز أساسا بين “العمل Travail ” و”قوة العملForce de travail ” ، مما مكنه إعطاء مفهوم “الاستيلاب”Aliénation  أساساً علمياً، وهو “الاستغلال Exploitation” وإنتاج ” فائض القيمة ” (Plus value)، الخ.

من بين ما يفرضه التحول الرقمي على اليسار – ومنه المغربي – التموقع/ التموقف من التحديات والرهانات والديناميات التي يخلقها على صعيد مجموع العلاقات الاجتماعية عموما، وعلى مستوى علاقات العمل/ التشغيل المأجور، بوجه خاص. وذلك بالرغم من حدود مفهوم “الإجارة” النظري- العملي في البلدان المتخلفة والتابعة لمراكز القرار الرأسمالي – الامبريالي (حدود القطاع الخاص في المغرب، …). فأيهما آيل للتجاوز: “آلعمل” أو “العمل المأجور” أو الانتقال الاقتصادي من الرأسمالية في أفق اشتراكي؟

لقد تغلغلت “الحكامة بالأرقام”  في داخل العلاقة الأجرية – الرأسمالية في العالم، “اشتراكية” كانت أم “رأسمالية متطورة”، “أ”شمولية” كانت أم “ديموقراطية” ! وأصبح من اللازم على قوى التغيير والتحرير إيقاف المد الجنوني للتقنية والعلم، ومنه التعامل بـ”إنسية” مع التحول السيبراني – العالمي وفي بلادنا، بل واعتماد بدائل جريئة تعيد التوازن للإنسان وللمجتمعات وللعالم.

لقد دخلت بلادنا “الرقمنة”، وفضلا على أنها أخذت في بعض ملامحها شكل “الموضة”، فهي في حد ذاتها دينامية موضوعية متناقضة الملمح. فبقدر ما يمكن أن تحرر الناس/ المجموعات/ الشعوب/ الدول من روتين العمل وعنف قوى الإنتاج وسطوة علاقات إنتاج – مخلفة الكثير من الآلام والجروح والتعب والكره في ظروف العمل – غير مستساغة (هشاشة، فقر، إقصاء…)، بقدر ما يمكن أن تحرر البشر من شظف العيش وتكبيل الحريات الفردية والجماعية والإخضاع للمراقبة القسرية، وما يمكن أن تحبل به من ابتزاز وتحرش (…) وغيرهما، وهو ما يضع العالم/ المغرب أمام أزمة مركبة، ذات ثلاث أضلع، على الأقل: تكنولوجية، إيكولوجية ومؤسسية، تستدعي التفكير والتجاوز والنفي.

ليس النقاش مع الأستاذ خ.أ نقاشا تقنيا محضا، وإنما هو نقاش في الفكر والرؤية والتاريخ السياسي والاقتصاد والمجتمع والتطور الحاصل على مستوى البنيات والسلوكات للنخب وللجمهور الواسع من المغاربة.

وعليه، فإننا نلاحظ تغييرا حاصلا في النمط الإنتاجي – العالمي وفي المغرب – في شكله ودرجته وحركته، وليس في طبيعته – الأساس:  استجلاب الربح الأقصى – اعتماد استغلال الإنسان للإنسان (…)، المحمول على أحصنة مجنونة من العلم والتقنية.

وككل يساري، يهُمّ الأستاذ خ.أ التساؤل عن أنجع السبل للانتقال إلى اشتراكية محددة، مفتوحة، أصبحت تعرف- فيما تعرف- بـ”اشتراكية ق 21”. ولذلك دعا إلى حوار فكري يصوب النقاش نحو أهداف محددة: التفسير العلمي – الإيديولوجي للنظام الرأسمالي العالمي المسيطر، واستخراج الطاقة الكافية من الفكر- النقدي لدفع الواقع – عندنا وفي العالم، نحو التحول الديموقراطي (…). وأخَصّ بالتقدير “الماركسية”، على أساس تمثل جديد لها، مختلف عن تمثل ماركسي ق. 20- نظريا وعمليا – .

هكذا وإن كان لماركسيي الفيتنام أن هزموا الإمبراطورية الأمريكية، فإن ذلك كان في جولة متميزة لحركة تحرر وطني. والجولة ليست الحرب بكل حلقاتها، فهي غير الحرب والصراع الطويل والمتعرج مع قوى الهيمنة للاستعمار الجديد والامبريالية. والحال أن صراع الأقطاب، اليوم، هو على أشده وعلى الأصعدة الاقتصادية والتكنولوجية، والجيوستراتيجية، أساسا. لقد أفل نجم الحرب الباردة ليشتعل مرات ومرات أخرى، فلم تلبث الماركسية – التطبيقية أن أُسْقطت في عقر دارها (الاتحاد السوفياتي)، مثقلة ببيروقراطية مفصولة عن الإنتاج المادي (التخطيط – الكوسبلان…)، ليعود الروس- اليوم- إلى ساحة القتال/ الحرب كدببة مجروحة (الحرب في أوكرانيا…) والتحرش بالصين من طرف أمريكا في الطايوان، إلخ(…).

وبالرغم من صعود قوى/ أقطاب أساسية (الصين، روسيا…)، فلقد ظلت الولايات المتحدة الأمريكية طيلة القرن 20 إلى اليوم – على رأس القوى العالمية وتضبط حركة ومآل المقاولات الكبرى الأجنبية العاملة في ترابها. وبالرغم من صعود النمور – هناك وهنا – واحتدام المنافسة والصراع وإشعال  بؤر التوتر والحرب، فهي لا تلبث أن تسطو وتحكم وتوجه بوصلة العالم – ما وراء المحيط الأطلسي وأوروبا وإفريقيا (…). لكن أليس ما هو مهم اليوم في العالم يدور رحاه في الشرق وآسيا ولنا في كتاب تاريخ العالم يقوم في آسيا (2017)، رؤية أخرى للقرن 20. إنه رؤية ” لا أوروبية – مركزية”، وإنما ” أسيو- مركزية”، لصاحبه بييرغروسيير، وهو المؤرخ المختص في العلاقات الدولية، والتي يدرسها اليوم في مدرسة العلوم السياسية، بباريس. إنا ما يثير في عمله الضخم (655 ص، دار النشر جاكوب أوديل، فرنسا) هو اعتباره كل من روسيا وحتى الولايات المتحدة، أنهم كانوا، بل ولا يزالوا دائما ” قوى أسيوية” ( سطر على أسيوية)، وهو ما سمح بقراءة جيوسياسية متجددة للقرن 20، ونستطيع عبر هذه الأطروحة فهم لماذا آسيا مهمة الآن، وأكثر من أي وقت مضى. وهو ما يدعونا إلى تنسيب أحكامنا حول “المركزية الغربية ” عموما وأفضالها الأنوارية. لقد حاول غروسيير إماطة اللثام عن الدور الحاسم- والغير معورف- الذي لعبته آسيا منذ 1900 على الساحة الدولية. هكذا كان انتصار اليابان على روسيا سنة 1905 حاسما في لعب التحالفات التي أدت إلى الحرب العالمية الأولى، كما عرف أن مندشوريا كانت منذ 1920 مهدا يحضر فيه للحرب العالمية الثانية. وأن الحرب الباردة ولدت في آسيا منذ 1945. ومن هنا- بالذات- تمت إعادة هيكلة النظام الدولي نهاية سنوات 1970. وللعلم فإن مراجع غروسير التاريخية صينية ويابانية ومن كوريا، على وجه التحديد.

لقد رام خ.أ تحليلا موضوعيا لواقع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الواقع المدفوع بقوانين جدلية شديدة التعقيد للانتقال الاقتصادي والسياسي والثقافي. لقد لاحظ أن أُفُول أمريكا يخلق أزمة عالمية، ومن هذه الأزمة تبحث الأمة عن بديل، بحيث لا يمكنها أن تتصور هذا البديل دون إدماج واقتراح “خطة طريق” للإنسانية جمعاء. فلا بديل ستصنعه لنفسها – في آخر المطاف- دون اتباعه وضرورة تعميمه واقتراحه على الباقين – مجتمعا وعالما. ومن هنا تجد قيمة “سمو العدالة” في الصدارة، مثلا. لكن تصدير” النموذج الديموقراطي” مثلا، أبان عن حدوده، وكثيرا ما غطى على تدمير مقصود للبنيات والسلوكات والمؤسسات المحلية (أفغانستان، العراق، اليمن….).

هكذا يجد المشروع اليساري الاشتراكي ضالته. وقد أسس ألفين توفلر (انظر “الموجه الثالثة” وكذا “صدمة المستقبل”، و”السلط الجديدة” والحرب و”الحرب المضادة”، الخ، وكان ذلك – صحبة زوجته فاريل أدلاييد طورا) لفكر مستقبلي حول التطور الاجتماعي والسياسي للاإنسانية منذ ما يناهز 10 آلاف سنة. لقد جزم الأستاذ خ.أ إلى أن بوصلة اليسار العالمي انتقلت من الشرق الروسي والصيني إلى ما وراء المحيط الأطلسي بالذات،  وفي الولايات المتحدة، بالذات حيث تتم  صراحة في الدول الشمولية مقايضة “غياب الديموقراطية” بتحسين نسبي لشروط الإستهلاك والحياة !. وأن الفكر اليساري للقرن الواحد والعشرون يصنع اليوم بدون ضجيج كبير – في الولايات نفسها، حيث العديد من الحركات تناشد الحرية والعدالة والإنصاف (اليسار الاشتراكي الديمقراطي – الليبرالي – التقدمي بحزب الديمقراطيين والحركات للشعوب الأصلية، الخ). ثم إن التحول الشامل هو تحول بالضرورة في المدى الطويل للإنسانية جمعاء. وهو جزم/ وتفائل يستدعي الحيطة والحذر !، ( أهمية الحلقات الأضعف في العالم الرأسمالي وحركات التحرر الوطنية والاجتماعية..).

يأخذ التحول التكنولوجي اليوم – بعد 1500 سنة قبل الميلاد من اكتشاف النار – مضمون الحاسوب الرقمي. وتستدعي الثورة التقنو- اقتصادية –اليوم- العالم برمته إلى الانتقال الرقمي. وهو في صميم التطور العلمي الاستراتيجي للدول والمجتمعات والأفراد. وهو ما يطرح، بالتمام والكمال، موضوع  ضرورة تملك قوى اليسار/ “شعب اليسار” – من جديد – لناصية التقدم، واستكمال دورة الوعي السياسي، وتسهيل الحراكات التقدمية – الديموقراطية لكسب رهانات التحرر وفك رباط التبعية (…) وبناء الذات الشعبية- الوطنية.

والحال أن إنتاج المعرفة العلمية – التقنية غير استعمالها الفج والمبتذل. ومن الأهمية بمكان توظيفها توظيفا منتجا، فاستثمار الأدوات/ الآليات والرقمنات في حقل الاقتصاد الذكي واستيعابها المبدع. والحقيقة أن أي تقنية، أو أي تنظيم محدد للعمل، كالتايلورية أو الفوردية أو التيوتية، وغيرها، فهي “حمّالة لقيم”، وأي قسمة للعمل – في المقاولة أو على الصعيد الدولي – هي لقيم السيطرة أو الخضوع أو الانعتاق والسيادة.

ومما يؤخذ على لينين، مثلا، هو اعتماده على النموذج التايلوري – الفوردي في تنظيم الإنتاج، كما مورس في “سياسة النيب N.E.P”، حتى أدى ذلك إلى خلق طبقة من التقنيين والمتخصصين أو إلى “ارستقراطية عمالية” بطابع اشتراكي، قامت بالفصل ما بين عملية البناء الديموقراطي – الاشتراكي في المجتمع وعملية الإنتاج في المصنع ذات الطابع البورجوازي. هكذا تجلى خطأ لينين السياسي في اعتباره التقنية والتكنولوجيا القادمة من الرأسمالية شيء محايد (…)، فكانت وراء ظهور رأسمالية دولتية بغطاء اشتراكي (انظر الصعيب حسن 2022، انظر بشكل خاص “لينين وإشكالية نظام الشغل البرولتاري في كتاب له: مصدر سابق صص: 81-89).

والحال أن “الاقتصادوية” – كاليسراوية – تظل مرتبطة بالتحليل الماركسي المادي، وأن ثقل نمط الإنتاج يقع بالضرورة على قوى الإنتاج، في ما اعتاد “الاقتصاديون الماركسيون” قياسه بـ”الكوك”C.O.C/: “التكوين العضوي للرأسمال”! والانخفاض الميلي لمعدل الربح. وهو يحط التقنية ووسائل الإنتاج وقوى العمل في أول درجات التحديد الاقتصادي والمجتمعي برمته. وهو أيضا ما لا يترك مجالا كافيا للماركسيين – الكلاسيكيين لتأمل قضايا معاصرة كالبيئة والدين والثقافة والفلكلور (غرامشي…) !

تمثل الرقمنة والأنترنيت تقدما تاريخيا في تطور القوى المنتجة. إن الرأسمالية  تدفع -من حيث لا تعلم- بالإعداد المادي للاشتراكية إلى الأمام. تسهل الأنترنيت- ككل بضاعة-، التواصل عبر الحدود للجماهير ووصولها إلى العلوم والتعليم والمعرفة الفنية، بالإضافة إلى التبادل الثقافي، كما توفر تسهيلات مهمة للعمل التنظيمي النضالي- الحركي، على الأقل.

ومع ذلك، فقد أخضعت الاحتكارات الحاكمة الأنترنيت بالكامل، تقريبا، كطريقة جدية فعالة للتأثير على الجماهير. ذلك أنها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، تصل مباشرة إلى قلوبها وعقولها، وخاصة إلى لا شعر وأفئدة الشباب. تمكنت الحركات والأحزاب الفاشية والرجعية والفاشية الجديدة، بشكل رئيسي، من خلال الأنترنيت، من الحصول على موطئ قدم في المجتمع وتعزيز نفوذها بين شريحة متزايدة من الجماهير.

إنها واحدة من الأكاذيب الحديثة لممارسة الدولة للسلطة، التي تحتكرها أصلا، والتي تشجع الأنترنيت – عوض قراءة الكتب والمجلات والتفكير المتأني (…). وبالتالي يتم الترويج للقصور الفكري لديها وإلى السطحية والعاطفة لديها، مما يعرض جميع المشاركين للمراقبة والتدخل من طرف أجهزة الدولة، والسرية منها، على وجه الخصوص. [انظر ستيفان إنجل (2021)، أزمة الإيديولوجيا البورجوازية…، ترجمة أديب ع. السلام (المغرب) ص 8-9].

وقد اتضح من خلال الأحداث الثورية الأخيرة، منذ الربيع العربي (2011)، الدور الذي لعبته وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي في خلق “جمهور نفسي” غير مرئي، استقطب شعوبا بالآلاف، كما هو الحال في مصر وتونس واليمن والمغرب. وبينما يجتمع هؤلاء تتشكل طاقة انفعالية هائلة – ومنظمة – لا يمكن ثنيها بأي شكل من الأشكال على المضي قدما في مسيرتها. (انظر بن أحمد جوكا (2012)، “احتضار الديكتاتور: سيكولوجيا الجماهير الثائرة/ قراءة من منظور التحليل النفسي وعلم نفس الجموع”، وجهة نظر (مجلة عدد 52).

ولا بد لقوى التغيير اليوم أن تلعب لعبة/ “ثورة الرقمنة” في صراعها الاجتماعي – السياسي، ضد النظام القائم، فهي تعي – الآن – دور شبكات التواصل لخلق وتحفيز جمهور نفسي افتراضي – قد ينقل معاركه – حينها – إلى الواقع الملموس، وما يلعبه من دور في التدبير الزماني والمجالي اللحظي للتجمعات الثورية (انظر تجربة المقاطعة الأولى والحالية وحِراكَيْ الريف (2016)/ “الشّن طن” وجرادة (2017)، (…) على الخصوص، وغيرهما.!!

ومن المعلوم أن ماركس عالج البنية – التكينولوجية- الصناعية للرأسمالية، فكان غائبا لديه إلى حد كبير- إبستيمولوجيا – تحليل الطغمة المالية. ذلك أن هذه الأخيرة لم تصبح مسيطرة على صيرورة الإنتاج، برمتها، إلا في زمان كينز جان ما ينار، بالطبع. ولهذا كانت البورجوازية الصناعية والبروليتارية المحتشدة في المدن الكبرى طبقتا تحليله المركزية للصراع الطبقي. ولم يغير في شيء من المعادلة تطور “النقابية” و”التفاوض النقابي” حول اقتسام “القيمة المضافة”/ فائض القيمة، بالرغم من تحسن المعادلة (عقد الشغل الفوردي).

وطبيعي أن انحسار الصناعة في البلدان المتخلفة – عدا بلاد النمور الجديدة – وتراجع السياسات الصناعية بها، مع العولمة والتخصص الدولي، سيجعل المقولات التحليلية الماركسية (بورجوازية – برولتاريا،…) محدودة النجاعة وقاصرة في الإلمام بتعقد التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية لبلد كالمغرب (انظر مفهوم “المجتمع/ الاقتصاد – المركب” عند باسكون بول، انظر مفهوم التعقيد عند إدغار موران…). ولعل ذلك ما سيتطلب من بعض مثقفي اليسار – عندنا – توسيع بناء الأداة السياسية/ الحزب من منظم مقتصر على “الطبقة العاملة” إلى جمهور الكادحين، أي إلى “بروليتاريا جماهيرية” (الصعيب حسن، 2022)، عوض ” التكور” إلى اعتماد فهم طبقوي ضيق للطبقة/ الشريحة/الهدف المركزي (انظر المؤتمر الأخير يوليوز 2022). وقد يكون الحزب على حق لهول ما خبره من صعوبة تأطير” طبقة عاملة متشظية”، لوحدها، وبالأحرى التوسع لتأطير مجموع الكادحين !

لقد عرف لينين بكتابه/ أطروحته في الامبريالية كمرحلة أعلى/ أو متقدمة للرأسمالية، لكن كم ستأخذ مرحلة الانتقال ذاك من وقت؟ وإلى أي نظام سياسي اقتصادي ما – بعد رأسمالي – إمبريالي؟ وأي أشكال ودرجات وبأي مداخل؟ فذلك أمر مرهون بقوة ومدى التحول الموضوعي التاريخي للعالم ولبلدان الجنوب أيضا. وهو ما يعني أنه مرهون – كذلك – بآلية الصراع الطبقي والعولمي وبآليات التحالفات ودوائرها (…) وبقدرة النظام الرأسمالي باستعماره الجديد والقديم وبافتراسه وتوحشه وبحروبه المدمرة (…) أن يتجاوز باستمرار – إلى حين – تناقضاته ليعيد إنتاج نفسه – ولو طحنا للخصوم والأعداء ! لكنه نفس لينين الذي كان يحلم بتنظيم الاتحاد السوفياتي على شكل العمل التايلوري – الفوردي، وكان يرى – طبعا – في كهربة كامل التراب السوفياتي البوابة، لذلك.

وفي زحمة التقدم العلمي والتقني تراجع البناء الديمقراطي – الاشتراكي – الاجتماعي، كما بين ذلك الصعيب حسن (2022، مرجع سابق). وهو ما يعني أن تنظيم العمل والمجتمع لم يعطي الأهمية ولا الأسبقية للعدالة الاجتماعية، وإنما كان/ ولا زال في خدمة “سلطة التقنيين – المتخصصين/ الأرستقراطية المكتبية”، سيطرة المهندس. وهو ما يعني انحسار “المجال السياسي” و”مجال التفاوض”. وأصبح حكم الناس موكول لإدارة الأشياء، أي تبخيس السياسة والديمقراطية، وهو ما عبر عنه الصعيب بـ”حد الديموقراطية” في النموذج اللينيني.

وقد لاحظ إدغار موران أن العولمة ليست فقط التي ألغت المكتسبات الاجتماعية لما بعد الحرب في أوروبا، بإزاحة عدد كبير من الصناعات المدمرة لفرص الشغل، ولا الانسياق نحو الإنتاجية مَنْ عطّل المقاولات، بتسريح أعداد هائلة من المستخدمين والعمال، وإنما – أيضا – عَجْز الأحزاب لتمثيل “جمهور الشعب العريض” وبلورة سياسة تجيب عن التحديات الهائلة المعاصرة (إدغار مورن 2022). وهو ما يعني الدعوة إلى يسار شعبي ولإعادة الاعتبار للممارسة السياسية، عموما، ولأهمية التموقع المستجد لليسار، فيها، وبالضبط في قلب “اليسار الكامن” (ص.م، 2022) والحراك الشعبي، خصوصا (ابراهيم ياسين، 2022).

ومعلوم أن ما يميز الماركسيين هو تركيزهم على علاقات الإنتاج، بما هي علاقات اجتماعية – تاريخية. فليس الرأسمال “كمية” وإنما “علاقة اجتماعية” تقف على درجة وشكل محدد من قوى الإنتاج الاجتماعية. وإذا كانت الرأسمالية ذات طابع استغلالي ينطلي على درجات تطور وأشكال مستفحلة من تطور نمط الإنتاج المسيطر – عبر الولايات المتحدة (وأوربا والصين وروسيا…) أو “التابع – الوكيل المحجوز”، ضمن تشكيلة اقتصادية واجتماعية محددة – تاريخيا – والواقف على مستوى محدد من قوى الإنتاج، فما يهم أكثر فهو علاقات التوزيع (الأولي والثانوي) القائمة على علاقات إنتاج ومؤسسة على صراع طبقي وعولمة وعلى جميع الأصعدة (ليبرالي متوحش أو ضابط لآليات السوق الرأسمالي الليبرالي عبر الدولة…).

وقد قدم بتلهايم شارل عملا جبارا في التحليل الماركسي للاتحاد السوفياتي، سابقا، بعنوان صادم حينها: الصراع الطبقي في الاتحاد السوفياتي (3 أجزاء بدار النشر ماسبرو – سوي (1982))، وهو ما يعني جدارة المقاربة المنهجية الماركسية في التحليل الموضوعي لبنيات وسلوكات القادة والدولة والاقتصاد والمجتمع، دون مواربة كانت! والاستمرار في نقض الرأسمالية وقد آلت إلى البيروقراطية والافتراس والتوحش، اليوم، بعد البارحة (الاستعمار، الامبريالية…).

لم ينبهر شارل بيتلهايم أمام الصعود الثوري للاتحاد السوفياتي، سابقا، وإنما تساءل عن طبيعة النظام السوسيوقتصادي والسياسي لحقبة بكاملها، تمتد من 1917 إلى 1941؛ وعن ما إذا كانت تخفي الدولة – الحزب، آلة بيروقراطية جهنمية، وليسائل واحد من مفاهيم الماركسية الأساسية – الصراع الطبقي –  في بلاد لينين وستالين وتروتسكي، وغيرهم. إنه حاول أن يستشف “عقلانية” ما في “اللاعقلاني” (فايجلسن كريستيان، 1985). والحال أن ما كان قد أخص به من “انسجام” في الثورة (1917)، الحقبة الأولى (1917-1930)، سرعان ما تبين له، في آخر التحليل، الحقبة الثالثة / الكتاب الثالث (1930-1941) “نوعا خاصا من الثورة الرأسمالية”.

ومن خصائص التشكيلة الرأسمالية التي تكرست طوال الحقبة التي درسها: انتزاع ملكية الفلاحين، تجنيد الطبقة العاملة، العنف الجماعي، تعميم الإجارة، بموازاة تراكم هائل للرأسمال، وكذا تكثيف الصراع الطبقي. ذلك أن الأطروحة التي دافع عنها بتلهايم في 3 أجزاء من كتابه الضخم، تعترف على أن ثورة أكتوبر ضرورة داخلية، لكن لم يلبث المشروع الأصلي  للثورة أن انحرف، ومن تم أصبح من الضرورة المعرفية تغيير سؤال/ مكانة الصراع الطبقي في النظام.

ومن علامات هذا التحول المنهجي إدراج مفهوم “السيطرة/ المُسيطر عليهم” في التحليل، في الحقبة الثالثة من المؤلف، عوض الحديث عن مفهوم “الجماهير الشعبية”، قبلئذ. كما انه رصد انزلاقات وقطائع في النظام السوفياتي إلى نظام “رأسمالية الدولة” وسجل الصعوبات التاريخية التي سقط فيها “الحزب – الدولة”، وجعلته يجزم بشيء من “الحذر واللبس”، حسب فايجلسن كريستيان 1985، إلى أن ثورة 1917 سمحت للبولشفيك بالسيطرة على المجتمع والدولة.

والحال أن الأسبقية التي أولاها النظام للصناعة الثقيلة وإلغاء الأثمان وأولوية الخطة على السوق وإقصاء منطق المنافسة وتهميش ضبطية السوق (خاصة مع حكم ستالين)، سمح بتقوية علاقة الإجارة، كعلاقة استغلال رئيسية لقوى العمل، مما جعل “المتطلبات الاجتماعية في قلب القرار الاقتصادي”، وأن “الاشتراكية المركزية” (شامبتر) التي تبناها النظام، جعلت من الرأسمالية الفعلية رأسمالية متميزة (بتلهايم) لم تسمح بمحورية الصراع الطبقي، في تاريخ الاتحاد السوفياتي، سابقاً.

ثم لا يمكن للعولمة ولا للسباق نحو الإنتاجية أن يجعلا الإنسانية تتوجس من الانتشار الضروري للروبوت – في الصناعة والخدمات -، بل ولا حتى أن يقضي على فرص الشغل، وأن ما حصل هو تعاظم “الحصة المعرفية” في الاقتصاد التكنولوجي – عوض العضلي – فأصبح تخزين الرأسمال الثابت قليلا، مقارنة مع العمل المكتبي. فظهرت للوجود طبقة مكتبية سائحة لا مكانية (جاك أطالي، عبد السلام المودن…) ومتجولة ومرنة ومتعددة الكفاءات ومجارية للانتقاء والاصطفاء المستمر والقاتل، وسيضعف الرهان على “طبقة كلاسيكية عاملة” قائدة للتغيير وإلى ضرورة إنتلجنسيا – نخبة طليعية وقائدة ومسؤولة ومعلنة، كما تجلى ذلك في الحراكات الاجتماعية المغربية الأخيرة (بوعزيز مصطفى 2020).

إن فئة الشباب المتعلم والمرأة المتعلمة، اللذين التحقوا بصفوف البرولتاريا المغربية، قد أدخلوا تحولا نوعيا على تشكيلتها الطبقية. فلقد أمدوا البروليتاريا القديمة بدم جديد وأسلحة نضالية جديدة، ومن ابرز تلك الأسلحة، سلاح التعليم الذي طالما افتقدته [في الماضي]، وهي المنحدرة  من أصول فلاحية وحرفية أمية. إننا إذن نشهد [اليوم] ظهور طبقة بروليتاريا حديثة [طليعية] في المجتمع المغربي.(انظر ع. السلام الموذن (1990)، الطبقة العاملة الحديثة والنظرية الماركسية، ص 36 عيون المقالات، المغرب).

والملاحظ أن التكنولوجيات الجديدة ومحطات التواصل/ الاتصال الاجتماعي تلعب دورا هائلا في تنظيم عمليات الدورة الاقتصادية – الاجتماعية، وتساعد على ضبط الأسواق، وتعمل – بذلك – على تغيير ملامح نمط الإنتاج السائد وتمفصلاته، إن في مراكز الرأسمال المالي أو في المحيطات، بل وستعمل على التفكيك التدريجي للمعتقدات الجمعية الجامدة – المتخلفة، أو لتحجرها…

وإذا كان سمير أمين (2015) يعتبر أن الإسلام السياسي نتاج لإجهاض الحداثة في العالم العربي الإسلامي، فإن المؤرخ مصطفى بوعزيز  يعتبر جماعة  العدل والإحسان، نتاج مغربي، لاعلاقة ضرورية له بإسلام الإخوان المسلمين، لكن يبقى موقف سمير أمين حاسما في ذلك، مشككا في إمكانية أن تسلك الحداثة طرقا أخرى غير غربية، وفقط انطلاقا من التحول الداخلي للثقافات المحلية الغير الأوروبية:

يعد هذا سؤالا رئيسيا في إفريقيا، سؤالا موسوما- ضمن أشياء أخرى- بحضور وازن للإسلام- فعمل على تعريف الحداثة، وهي مرادف للعقل التحرري، مع الإعلان عن حق الشعوب في تجاوز ” تقاليدها” وخرقها، الشيء الذي يستوجب عملية الحياة الاجتماعية ويحدد ظهور الديمقراطية وانتشارها. في هذا الإطار، حلل مسار أوروبا التي سلكت هذا النهج، لكنها تصطدم بحداثة محدودة وناقصة لارتباطها بظهور الرأسمالية. وبين كذلك بأن العالم الإسلامي لم يرق بعد إلى مستوى التحدي وأن الإسلام السياسي هو نتاج هذا الإجهاض للحداثة أكثر منه جوابا ناجعا للتحدي الذي يمثله، كما يدعي ذلك(انظر سمير أمين(2017)، الحداثة والتأويلات الدينية، ص 3 منشورات الأفق الديمقراطي، المغرب).

كل هذا سيضع الممارسة السياسية – اليسارية – التنويرية على محك متتالية “الجدل واللوجستيك والتكتيك”، مما أشار إليه خ.أ، لإحقاق موضوعي عادي مستحق وكاشف لقيم التنوير والعدالة والحرية والإنصاف والمساواة (…).

هكذا سيكون لتلك الإنتلجنسيا/ القيادة وقد استنبطت تميز ممارستها ووعيها الملموس بتناقضات العولمة وتمفصلها مع بنيات التأخر والتخلف أن تعمل ببوصلة/ وضوح من اجل “عالم أفضل”. والحال أن من أهم ما يمكن وراثته عن ماركس هو التحليل النقدي – الملموس – المسنود بمفاهيم كونية لأسس الهيمنة الرأسمالية، وما يفيد لتحليل خصوصية مجتمع ودولة المخزن الاقتصادي، وكذا استثمار وتوزيع نبل “اليوتوبيا” للمجتمع الإنساني الممكن (ماركس، غرامشي، الصعيب، خ.أ،…)، ولرسملة المبادئ العامة لهذا الفكر المعاصر، لإنعتاق الشعوب والجماعات والأفراد المقهورة !! وان تنتج أحزاب ومنظمات اليسار اليوم – المجتمع المدني – كتابها/ مشروعها الخاص والراهن للعمل “ما العمل” اليوم؟

2-أيهما في أزمة: العمل المأجور أو العمل الإنساني في حد ذاته؟ وإلى أي أفق؟

أن يعلن اليوم أمام الأشكال المتعددة من “العمل اللامادي” وتفتيت كتلة الأجراء وتعاظم القطاع الثالث وتدويل الاقتصاد المالي واحتكاره من طرف طغمة/ أقلية، عن طلائع لـ”نهاية العمل”، على الأقل كما عرفناه في القرن 19 و20، لهو حماقة، بامتياز. “فالإنسان – فابر” يعمل على تحويل محيطه الحيوي، باستمرار. وهو بهذا يعمل على تحويل نفسه. كما انه لا ينتهي من عملية التعلم، أبدا. وهو في عمله ولعمله مسار فريد وخاص به. إذ لا يكمن أن يفصل أبدا عمله عن مجاله الحيوي، أي عن إيكولوجيا محددة.

نفترض إذا كان لعمل “ما” أن ينقرض، فهو الشكل الذي سيأخذه في مرحلة تاريخية محددة. إن المُهدّد – اليوم – بالتجاوز، لهو “العمل المأجور”، حيث وصل إستيلاب “قوة العمل ” مداها مع “العمل عن بعد” ومع العمل اللامادي المكتبي المُشتت والمجرد (…). أما العمل، فكان دائما ولا يزال مرتبط بالإنسان، أينما حل وارتحل. إنه من صميم تصور الإنسان للأشياء وللعالم وللإنسان نفسه (بيرغسون).

الملاحظ اليوم أن النموذج المتبع في الغرب – كما عندنا – يكون قد وصل إلى الباب المسدود. وهو ما يتطلب التفكير الجماعي لحل معضلات العمل ومحيطه ومستقبله، وخاصة من طرف القوى الحية، الحريصة على صحة الطبيعة والمجتمع والإنسان.

وبديهي أن نفترض إذا كان العمل مدرسة لتشكيل العقل الإنساني، فإن فرضه بالقوة والقوة الناعمة والقوانين (!) هو مدرسة لـ”اللاعقل”. إذ أصبحت “اللإنسانية” “تتنكر للفكر، تماما كما تم مع التايلورية، بالذات، وغيرها من المناهج الصارمة – الميكانيكية للعمل. لنتذكر ما يكتب على أبواب المصانع: “عقلك، اتركه في الخارج”!، ليصبح الإنسان – مع الثورة الصناعية – حيث الآن تأخذ مكان “الصانع – المعلم التقليدي – المانيفاكتروي”، قلنا ليصبح الإنسان ملحقا بالآلة، وفي خدمتها الصماء، “قطعة غيار” في – ومن بين دواليبها، بل أكثر من ذلك، يتم تصوير الإنسان على منوال ونموذج الآلة – الماكينا.

وسيصل “التنكر للواقع” مداه مع الثورة الرقمية الزاحفة مع العولمة. فـ”المخيال السيبراني” يتصور الكائن البشري على أنه “حاسوب” يمكن برمجته. فالآلات الذكية قادرة  حتما على تحقيق برامج محددة، بالتفاعل مع المحيط. فإذا كانت ساعة الحائط الكبيرة للقرون الوسطى في الغرب مثبتة من على فوق أبواب الكاتدرائيات، مؤشرة على تصور للعالم – تماماً كما تؤشر السبحة لدى المسلمين عن توافق “ما” مع الكون وعلى اطمئنان “مريح” لفهمه، فلقد حل اليوم الأيفون والحاسوب والبرمجة محل الساعة الحائطية الكبرى – والسبحة – شيئا فشيئا -، وأصبح الكائن البشري نفسه “موضوع برمجة”، حيث تحدد الأهداف والمؤشرات – الكمية – وتتم مواءمة النتائج مع الأهداف، عبر التسيير بالخوارزميات.

إننا صراحة أمام “تصور أحمق” للكائن البشري ولعمله ولواجباته – قبل حقوقه – يدفع بجنون البشرية – عموما – والعاملين والأطر – خصوصا إلى “نكران الواقع” والاستخفاف بقيمة تجارب العمل الملموسة. فـ”التهافت السيبراني” يقتحم اليوم أغلب الأنشطة الإنسانية – صناعة وتجارة وخدمات، ونرى له مؤشرا في تعاملنا مع شبابيك الأبناك، وفي تعامل أخرق لأطباء، مثلا، مع مؤشر إنجاز أصم أكثر من الاهتمام الحقيقي بالمرضى (…) وهو ما يؤشر – حتما – على تدفق العته والألم وغياب المعنى لدى العمل والعاملين والأطر، وفي المؤسسات الخاصة، كما العامة (…)!

لا يمكن أن نقف حتما ضد التطور ولا يمكن لأحد أن ينازع في قدرة الآلات الجديدة – والرقمية منها – على التحرير، وان تعفي الإنسان – عموما – من أي  شغل آلي – روتيني، هكذا، ليتفرغ إلى ما هو أجمل و”أكثر شعرية” في العمل: الخلق والتخيل، وخاصة الاهتمام بالآخرين، بالعلاقات الاجتماعية – الإنسانية (…). ومن البديهي أن الآلة الصماء – مهما بلغت ترقيتها – فهي لا يمكن أن تتفطن إلى كذا اهتمام؛ وقد أوكل لها أن لا تهتم مثلا، بما ليس ذو مردودية أو ربحية، فيضيع في ركاب صدئها المحتاجون حقا لكذا اهتمام (معوزين، أطفال في طور التربية والتعليم  – الصحة، الخ)،  وهو ما في العمل الإنساني – عكس ذلك – من عمق، وبالضرورة.

لا يمكن اعتماد النموذج الإنساني البديل (عالم أفضل، اشتراكية اجتماعية مختلطة، شيوعية، ديمقراطية…) دون تجاوز التصور الآلي – التايلوري – للعمل، تصور الإنسان على نموذج الآلة. ومعلوم أن إخضاع العمل لحكامة الأرقام الصماء وللبرمجة الدقيقة سيصيبه في مقتل، وخاصة سيقضي نهائيا على الخلق والإبداع وابتكار الجديد. ومما أصبح ملحوظا، اليوم، قبل البارحة – هو إخضاع العمل الفكري – الثقافي العلمي إلى تقسيم العمل المنتج، لا ريب في ذلك، لكن ذو الانعكاسات الذهنية والنفسية والاجتماعية الخرقاء! (انظر القلق والانتحار عند دوركايم…!).

لا يجادل أحدا اليوم في أهمية التخصص وجدوى التمهير (أو المهارة أو التمهين (…))، وما لهذا من رافعة للإنتاج العلمي والثقافي والتقني – اليوم – أعلاما للتفكير والحكمة، من فلاسفة وعلماء كبار، لم يخضعوا يوما إلى العمل بحوكمة المؤشرات البحثية (سنوات البحث، نتائج البحث، مؤشرات الإنجاز…)، ولا كان همهم الأول النشر بسرعة في مجالات/ دوريات علمية دولية محكمة، وإنما كانوا ينطلقون من مراكز اهتماماتهم البحثية،  ومنهم من كان عصامياً، بالرغم من صعوبة هذا الاختيار.

إن العمل بـ”تايلورية العمل الفكري” – قد يكون ذو مردودية – وهو أمر يناقش لدى الجامعيين والبحاث في المختبرات (جودة البحوث – منهجية العلوم… تسلل البحث الغيبي والخرافي للجن المناقشة ولمؤطري الدكتوراة، الخ…)، لكنه لن يعطي أبدا أعلام فكر من عيار الجابري أو العروي، أو نيتشه أو ماركس، الخ. ثم أن النسبة الهزيلة لما تُخصِّصُه الدولة – بلادنا للبحث العلمي وخوصصة التعليم لن ولم يعملا إلا على الإجهاز – اليوم – على ما تبقى من شأن البحث والتنقيب والجرأة لدى الباحثين الشباب.

وإذا كان من الضروري تخصيص ما يمكن برمجته للآلات، فالتاريخ الطويل والمتعرج للبشرية يُنبهنا إلى أن عمر الرأسمالية قصير – بالرغم من ما يمكن أن تأخذ أشكال تطورها وتميزاتها من ألوان (المركز، المحيط، دول النمور…)، ولعل المطلوب اليوم من القوى الحية، وفي مقدمتها اليسار هو “فك البرمجة الآلية” والتفكير الصحي في ما يمكن أن يكون عليه “ما بعد الرأسمالية الاحتكارية المعممة”، في مراكزها، كما  في المحيطات، بالذات واستقصاء بعض ملامح ما يمكن أن تكون عليه غدا اشتراكية القرن 21، أو أي شكل آخر مبدع لسعادة الإنسانية.

ومعروف لدى مؤرخي البنيات الاقتصادية في المدى البعيد، أن العمل الإنساني شرط للإنتاج ولا يمكن أن يكون سلعة (بولانيي)، ولا يمكن أن يكون “موضوع بضاعة”! أما وأن يتم التفريق بين “قوة العمل” والشخص – حاملها – نفسه/ العامل، في ما يسمى شكلا “عقد الشغل”، فلا يغدو الأمر أن يكون سرابا وتجنيا. بل ويمكن أن نستشف نفس الهراء من تحرير العبيد، مثلا، (أمريكا أثناء تحرير العبيد، انظر أيضا العروي في نفس الموضوع). إنها آلية لتخفيض كلفة قوة العمل لمالكيها – الأسياد الجدد، حيث يتحول العبد إلى “إنسان حر”، لكنه يعمل للآخرين، بمحض إرادته. إنه بهذا يعتبر عبدا لنفسه، يبيع ذاته عبر عقدة عمل، ليفقد العمل معناه وماهيته: فهو بِبَيعه لعمله لمن يستعمله ليس له الحق أن يتدخل ليُسائِل مالك/ مستعمل قوة عمله، لا بأي طريقة عمل سيُستعمل ولا ما يمكن لعلمه أن يخلّفه من أثر على البيئة، مثلا؛ الخ. ولم تستطع النقابية، ولا ما يمكن أن ينتج عنها من “اتفاقات جماعية”، أن تغير من جوهر معادلة التبادل الأجري اللامتكافئ، ولا أن تعطي معنى لعقد الشغل – “السراب”.

ويمكن أن نسدي الأمثلة الكثيرة لغياب المعنى/ أو لتغييب المعنى في ما آل إليه التحول الرقمي من انزلاقات لا تخدم في الأول والأخير إلا مصلحة الرأسمالي المالي – العولمي. فالعمليات البورْصويّة للمقاولات/ المجموعات الرأسمالية – الطغمات المالية – في بحثها المحموم عن المال الصرف – لا تضع نصب اهتماماتها “طبيعة المنتوج” في ذاته أبدا.

وهو ما يلاحظ أيضا في العلاقات الاقتصادية الدولية، حيث يكتفي العالم المتطور/ المقاولات المتعددة الجنسيات والعابرة للقارات – في آسيا – الصين واليونان وغيرها – من دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية، يكتفي بعمليات وإجراءات التنسيق، وكذا الحرص الدقيق على تحويل صافي الأرباح إلى المراكز المالية – الرأسمالية؛ فيما يوكل للشعوب/ الدول المستضعفة – الكادحة مهام العمل الفعلي والإنتاج بالمناولة.

وقد لاحظ سمير أمين بهذا الصدد، أنه إذا كانت أغلبية العمال (ألمانيا – إثيوبيا وإنجلترا- الهند…) تساهم في تكوين فائض القيمة، في الحقبة الاحتكارية المعممة للرأسمالية، وإن بنسب مختلفة، باستغلال مفرط لثلثي العمالي في الهوامش الرأسمالية، فإنه توجد فئة من العمال المفترض كونها “فائقة المهارة” (وقد يكونوا كذلك فعلا) يستهلكون فائض قيمة أكبر مما يُسهمون في تكوينه. (ص 112 نفس المصدر). وهناك نقاش بين الاقتصاديين في من يتحمّل أقصى الاستغلال: الأجراء في المراكز الرأسمالية أم من هم على الهوامش (شارل بتلهايم (1982)، إمانويل أريغي (1969…)؟

فالتفاوت الجوهري في توزيع الدخول المميز للرأسمالية، يقوم بشكل أساسي على التناقض الذي يواجه سلطة ملاك رأس المال في محاولتها إخضاع بائعي قوة العمل. فالنظام الرأسمالي المعاصر للاحتكارات المعممة يقوم على مركزة متطرفة للسلطة على رأس المال، يرافقها تعميم العمل المأجور. وفي ظل هذه الظروف، يتنكر جزء كبير من الربح في شكل “أجور” أو “أشباه أجور” للشرائح العليا من الطبقات الوسطى، التي تعمل أنشطتها كخدم لرأس المال، ليصبح الفصل بين تكوين القيمة واستخلاص فائض القيمة، وتوزيعه، على أوسع نطاق. (ص 115، نفس المصدر).

ولعل هذا ما سيعمل – في المدى المنظور – على إفقاد تلك المراكز صحوة تراكم/خبرة الكفاءات دون أن يخلقها نهائيا في المحيطات، وهو ما يعني دخول الكوكبية في تناقضات عالمية قاتلة. وهو ما يعني – فوق كل شيء – فقدان المعنى لنشاط الإنسان الإنتاجي المعولم وتردي محيطة؛ مما تكون قد تدفع إليه اليوم الأنظمة العالمية المسيطرة – وسيتفاقم غياب المعنى مع ما ستؤول إليه ميكانيزمات “الدولة الاجتماعية” عند الغرب، عموما، وفي بلدان الهامش، في أسوء تقدير. ويمكن اعتبارها – عن حق وفي الأصل – شكل متحضر للرأسمالية المتطورة – المتضامنة، ومن أجمل ما أنتجت لتجاوز بعض تناقضاتها في القرن 20/21؛ لحد أصبح التمييز – على ضوئها – يتم اليوم تفريقا بين الدول الديموقراطية والدول الدكتاتورية، ضبطا وتشخيصا لصعود الاختلالات الاجتماعية والمناطقية (…). وستأتي “السنوات 30 المجيدة”، بأوروبا بعد الحرب، لتعيد صياغة عقد العمل، حيث الاتفاق بين الفرقاء الاقتصاديين – الاجتماعيين، تحت ضبط الدولة، فهناك المزيد من الإنتاجية في العمل، من جهة، ورفع الأجور، من جهة أخرى.

هكذا ستتم مقايضة الاستهلاك الفاحش بالخضوع واستحسان السلطوية (نموذج الصين الشمولي، مثلا) التام لأهل الأمر والنهي/ الاستبداد. ولم يطرح، قط، صراحة، سؤال كل ذلك من اجل ماذا؟، من أجل أي عالم؟ ومن دون تحديد سليم للحاجيات (!)، ولو اقتضى الأمر جر العالم برمته إلى أزمات إيكولوجية خطيرة، وبدون طرح إشكالية استدامة النموذج التنموي. وهو ما يطرح السؤال المركب: التحدي التكنولوجي والتحدي البيئي، لارتباطهما الوثيق.

يرى سمير أمين أن تعميق العولمة لا يعني أن الرأسمالية لم تكن إمبريالية منذ يومها الأول، فهي كذلك طوال تاريخها، تفاقم التفاوتات بقوانين التطور اللامتكافئ والاستقطاب والاستتباع الكامنة فيها. كما أن تلك العولمة المعززة للامبريالية كرست الوصول غير المتكافئ للموارد الطبيعية للكوكب، مما ينتج من ناحية رافدا آخر لما يسميه بـ”الريع الإمبريالي” (الناتج عن السطوة على الأرض  والمناجم)، فضلا عن أساس إضافي لتخلف التخوم بتعميق اختلالاتها ضمن إطار التبعية، ومن ناحية أخرى مشكلة “تدمير البيئة”، كنتيجة لعقلانية الرأسمالية المشوهة (اللاعقلانية من وجهة نظر اجتماعية أوسع أفقا)، القائمة على القيم التبادلية لا الاستعمالية، والمحدودة، من ثم، باعتبارات الربح قصيرة النظر (انظر مقدمة مجدي عبد الهادي لكتاب سمير أمين، نظرية القيمة(…)، ص 11، مرجع سابق).

تنجرف البشرية بخطى متسارعة نحو كارثة بيئية عالمية لديها القدرة على تدمير أسس الوجود البشري، بأكمله. تقع مسؤولية هذا التطور بشكل أساسي على عاتق الاحتكارات الدولية الكبرى، التي تسيطر اليوم على مجمل الإنتاج العالمي والتجارة الدولية وكذلك على حقول السياسة والاقتصاد والعلوم في جميع البلدان. (انظر ستيفان إنجل (2015)، الصراع الطبقي والصراع من أجل وحدة الإنسان والطبيعة (ترجمة أديب ع. السلام وآخرون، ضمن كتاب إنذار بالكارثة، المغرب).

لقد ظهر جليا أنه من الممكن لدولة القانون والمؤسسات أن تقدم الإجابة. وهو ما يعني استحداث نظام جديد و”جيد” للتكنولوجيا، عوض المضي قدما لتدمير الإنسان. وهو ما يدعو، بالذات، إلى إعادة بناء علاقة حيوية مع الطبيعة والكون.ويرد أمين على الدعوة الرائجة بتجاوز الرأسمالية لقانون القيمة، بتحولها لرأسمالية معرفية خدماتية، مؤكداً أنه لا جديد تحت الشمس، فالعمل والمعرفة العلمية والتكنولوجيا كانا دائما مرتبطين طوال التاريخ الإنساني. فالعمل الاجتماعي، وهو الشكل الوحيد الذي يعترف به ماركس كـ”عامل إنتاج”، تضم دائماً معرفة اجتماعية وخبرات تكنولوجية، هي جزء من أي عملية إنتاجية كبرت أو صغرت، كما أن تورّم الخدمات في الحقيقة ما هو إلا تعبير عن أزمة النظام لا عن تطوّره. (ص 10، نفس المصدر).

ومما سيتمكن حتما اليسار بكل ألوانه – “أصوله” و”مصباته” – أن يقوم به ويدافع عنه في أنظمة وصراعات سياسية بديلة، في أفق ديموقراطي- شعبي. وإذاً سيكون على التاريخ وحده أن يحسم في ما إذا “الاشتراكية” كلمة ماتت ويجب استبدالها أو إحياؤها، فإنه تبقى مع كل ذلك البديل الملائم لتجاوز الرأسمالية ولإحقاق المجتمع العادل. والحال أن الرأسمالية بتعميقها للامساواة وإنهاك الكون يُلزمها  بديل لها يتسم بقدر كافٍ من الوضوح حتى تسقط ! (بيكتي طاوماس، 2020، لتحيا الاشتراكية !).

والحقيقة للتاريخ، أن مفهوم “العدالة الاجتماعية” له صيرورة عند الغرب، في ما تَشكُّله يتعرض للكثير من الحيف والتشويه في البلدان المتأخرة – التابعة. فلقد مرت البشرية من ضرورة مطابقة “القانون الإنساني” مع فحوى “القانون الإلهي” (المرحلة الأولى) إلى إبعاد هذا الأخير واعتماد “قوانين” موضوعية (!) صاعدة من رحم الطبيعة والمجتمع والفكر – ذاتهم – تماما كما عند ماركس، مثلا، في “قانون الصراع الطبقي” (المرحلة الثانية)، ومن تم إلى إخضاع المصير الإنساني إلى قوانين وضعية، قوانين من صنع يد الإنسان ويتقاسمها ويمكن أن يغيرها (المرحلة الثالثة).

وهو ما يعني أنها ليست لا قوانين عفوية ولا هي مفروضة – تسلطية – عليه. وهو ما يعني أيضا أنها قوانين خاضعة، باستمرار للنقاش والتداول. ويمكن أن نشير – في هذا الصدد – إلى قانون المنظمة العالمية للشغل  (O.I.T)1919، وإلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1945)، والمنظمة العالمية للصحة (O.M.S) وكـذا F.A.O وU. N.E.S.CO، ليأتي، بعدئذ، ميثاق هافانا، الخ.

والحال أن اقتصاديات العالم المتأخر – التابع لا يمكن النظر إليها من وجهة مقولات تحليلية أوروبية – أجرية مركزية صرفة. ولكن انطلاقا من تعدل السياقات والثقافات والخصوصيات والتواريخ المختلفة في عالم الشغل، ومن تجارب الأفراد العينية. ومن الملاحظ، أن المؤسسات – أعلاه – دخلت مع مرور الزمن واحتدام التناقضات والصراعات، في تعارض مع ذاتها ومبادئها. فإذا كانت المنظمة العالمية للشغل تدافع لحد الساعة عن “العمل اللائق الإنساني”، مثلا، فالواقع اليوم يقول العكس: إن العمل لم يعد يسد رمق الآلاف من العمال – في خدمة الأرض والفلاحة ومنتوجات الغذاء.

والواضح، أن قوانين التجارة الدولية – اليوم وبالذات – تعمل على هشاشة شروط العمل في البلدان المتأخرة. لقد أصبحت هذه القواعد المفروضة طبعا على العالم المتخلف، عائقا أمام تطور هذا العالم، بل ومُدمِّرة لما تبقى أو تولّد من فرص الشغل، في إفريقيا والمغارب وعندنا في المغرب، وغيرها. والملاحظ تبوء “النقابية الفلاحية” مكان الصدارة في العديد من بلدان العالم لإرساء شروط الديمومة لإنتاج فلاحي سليم، وكذا الدفاع عن البيئة – ضدا على همج الرأسمال المالي – العولمي. وهي بذلك تروم إعطاء معنى للعمل ولأساليبه، ضدا على إخضاع سافر للفلاحين – وأحيانا أخرى وكثيرة بشكل غير مباشر وملتو – لشروط الإجارة، في ما يتم توهيمهم  على أنهم عمال – مستقلين – أحرار، وهم في حقيقة الأمر، في وضعية عبودية جديدة!

والحال أن دولا بكاملها تخضع كمقاولات – لنفس منطق “الحكامة بالأرقام” الجهنمي؛ في خلط سافر لمنطقين مختلفين وضروريين للمجتمع الإنساني: منطق الدولة ومنطق المقاولة. فترى “على سبيل المثال لا الحصر، بلدا – كاليونان – في أزمة، يتعامل معها البنك الدولي وكأنها مقاولة، ليتم تسريح ما يزيد عن %30 من شغيلتها الصحية العمومية (انظر الترويكا)، ليضل “الثلث الناجي” يعمل في ظروف قاهرة. ومن عجائب الأمور أن تعاقب اليونان، بالذات، لأنها عملت بـ”الساعات الإضافية”! وهذه الأمور ليست ببعيدة عن ما جرى لبلادنا –المغرب – منذ التقويمات الهيكلية الأولى – مرورا بالإحالة المبكرة لآلاف من أطر الدولة – في الصحة والتعليم والشغل – على “المعاش” (2005)، مع إنعاش مسلسل الخوصصة، دون أن ينتعش الرأسمال الخاص الوطني أو الدولي، عندنا!

وفي الختام، إن أقل ما يمكن أن يقوم به المشروع النقدي – الديموقراطي اليساري – اليوم – هو اعتبار القواعد الدولية للعولمة – اليوم – قواعد تسلطية – سكيزوفرينية وعدوانية، تدفع كل الأمم في سباق محموم لمن يؤدي أقل ضريبة ويحترم أقل الظروف الاقتصادية – الاجتماعية للإنسان، وهي سلوكات مشبوهة، تناقض الأهداف الأصلية للمؤسسات الدولية. إنه الأمر الذي يدعو قوى اليسار الاشتراكي – الاجتماعي والبيئي والشيوعي صياغة ممارسة شعبية ذات حد أدنى موحدة جديدة، للوقوف سدّاً منيعاً وإقامة مفاوضات أو ثورات من موقع الديناميات الاجتماعية، الواعدة. وذلك أمام تغول “الحكامة – العولمة السلعية الرقمية” التي تعمل على خدمة مصالح الرأسمال، أكثر مما تسعد الإنسان –  والمقاول المواطن والعامل المنتج، على وجه الخصوص. والحال أن شرط تحقيق هذه “السعادة/ تقليل التعاسة” يستوجب “حكامة أخرى” مفاوض عليها في الميادين بين كل المتدخلين/ القوى، تسائل معنى ومنهج ومحتوى الأنشطة الإنسانية ولا تتنكر لواقع وتجارب البلدان والشعوب والدول والأشخاص (…).

وللملاحظة فقط، ألَمْ يكثر الحديث ببلادنا – والعالم -، في مجال الإعلام وأطروحات الجامعات (…) عن “الحكامة” ومواضيع التدبير والتسيير والإدارة، إلا تيمننا بما يمكن أن يفخر به قطاع خاص – لم يستطع التموقع اللازم والكافي في تشكيلة اقتصادية اجتماعية متأخرة وتابعة. أما على المستوى السياسي، فلربما حتى لا يكابر المغاربة – بعد – ويعملوا على إقامة  الوزن الضروري لمطلب “الديموقراطية”، من بين مداخل سياسية مهيكلة حاسمة لمغرب الغد.

وللعلم، فالمفهوم الأول – “الحكامة” – مفهوم تقني محض، قادم متطفل من قاموس المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي…)، أو على الأكثر مفهوم ثانوي وإجرائي، فيما الأخر – “الديموقراطية”، المفهوم – الأساس، البديل عنه، والذي أصبح بلغة الموضة والمسخ وبتسييد منطق “نهاية العالم”، نعت – عِوَض بديل – أساس، فهو قادم – عن جدارة – من علوم السياسة (القانون الدستوري، علم الاجتماع السياسي،…) ومن تطلع الشعوب للحرية والعدالة الاجتماعية.

والحال أن دسترة مؤسسات الحكامة التشاركية (مجلس المنافسة…) لا تلعب دورها ببلادنا، بل هي في حيرة من أمرها، إذ ولدت مشوهة وعرجاء – من الأصل. وعلى ذكر هذا المجلس بالذات، فهو لا يُسيّر كمنظمة ضابطة للسوق الاقتصادي، ضابطة للمنافسة وللشفافية، بموازاة مع الليبرالية السياسية – الديموقراطية التمثيلية المزعومة.

إن الأمور تسير ببلادنا وكأن أقصى ما سيسمح به تثبيت “الخيار الديموقراطي” لدستور 2011 هو “التأويل الديموقراطي” للنصوص القانونية، ليكثر “اللغو الفارغ” والنقاش في صفوف نخبة – قد “تعرف من أين تأكل الكتف”، حول الدستور المكتوب – الشفهي، وما تسمح به – عن حق – وفي إطار مؤسسي مدروس بدقة – إذ هو متمركز حول نقطة في السلطة وما تسمح به موازين قوى سياسية فعلية، جرت العادة على استغلالها لصالح السلطة المركزية، ليصبح اليوم، حتى “التأويل” ، ذلك، متجاوزا وغير مرغوب فيه.

لعل الذي يهدد قاطبة الأحزاب بؤسها الفكري. فلا رجاء في أحزاب سياسية تأكل نفسها بنفسها وبفعل عوامل التعرية السياسية الخارجية، وبفعل نزعتها الانشقاقية والانقسامية أيضا، وتنحو إلى الاستمساك بعروة الاستثمار في النزعة الشعبوية على مستوى البرامج  والخطاب السياسي والتواصل الجماهيري، وفي ظل اعتماد ثقافة القطيع وسلوك الحشد المغيب للعقلانية مقابل إذكاء روح التسطيحية والتبسيطية، والحرص على دغدغة مشاعر الجماهير ومخاطبة وجدانهم، وهي بالفعل أحزاب ينطبق عليها وصف ” الأحزاب التي تلتقط كل شيء” parties catch-all. (انظر ذ.عثمان الزياني، مصدر سابق).

كل  ذلك القوس السياسي المنفتح سيقفل بعد أن حسم ذات مساء – عقب إفشاء/ ترسيم النسخة المنقحة البديلة لدستور 2011، بإقرار خبراء مساهمين في نسختها الأولى، في أن الإسلام دين دولة المغرب الرسمي، لتؤجل “حرية العقيدة” الأسمى ومنها إلى اللائكية، إلى حين. وهو حسم يتم – على أقصى تقدير – في نص الدستور، أما ما هو عليه المجتمع، بل وحتى كيف تتمشى المؤسسات العمومية، فلا نظن أن احترام ذلك – وفي قوارير النفس والطقوس للمغاربة (نخبة وعوام)، يتم في احترام تام لتلك القدسية / التداخل بين السلط (…). وليحسم خاصة، منذ دستور 1996، في الطبيعة التنفيذية للنظام الملكي الحاكم – شبه المطلق. ولتظل – كذلك – القضية الوطنية – الترابية – الأولى تراوح مكانها لما يزيد عن نصف قرن، دون أن تجد حلا ديموقراطيا، نهائيا، وفي إطار “جهوية تاريخية” حقيقية لكامل التراب الوطني – المغربي، إلا ما لوحظ من تململ دبلوماسي (قنصليات دول شقيقة بالجنوب) في السنوات الأخيرة، متزامن مع” صفقة القرن” وفتح باب التطبيع كاملة مع إسرائيل، تحذوه الكثير من أطماع دول عابرة للقارات في الاستثمار المادي، خاصة،  ولربما – قادرة على تغيير المواقف مع تغيير المصالح، وحتى الهيمنة، كما ترتضي السياسة ذلك.

إن “نهاية العالم” والحسم في “طبيعة نظامنا السياسي” لا يمكنهما أن يجعلا السياسة الدولية والنظام السياسي في معزل عن التناقضات التي تخترقهما، كما لا يمكن لحكامة ذات قوائم دفع أربعة أن تشفع لخيار ديموقراطي هجين ولمؤشرات حكم رشيد باهت.

فهل تحدثنا عن التاريخ السياسي للمغرب ومكانة اليسار فيه؟ ربما سنرجع لذلك يوماً ! “هنا طاحْ اللويزْ هْنا ندَوّْرو عليه!” (مثل مغربي).

   

ذ. عبد الواحد حمزة

سوسيو– اقتصادي

                                                                                                                                                       30 يوليوز 2022

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى