وجهة نظر

سعيد يقطين :عن أي سرديات كلاسيكية نتحدث؟

عن أي سرديات كلاسيكية نتحدث؟
سعيد يقطين
منذ أن ظهرت السرديات ما بعد الكلاسيكية حاول بعض الباحثين العرب الاشتغال في نطاقها، وتحت رايتها. لقد اهتم بعض الباحثين العرب في تونس (نجيب العمامي ومحمد الخبو مثلا) بـ”السرديات التلفظية”، وعمل محمد بوعزة على الاشتغال في نطاق “السرديات الثقافية”، وحسيب الكوش عن “السرديات المعرفية”، واهتمت الباحثة العراقية نادية هناوي بـ”السرديات غير الطبيعية”. لست وصيا على ما يمكن أن يشتغل به أي باحث عربي وهو يتبنى “السرديات” منطلقا للعمل رابطا إياها بما يمكن أن يراه ضروريا لتوسيعها وتطويرها. فلكل باحث كل الحرية في “اختيار” الطريقة التي يراها ملائمة له لتحليل السرد العربي. لكن بدون خوض نقاش معرفي وإبستيمولوجي حول أهمية التوسيع وكيفيته سنظل نشتغل بالطريقة التقليدية في تعاملنا مع المناهج المختلفة التي عملنا على تأطير أعمالنا في نطاقها منذ بداية عصر النهضة إلى الآن. أي أننا نتبنى ما نسميه “مناهج”، ونحاول تطبيقها على نصوصنا العربية بدون بذل أي جهد في التفكير فيها، والعمل على تطويرها.
ولعل أول ملاحظة أطرحها تتصل بالسرديات في حد ذاتها في هذه الأعمال وغيرها. فهل تم الاشتغال أولا بالسرديات لدى هؤلاء الباحثين؟ ثم رأوا ضرورة تطويرها وتوسيعها بعد أن اتضح لهم أن المسار الذي قطعوه في الاشتغال بها وصل إلى الطريق المسدود؟ أم أنهم جاؤوا إليها من “مناهج” محددة، ورأوا ضرورة دمجها بالسرديات ساعين بذلك إلى تطوير المنهج الذي ارتضوه أولا من خلال اصطفائها، بعد أن ظهر لهم أن “المنهج ” الذي اشتغلوا به لم يؤد إلى أي نتيجة، من جهة، أو من جهة أخرى، بعد أن بدأوا يطلعون على الاجتهادات السردية ما بعد الكلاسيكية؟ وفي هذه الحالة الأخيرة يمكننا أن نستعيد الصورة التقليدية في تعاملنا مع المناهج الغربية، فحيثما ظهر “إبدال” جديد، وجدنا أنفسنا نسير في اتجاهه، ونؤطر أعمالنا تحت “يافطته”.
ما دفعني إلى تسجيل هذه الملاحظة، وما يتصل بها من أسئلة، وهي نفسها التي طرحتها، وأنا بصدد مناقشة الآراء المختلفة لدى المشتغلين بالسرديات ما بعد الكلاسيكية في أمريكا وألمانيا وغيرهما، مميزا بين من جاؤوا من السرديات، أو ذهبوا إليها، هو أن الباحثين الغربيين، وهم يؤسسون لسرديات ما بعد كلاسيكية، كانوا ينطلقون أولا من أن هناك “سرديات كلاسيكية”، وأنهم يعملون على تطويرها، وتوسيعها، بغض النظر عن تحديدهم للسرديات، وقد صارت مظلة كبيرة يتسع لها أي تحليل للسرد كيفما كانت خلفياته أو مقاصده. غير أن المشتغلين بـ “السرديات” عندنا، وقد صارت تلفظية، أو معرفية، أو غير طبيعية، أو ثقافية، أو غيرها مما يمكن أن يوجد مستقبلا، ينطلقون بدءا من أن هذه “السرديات” التي صارت كلاسيكية، كشفت عن محدودية أفقها البنيوي، وأنها سقطت في ميتافيزيقا النسق، تارة، أو أنها انغلقت على النص، ولم تفكر فيما هو خارج عنه، أو أنها أبانت عن عجزها في تحليل النص السردي، وأن العمل جار على “توسيع”ـها لتتصل بذاتية المتكلم، أو بالأبعاد الثقافية، أو بما معرفي، أو بما هو غير طبيعي في السرد، وما شاكل هذا من الأقاويل التي بدأت تتردد في لغتنا النقدية منذ أواسط التسعينيات عن البنيوية عموما، والسرديات خاصة، والتي تشترك في القول بنهايتها ولا جدواها في التعامل مع النص السردي العربي.
إن السرديات الكلاسيكية عند الباحثين الغربيين ما بعد الكلاسيكيين، وقد صارت تلك المظلة يدفع إلى مناقشتها من زاوية مدى علاقتها بالسرديات البنيوية الفرنسية، وحول كيفية تطويرها وتوسيعها. أي هل سيكون التطوير من الداخل، أو من الخارج؟ صحيح نجد بعضهم يراجع بعض مفاهيمها ومصطلحيتها مثل القصة والخطاب، والاختراق السردي، والتبئير، وما شابه ذلك. لكن ذلك لا يعفينا من طرح السؤال نفسه حول ملاءمة ذاك التوسيع أو هذا التطوير؟ أما بالنسبة للباحث العربي، فالسؤال الأساسي يتخذ بعدا آخر: كيف يمكننا أن نوسع أو نطور ما رأيناه منتهيا؟ إذا لم نكن نؤمن بأن تلك السرديات الكلاسيكية لها منجزات مذهلة في التحليل السردي لا يمكننا الذهاب إلى القول بأننا سنطورها، إذ لا يمكن تطوير ما ليس قابلا للتطوير. فمن يستبدل التبئير، مثلا، بـ”وجهة النظر” يختر مسارا مختلفا عن السرديات البنيوية، ويندرج عمله ضمن اللسانيات التلفظية وهي تشتغل بالسرد. وهذا هو النقاش الذي أقدمه بخصوص أعمال راباطيل، وسيلفي باطرون. لكن ميك بال حين طورت مفهوم التبئير عند جنيت كانت فعلا منخرطة في تطوير السرديات ما بعد الكلاسيكية. وإذ أقدم هذا المثال حول التبئير، وكيف يشتغل به المنطلق من اللسانيات التلفظية، والسرديات يمكن تعميمه على كل ادعاءات التطوير والتوسيع.
إن للسرديات تاريخها الخاص، مثلها مثل السيميائيات الحكائية باعتبارهما علمين مختلفين للسرد تشكلا في الحقبة البنيوية. لقد طُورت السرديات والسيميائيات من الداخل، في حقبة ما بعد البنيوية من لدن السرديين والسيميائيين أنفسهم، وأي توسيع للسرديات ليشمل أي تحليل سردي مهما كانت أصوله تحريف لها وليس تطويرا، ولا توسيعا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى