د.رؤى قداح :التحقق الشهرزادي لربيبة الحريم “فاطمة المرنيسي” قراءة في كتاب “شهرزاد ترحل إلى الغرب”
في كتابها “شهرزاد ترحل إلى الغرب” وضعتنا عالمة الأنثروبولوجيا ربيبة الحريم الفاسي “فاطمة المرنيسي” أمام نص مُشكِلٍ مزيجٍ من بوح اعترافيّ، ومقاطع شذريّة سيريّة، وعرض ثقافيّ لا يبرأ من التذويت الذي لا يتنبّه عليه غيرُ العارف، فضلاً عن اشتماله على مقارنات اجتزائيّة وانتقائيّة أفضت إلى تعميم محيّر، دفعنا إلى التساؤل عن الذات التي كانت تستبدّ بالرؤية والرؤيا والحكي في نصّها.
رحلت “المرنيسي” إلى أوروبا لتعرّف بكتابها “نساء على أجنحة الحلم”، لكنها في ارتحالها إلى الضفة الأخرى حيث يقبع الآخر المُشوِّه لصورتها الأنثويّة خلعت جلباب العالمة، وارتدت ثوبَ الريش، وفردت جناحيها في فضاء التجربة ملتزمةً نصائحَ جدتها “الياسمين”. وإذن؛ فليست العالمة هي الحاكية، وإنما الحاكيةُ هي الذات المركّبة من ثلاث ذوات؛ هنّ: “شهرزاد”، و”الياسمين”، و”فاطمة” الأنثى المثقلة بتاريخ القمع المديد، وأسيرة جغرافيا المكان الذكوريّ، والثائرة التي انتقت “شهرزادَ” لساناً ورمزاً أنثوياً ما فتئ يتجدّد ويحيا، واختارت الحريم قضية ذاتَ أبعاد أربعة مربكة: مكانيّ، وزمانيّ، وشرقيّ، وغربيّ. وهذا ما وضعنا أمام ثلاث رحلات متعالقة حكتها “المرنيسي” الأنثى المسكونة بالذوات الثلاث.
الرحلة القسريّة: شهرزاد القتيلة
“شهرزاد” التي كانت الرائدة النسويّة الأهم في كتاب “أحلام النساء الحريم” لأنها الأقرب إلى واقع النساء الحبيسات والأقدر على الفعل، طغت على كتاب “المرنيسي” المعنون بـ “شهرزاد ترحل إلى الغرب”، وتربّعت على غلافه عتبةً نصيّة تقبض على عقل المتلقي، وتوجّه قراءته إلى التسليم بأنه أمام نص أنثويّ يحفل بالتمرد الذي يكثفه العنوان المتشكّل من ثلاث مفردات ترمز إليه؛ وهي: “شهرزاد” الحاكيةُ الأولى في النثر العربي، ومروّضةُ الذكر بالكلمة، وفعلُ الرحيل الذي بشّرت، به ووهبته لبطلات حكاياتها، والغربُ= الفضاءُ المكانيّ المغاير لشرقها الأليف، وهو ما يحفّز على التساؤل عن ماهية ذاك الارتحال، وعن أثره في صورة “شهرزاد” ورمزيّتها وحكاياتها.
شغلت “شهرزاد”، ظاهريّاً، أربعة فصول من كتاب “المرنيسي”؛ هي: الثالث، والرابع، والخامس، والسادس. وكانت الغائبة الحاضرة الغالبة على سائر فصول الكتاب لتوحّدِ “المرنيسي” بها، وتمثّلها لثورتها الشرقيّة الفارقة، وتشبّعها بفكرها، مما دفعها إلى تغليب “شهرزاد” بوصفها جزءاً من مضمون كتابها، على كلّه، فاستأثرت وحدها بعنوانه.
فوجئت “المرنيسي” بالتمثيل الغربي لـ “شهرزاد”، حين رأت صورتها وقد تربّعت راضيةً على غلاف كتاب معنون بـ “المتعة في ألف ليلة وليلة”، كان صديقها “هانس” قد قدّمه لها، فوصفت الصورة قائلة: (على الغلاف ذي اللون الأزرق الصارخ، كانت هناك صورة امرأة ضخمة ذات وركين ممتلئين، كان شعرها الطويل كثعابين البحر يتدلى بين ثدييها المنتفخين جداً). وهذا التمثيل الغربي المستفز هو ما دفعها إلى التعريف بـ “شهرزاد” الشرقية وأسلحتها التي جرّدها الغربيون منها، وإلى التساؤل عن الأسلحة البديلة التي دعموها بها، فـ “شهرزاد” الشرق هي سيدة الكلمة، المثقفةُ التي نسجت حكاياتها من عوالم لا تعترف من الحدود والاختلافات الثقافية إلا بالاختلاف بين الذكورة والأنوثة، وقد بدأت هذا الاختلاف بحرب طاحنة تكشّفت عن عبقريّتها الأنثويّة التي حوّلت العنف الجسدي الذي مارسه الذكر العنيف إلى عنف سياسيّ، وشفتِ الزوجَ الصامت المريضَ بخواف الخيانة من خلال الحكي، مستخدمةً أدواتها المتمثّلة بالثقافة والتشويق وضبط الأعصاب، ولو أنها اتخذت الجسد وسيلة لترويض آخَرِها لقُتِلَت كالأخريات، لأنه لم يكن مهووساً بالجسد، وإنما فَزِعاً من الخيانة. أما “شهرزاد” الغرب فجارية تسترضي أسيادها الغربيّين الجدد المتسربلين بزي فحولة “شهريار”.
سيقت “شهرزاد” إلى الغرب، وقُسِرت على الارتحال واجتياز عتبة المكان الغربيّ العدو، واختراق الذهنيّة الثقافيّة الأوروبيّة الوسيطة التي قُمِعت فيها الأنثى، وحُبست ضمن نظام تراتبيّ. وبعد الارتحال القسريّ إلى الغرب قُتِلت “شهرزاد” أربع مرات؛ أولاها: حين أكرهها “أنطوان كالاند” مترجم حكاياتها على الحديث بالفرنسيّة عام 1704م، وغُيّب السمرُ عن لياليها، ووُئِد الهمسُ الشهرزاديّ الثائر، وأُحِلّت محله مشاهدُ الغرام، وهسيسُ الأجساد المحمومة برغائبها، لتجلو ليالي “شهرزاد” شرقاً جنسيّاً هشّاً مريضاً. وتفاقمت الفحولة الذكوريّة التي انشغل بها الأوربيّون، ونُحِّيَت “شهرزاد” الثائرة النسويّة المعارضة للاستبداد، وصارت سجينةَ “فرساي”، ورمزاً للغواية الشرقيّة والفتنة الشكليّة، وقلّدتها نساء القصر المهووسات بأزيائها وحليّها حتى عهد “ماري أنطوانيت”. وثانيتها: حين قُتِلت في الباليه الروسية التي قدّمها “دياخليف ونجنسكي”؛ إذ صارت راقصةً خرساء بلا عقل، ترمز للشبق، وتحتفي بالجسد كمصدر للذة الجنسيّة، وبالتخنّث الجنسيّ مُمَثّلاً بعبد أسود مرصّع بالجواهر، وهذا يعني، وفق “المرنيسي”، خيانةً لرسالتها؛ لأن الاحتفاء بالتخنّث يدعو للتركيز على المشترك بين الجنسين، ويغيّب الاختلاف الذي أسّست عليه “شهرزاد” مبدأ الحوار، وجعلته شرطاً له. وثالثتها: حين قتلها “إدجار ألن بو” في قصة (ألف ليلة وليلتين)؛ إذ استلّها من محيطها الزمانيّ لتحيا في القرن 19م، فاطّلعت على حضارة الغرب، وحدّثت “شهريار” عن تقدم الغرب التكنولوجيّ فاتهمها بالكذب الذي أصابه بالصداع، وقضى بشنقها فاستسلمت لحكمه، وقد أوجع استسلامها المرنيسي، فوصفته قائلة: (هزّني هذا الخضوع إلى حد اضطرب معه مقامي في باريس. لم أكن قادرة على منع نفسي من التماهي مع “شهرزاد” المهزومة هذه، من المؤكد أن المرأة الشرقيّة المعاصرة تشبهها، إنها لا تملك سلاحاً ضد العنف غير كلماتها وذكائها وقدرتها على نسج الحوار. بإمكان الرجل الشرقي أن يستسلم للقدر، ولكن ذلك يستحيل على المرأة. إن عليها أن تقاتل لكي تحوّل العالم، تلك هي رسالة “شهرزاد”، ذلك ما كانت جدتي “الياسمين” لا تتعب من ترداده على مسامعي، وقد ظلت كلماتها راسخة في ذهني). وأما المرة الرابعة التي قتلت فيها شهرزاد: فكانت مهينة جداً تطعن بثقافتها وإبداعها، وكانت حين قتلها الكاتب الفرنسي “تيوفيل كوتيي” لانقطاع إلهامها، ولأنها لم تكن تعرف ما يكفي.
لم تكتف “المرنيسي” بفضح قتل الغربيّين لـ “شهرزاد” وتشويهها، وإنما كشفت التغييب العربيّ لحكاياتها بدعوى هشاشتها على المستوى الأدبي؛ إذ لم تنشر إلا في القرن 19م، وفي الهند لا في بلاد العرب. ثم أوضحت أن علة التغييب هي قمعُ الصوت الأنثويّ المعبّر عن السلطة الشفويّة للحكي التي فاقت السلطة الذكوريّة الكتابيّة، وتهميشُ “شهرزاد” بوصفها رمزاً للثورة الجنسيّة والسياسيّة والمجتمعيّة، وهو ما فاق في عنفه وخطورته قتل الغربيّين لها، لكنّ “المرنيسي” عجزت عن وصف ما فعله العربُ بشهرزاد بالقتل.
علّلت “المرنيسي” قتل “ألن بو” لشهرزاد باختلاف الثقافتين العربيّة والغربيّة، وموقفهما من الذكاء الذي هو قاسم مشترك بين الرجل والمرأة في ثقافتنا، في حين أنه حكرٌ على الرجال في الثقافة الغربيّة، وعلى المرأة لديهم (أن تتنازل عن ذكائها وتحجب عقلها إذا شاءت إغراء الرجل في رأي “كانط”)، وأردفت أنه كان بإمكان “ألن بو” أن يجعل “شهرزاد” بطلة قوميّة تساعد زوجها من خلال اطلاعها على معارف الغرب، وتجنّب بلادها الاستعمار، ولكن هذا الاختيار كان سيعيد “شهريار” رجلَ استراتيجية، وهو ما لم يرده “ألن بو”، وآثر جعل “شهرزاد” خائنةً مهزومة، وقتلها لأنها امتلكت عقلاً متطوراً، وعرفت أكثر مما ينبغي.
لكنّ قتلَ الغربيّين لشهرزاد لا يقتصر على ما ذكرته “المرنيسي” صراحة من أسباب، وإنما يتجاوزه إلى ما ألمحت إليه دون التصريح به؛ وهو أن قتلها يمثل وفاءَ الغرب الحديث لرؤية أوروبا الاستشراق لشرقها المتخيَّل، وهي رؤية مؤسَّسة على خطاب سابق على الاتصال، تحكمه مقولات وصفيّة قَبْليّة، يتم من خلالها فهم الآخر دائماً عبر بلاغة الآخريّة التي تنتمي مقولاتها وغاياتها إلى المُلاحِظ بعينه، وتلك البلاغة تهدّد من تختاره موضوعاً لخطابها؛ إذ تختزله في صور نمطيّة تخطيطيّة تصنيفيّة تبسيطيّة ساذجة، تعكس نمطاً لاعقلانيّاً من التفكير. وهو ما يتجلى واضحاً في صورة الشرق المتخيّل الراسخة في المخيال الغربيّ حتى العصر الحديث، وقد شُكّلت تلك الصورة من سمات أسطرت الشرق المتخيَّلَ، وعمّقت لامعرفة الغرب به؛ وهي: الاختزال، والجنسنة، والزمن المفوّت. أما الاختزال فأداته التشييء والتصنيف، وأبرز الصفات السوسيولوجيّة التي ألصقت بالشرق هي: الاستبداد القَبَليّ، والثقافة الممانعة للعقلانيّة، والنظام السياسيّ القائم على استلاب الحريّة. وأما الجنسنة فتنظّم علاقة الغرب بالشرق وفق ثنائية الذكورة والأنوثة ضمن صور جنسانيّة للشرق تقوم على شقّين؛ أولهما: أنثويّ خامل واهن رخو ساكن صامت مستسلم لغربه، وثانيهما ذكوريّ متوحش شهوانيّ عنيف شاذ. وعملية الجنسنة تلك تقدم معرفة مضلّلة تفتن أكثر مما تُعلم. وفي التفويت يفارق طرفا العلاقة الزمنَ الحاضر ليعيش الغرب الغالب في الزمن المستقبل الذي يحلم فيه بتبديد عدوه، ويتقهقر الشرق إلى منفاه، ويغرق في بطولاته الماضويّة. وعليه؛ فإن ترحيل “شهرزاد” إلى الغرب لم يكن تمجيداً لثورتها النسويّة، وإنما قَلباً متعمَّداً لرمزيّتها، وإخضاعاً لتمرّدها بغية ترسيخ صورة الشرق المتخيَّل؛ الشرقِ المؤنثِ الرخو المستسلم الضعيف المتهالكِ لذةً، فإذا برز شقه الذكوري بدا وحشيّاً مهدداً لأنثاه، عنيفاً عاطفياً، يغلب شغفهُ وهواهُ عقلَه، منقاداً لنزواته وعواطفه، صريعَ جسده الجامح كحيوان متوحش، يقبع على سريره العالي مزيناً بلباسه الشرقيّ المزركش وسلاحه المشحوذ لقتل حظاياه وقت يشاء، إنه السلطان المخدّر بالكسل والرغبة والعنف والحشيش.
وكي تتسق “شهرزاد” مع شرق الغربيّين المُتخيَّل قاموا بتجريدها من هويتها وسلاحيها: العقل والكلمة، وتعطيل رسالتها السياسية التي أثبتت إخفاقَ الاستبداد الذكوريّ في السيطرة على الأنثى، وقدّمت الحوارَ سبيلاً وحيداً للتواصل، وأخضعوها للتمثيل الغربيّ الذي همّش ثورتها، وألغى انتصاراتها المتمثّلة بتغيير السيد العنيف، وقاموا أيضاً بمحو تاريخها، وتحويلها إلى شخصيّةٍ منهزمةٍ خاضعةٍ لحكم السيد، مازوخيّةٍ تستمتع بالموت على يده، جاريةٍ ثرثارةِ هوًى، وأسيرةِ رغبةٍ، تهجس بالجسد، وتنهمّ به حتى انتفخ رضاً واستعذاباً للاستعباد، فإذا فَعَّلَت عقلَها كانت امتداداً سلبيّاً لـ “حوّاء”، تقدّم في لياليها حكمةَ الشرق الوحيدة؛ وهي حكمة الجنس. وحضورُ “شهرزاد” الرامزةِ إلى الشرق المُتخيّلِ المؤنث الرخو الليليّ العاري المستكين، يقتضي حضورَ “شهريار” الذكر المتخيَّل العاطفي الانفعالي اللاعقلاني الرافض للمعرفة والتطور والتغيير؛ فـ “شهريارُ” الشرقيّ الذي لم يكذّب “شهرزاد” وهي تروي له حكايات عجائبيّة عن الجان والمخلوقات الخرافيّة انقلب في التمثيل الأوروبيّ إلى قاتلٍ يصدّعُهُ صوتُ المعرفة فيقررُ إخراسَه، ليبقى جاهلاً خاملاً متخلّفاً رافضاً للعلم وفيّاً للتصوّر الغربي الذي يبيحُ استعمارَه. وهذا التمثيلُ يضع “شهريار” حدّاً في ثنائيّة الغرب والشرق ذات المقام الراسخ في الخطاب الاستشراقيّ؛ فـ “شهريار” الذي قتلَ “شهرزاد” التي عرفت أكثر مما ينبغي هو الذكورةُ الشرقيّة المتوحشة اللاعقلانية الجاهلة الخاملة المكمّلة للنظام الأنثويّ الليليّ الهشّ الذي تمثّلهُ “شهرزادُ”، مقابلَ الغرب العقلانيّ المنطقيّ المتقدّم الساعي للتغيير، والرّامز للنظام النهاريّ المالك للسلطة والقدرة على الاختراق والهيمنة. وعبر حوار “المرنيسي” مع صديقها “هانس” حول الأثر المأساويّ لغيرة النساء التي تفتك بالسيد في الحريم، يُقْحَم السلطانُ الشرقي – متضمناً “شهريار” – في مفاضلة ثقافيّة مع الذكر الغربيّ، ينتصرُ فيها الغربيّ على غريمه؛ لأن الغربيّ لا يخشى كيد النساء كالشرقيّ، ويرى في غيرتهنّ ومعاركهنّ فرصةً للفوز بمتعة متضاعفة تفاقم إحساسَه بفحولته الغربيّة.
الرحلة الحلم: الياسمين السجينة
تمثّل “الياسمين” صلة الوصل بين حفيدتها “فاطمة” و”شهرزاد”، وتشكل امتداداً جنسيّاً وفكريّاً لشهرزاد؛ إذ اتخذتها أيقونة للخلاص والتمرد، ومثالاً للسلطة الحكائيّة الأنثويّة الشفويّة، وقد تجلى ذاك الامتداد في مظهرين؛ الأول: امتلاكُ الجدة لسلطة الحكي الأنثويّ الشهرزاديّ القادر على التأثير والتحريف، وقد أشار “كمال” صديق “فاطمة” إلى سلطة جدتها والجدات والأمهات جميعاً من خلال الحكي الذي لا يخضع لقانون الرقابة الذي تخضع له الكتابة الذكوريّة، وهذا ما مكّن جدة المرنيسي من تحريف قصة (المرأة التي تلبس ثوب الريش)؛ إذ أعطتها هذا العنوانَ الأنثويّ بدلاً من عنوانها الرسميّ الذكوريّ، وهو (قصة الحسن البصري)، ليكون العنوان إشارةً خطيرة إلى السلطة الأنثويّة، ثم حرّفت نهاية القصة بأن جعلت الحسن يعجز عن العثور على زوجته التي طارت إلى بلادها، لتكشف بذلك رعب الشخصية الذكوريّة الشرقيّة من هجر الأنثى لها. أما المظهر الثاني: فهو هاجس الجدة بالخلاص والتمرد على أسوار الحريم، تماماً كشهرزاد.
نشأت الجدة أميّةً حبيسةَ الحريم في مدينة فاس التراثيّة، وبقيت مسكونة بهاجس الارتحال، وحين أعجزها تحقيقُه غرست بذرته في رأس حفيدتها الصغيرة “فاطمة”، وقد شكّلت نصائحها فلسفةَ ارتحالٍ متكاملة الأركان تفوّقت فيها الجدة الأميّةُ التي لم تختبر تجربة الارتحال على سائر الرحالة الذكور، متجاوزةً شرطَها الزمكانيّ وتجربتَها المحدودة بجسدٍ حبيس المكان، لتُعلّمَ حفيدتها أن غاية الارتحال ليست تحرير الجسد، وحسب، وليست لهواً للترويح عن النفس الحبيسة؛ وإنما غايتُه التعلمُ، وترويض النفس، واكتساب الحكمة والنفوذ، وفهم الآخر، وذاك الفهم لا يكون إلا بأمرين؛ أولهما: احترام الاختلاف الذي عدّته الجدة سبيلاً للكشف المعرفيّ، قائلة: (إنّ أثمن متاع يملكه الأجنبي هو اختلافه، وإذا ما ركزت على اللامتشابه والمختلف بإمكانك أن تتلقي اللوامع)، وثانيهما: امتصاصُ صدمة المغايرة الثقافيّة، وتحويلها إلى إحساس إيجابيّ غايته العلم. وقد جعلت الجدة فهم الآخر سبيلاً لمعرفة الذات، قائلة: (عليك أن تركزي انتباهك على الأجنبي العابر وتحاولي فهمه، كلما فهمت أجنبياً عرفت ذاتك أكثر)، وهو ما يعني تحريرَ علاقة حفيدتها بالآخَر من أيّة أحكام قَبْليّة استعلائيّة أو إقصائيّة، ومن أسر الرؤية الغرائبيّة أو الإغرابيّة التي هيمنت على معظم نتاج الرحالة الذين تعاملوا مع الآخَر بعَدِّهِ موضوعاً للوصف. ويعني أيضاً بناء تلك العلاقة بين ذاتين على أساس ندّيّ حرّ من الإحساس بالدونيّة تجاه الآخَر، ومن الخوف من قيامه بابتلاع الذات ثقافيّاً. واعتماداً على تجربتها الذاتيّة ومعرفتها الصوفيّة أدركت الجدة أنّ تجربة الارتحال الأنثويّ محكومة بالخوف الحتميّ من المكان الغريب ومن الآخر؛ ولذا أسست وعي حفيدتها بخصوصيّة هذا الارتحال المبنيّة على أربعة مبادئ؛ أولها: أن ارتحال الأنثى فعل حتميّ، وليس اختياراً؛ لأن عليها تحريك جناحيها كيلا يتمرّدا عليها، ويسببا لها ألم الخنوع لقيد المكان. وثانيها: أن الخوف شعور لازمٌ ينبغي الانتصار عليه. وثالثها: أن انتصار الأنثى في تجربة الارتحال يتحقق بالحفاظ على الهوية من خلال الإبقاء على التقاليد حيّة في أعماقها، وبالطيران المهتدي بثورة المرأة التي تلبس كسوة الريش. ورابعها: أن حتميّة تجربة الارتحال في حياة المرأة هي التي تضبط علاقة الأنوثة بالذكورة؛ لأن استعداد المرأة الدائم للارتحال بعيداً عن الرجل، يحرّرها من قيده، وإن كان حباً، ويهبها سلطةً أنثويّة يفاقمُها خوفُ الذكور من الهجر، وهو ليس خوفاً عاطفياً، وإنما هو تجلٍّ لجزع الذكورة من فَقْد بعض رساميلها التاريخيّة، ومن حيازة المرأة لحق امتلاك الجسد، وتحرير حركته، وهو المملوك الأثير للسلطة الذكوريّة عبر تاريخها المديد. وهكذا تواجه السلطة الأنثويّة هيمنة السلطة الذكوريّة بأدواتها نفسها؛ وهي القدرة على التجاوز والتغيير والاستغناء، فضلاً عن أن الارتحال سبيلٌ لتخليص الأنثى من آلامها؛ لأنه يفتح لها آفاق الحل لأزماتها التي قد يفاقمها المكان، ولذا عمدت العاشقات في التاريخ والقصص إلى الارتحال دائما.
وهذه الفلسفة التي صاغتها “الياسمين” لحفيدتها جعلتها الهادية والعرّابة التي ما انفكت تتوحّد بها، وتستهدي بنصائحها كلما أرهقتها المسافات، وتحملها معها في حلّها وارتحالها، وهي تتقصّى فرحَها العارم بحفيدتها التي حقّقت حلم الترحال، وعلى شاطئ الأطلسي وصفت انتصارها نتيجة التزامها فلسفةَ “الياسمين”، قائلة: (إنني أمام المحيط أدخل في علاقة مع الكون، أحسّ بأن قوتي تضاهي قوة “المرأة التي تلبس كسوة الريش” التي حكت عنها شهرزاد. لقد رأت النساء أجنحتهنّ تنمو حين استفدن من التعليم، ثم من النظّام والانترنيت).
كان ارتحال “المرنيسي” تحقيقاً لحلم الجدة؛ ولا شك في أن “الياسمين” الحاكية قد صاغت من خلال لسان حفيدتها قسماً كبيراً من النص، لكنّها آثرت أن تتوارى غبطةً خلف ظلال الكلمات. وقد تعاظمت “الياسمين” جداً في رأس حفيدتها لتصير ندّاً لـ “كانط” في رأيه حول المرأة حين أرادها جميلةً صامتةً لا تستعرض معارفها كيلا تفقد غوايتها؛ فأمام “كانط” انتصبت “الياسمين” مردّدةً (وهي تلمس شعرها المعصوب بإصبعها: إنّ جمالك يكمن هنا).
رحلة حفيدة الجدّتين: فاطمة ذات السوار
لم تنجُ “المرنيسي” من قلق الارتحال الذي اختبره الرحالة عبر العصور، وقد عبّرت عنه بشفافية بدءاً برحلتها الأولى من فاس التراثية إلى الرباط للدراسة في جامعة محمد الخامس مجتازة أول الحدود وأخطرها، وانتهاءً برحلتها الأخيرة في الكتاب إلى الولايات المتحدة. وعلّة قلقها خشيتُها من أن تضيّع الهدف الذي رسمته لها “الياسمين”، وهو فهم الآخر؛ ولذا وضعت لنفسها ضوابط للمعرفة، هي عدم الانزلاق إلى هاوية الأحكام المسبقة التي ترسّخ الجهل وتحجب المعرفة، واحترامُ اختلاف الأجنبي والإنصاتُ إليه وإن كان في الواقع يمارس عنفاً عليها، وتخيّله مخلوقاً هشاً مثقلاً بأحلامه وتناقضاته وسعادته العصيّة. وتثبت هذه الضوابط التزامَها نهجَ الصوفيّين الذي لقنتها إياه “الياسمين”، لا الضوابطَ العلميّةَ في معرفة الآخر وفق علم الأنثروبولوجيّا الذي يقتضي الموضوعيّةَ، وإقصاءَ الذاتيّة، واستقصاءَ التفصيلات، وتجنّبَ الانتقائيّة والتعميم. وهكذا غرقت في التذويت حتى في مقارناتها الانتقائيّة، وسعت إلى معرفة الآخر الغربيّ من خلال زاوية رؤية ضيّقة؛ هي الحريم الذي شكّل هاجسَ “الياسمين” الفعليّ، وأرّق حفيدتَها، ومن خلال تلك المعرفة أرادت فهم الغربيّ، وفهم رفيقها الذكر الهشّ “كمال” الذي كان يخشى بعدها، ويحنّ إلى بغداد التي كانت تُسجن فيها النساء خشية الهجر.
حين رحلت الشابة إلى الرباط أرعبتها المدينة المفتوحة على الأطلسي فلاذت بحماية صديقها “كمال” ابن فاس التراثيّة، حيث ذاك الحريم، وحين أقلقتها ابتسامات الصحفيّين الأوربيّين الذين عرفوا أنها نشأت في حريم اختبأت معترفةً بهشاشتها خلف سوارها الفضيّ الأمازيغيّ الثقيل. لقد لاذتِ العالمة برمز قيدها وتراثها وقوميّتها في مواجهة الآخر المجهول، ثم بدأت رحلة البحث بضوابط تبشّر بميل إلى الموضوعيّة لتثبت لاحقاً اطمئنانها لبضاعتها القوميّة التي تفوّقت على الغرب، إلا في مواضع قليلة من الكتاب. وكي تعرف آخرَها فضحت، أولاً، رؤيتَه للحريم الشرقيّ، وكشفت الصورة الواقعيّة للحريم الشرقيّ، ثم بنت صورة الحريم الغربيّ.
عرفت “المرنيسي” التصورَ الغربيّ للحريم الشرقيّ من خلال أربع شخصيات ذكوريّة؛ هي: الصحفيان الفرنسيان المعاصران لها: “هانس” و”جاك”، والفنان الاستشراقي “أنجر”، والفنان الفرنسي “ماتيس” الذي عاش في بداية القرن 20م. عرّفها “هانس” على الحريم من خلال مؤلفات عن مؤسسة الحريم التركي، وكتاب عن المتعة في ألف ليلة وليلة، وقد أغضبتها صورة “شهرزاد” الممتلئة المطمئنة وكأنها راضية بالاستعباد. وعرّفها “جاك” على حريمه الشرقيّ ممثلاً بلوحات “أنجر” و”ماتيس” التي تصور الجواري العاريات الكسولات الصامتات، وقد أثار حنقها قيام “أنجر” المعاصر للثورة الفرنسيّة بتمجيد جمال الوصيفة الحبيسة، وقيامُ “ماتيس” ربيبُ الجمهوريّة الفرنسيّة برسم لوحات للجواري العاريات في مرحلةٍ شهدت ثورة “أتاتورك” التي حررت المرأة، وبلغت آثارها المغرب. لتخرجَ “المرنيسي” بنتيجة فارقة؛ وهي أن الحريم الشرقيَّ زمنيٌّ في فكر الغربيّين، يوظّف سلطة الصورة لتجميد التاريخ، فتصبح أعمق أثراً وفاعلية من تغييرات الواقع الشرقي.
تقدم الانتقائيّة التي بنت عليها “المرنيسي” التصوّرَ الغربيَّ للحريم الشرقيّ الحجةَ لتفنيدها؛ فـ “هانس” و”جاك” ليسا كل الغربيّين، و”أنجر” ليس ممثلاً لكل الفن الاستشراقيّ الذي وثّق صوراً أخرى واقعيّة للشرق؛ فالحريم الذي صوره “أنجر” هو الحريم التركي الذي مثّل الوجهَ الأنثويّ العاري للعدو السياسي المُهدّد لشرق أوروبا، وقد تسلل إليه بعض الغربيّين، كما ذكرت “لين ثورنتون”، تحت صفة دبلوماسيّة، ونقلوا صوراً قلّدها الغربيّون طويلاً. ومن هنا، لا يمكننا القول: إنّ على ربيب الثورة غض البصر عن أنثى عدوّه، بل إن العداوة تقتضي الجريَ في التعرية إلى أقصاها، وكذا الحال في تصوّرٍ أقل عنفاً في لوحات “ماتيس”.
وفي مقابل هذا التصور الغربيّ الخياليّ للحريم قدّمت “المرنيسي” صورة الحريم الذي يحيل على الواقع والتاريخ، بوصفه مكاناً مُسوّراً تُحشَر فيه النساء المثقلات بثيابهن وحرمانهن وغيرتهنّ على السيد من القرينات الشريكات فيه، وهي غيرة قد تؤدي إلى قتل السيد، أو قتل الأخرى المنافسة. وكي تجلو الصورة أكثر انتقت “هارون الرشيد” العاشق للجواري الشاعرات الفنانات، لا الغبيّات الصامتات، فتغنّت به، وبتوسّطه الذي يهب كل جانب من متعة أو عبادة أو عشق أو جهاد حقَّه. فهلّا سألت “المرنيسي” عنه جدتَها “شهرزادَ” التي صوّرته مخالفاً للصورة الرسمية التي قدمتها هي له؟ وأيُّ فضلٍ لعلم الجارية أو فنها غير أنهما يرسّخان عبوديّتها في قصر “هارون”، ويرفعان سعرها؛ فهما في الواقع أداة لاسترضاء السيد كما الجسد في لوحات “أنجر”، وليس للجارية المغنية والشاعرة والمتعلمة أن تقول: “لا” لسيد تشهّاها. وكي تثبت “المرنيسي” حضور الشخصيات الأنثويّة الإسلاميّة الحرة عادت إلى الفنّين الفارسيّ والمغوليّ، واستحضرت شخصيّتين بطوليّتين، هما: “شيرين” التي برزت في المنمنمات الفارسيّة، و”نورجهان” السلطانة المغوليّة التي تحكّمت بالفن، وظهرت في إحدى اللوحات وهي تحمل بندقية. وقدّمت المثالين دليلاً على الحرية الثقافيّة في الإسلام الذي اقتصرت سلطته على الفن التجريديّ في دور العبادة، ودليلاً أيضاً على أن العرب وحدهم كانوا يسجنون نساءَهم كيلا يذكرهنّ التاريخ كـ “حاكمة تطوان”، مع اعترافها بأن ذاك القمع حدث في مرحلة تاريخيّة متأخرة. لكنّها جانبت الصواب في تعليلها للحضور الأنثويّ في المثالين المختارين، فسببه تغلّبُ الثقافةِ القوميّة والإثنيّة على العامل الدينيّ الإسلاميّ الذي لم يقوَ على تغييب ثقافة الأقوام التي اعتنقته؛ وخيرُ دليل على ذلك خروجُ السلطانة “نورجهان” على تحريم الإسلام لتجسيد الإله، حين دعت زوجها المسلم للظهور للعامة وفق التجلي الإلهي الهندوسي “الدراشانا”.
وفي محاولة لتعرّف الآخر وفق الآليّة الانتقائيّة ذاتها، وللدفاع عن الذات شكّلت “المرنيسي” صورة الحريم الغربيّ ببعديه التاريخيّ والمعاصر؛ ويتمثل التاريخيّ بتمجيد “كانط” لجمال المرأة وصمتها، وبجعله الذكاء والعلم امتيازاً ذكوريّاً، وسخريته من المتعلمات اللواتي ينبغي أن تظهر لهن لحية، وسخرية موليير القاسية من المثقفات. ويتمثل البعد المعاصر بحديث “كريستيان” صديقة “المرنيسي” عن الحريم الفرنسيّ المعاصر في المؤسسات التي تخضع فيها الموظفات لتقييم رب العمل الذكر، ويتمثل أيضاً بالعنف الرمزيّ الذي يمارسه الذكر الغربيّ في أمريكا حين يجعل المرأة حبيسة مقاييس جمال قسريّة مُحدّدة بمقاس 38. وهذا الحريم في رأي “المرنيسي” أعنف من الحريم الشرقيّ؛ لأنه يُفقد الأنثى ثقتَها بنفسها، وقدرتَها على المعارضة. ويبقى السؤال: هل تمثلُ رؤية “كانط” موقف الفلسفة الأوروبيّة كلها من ثقافة المرأة؟ وهل تلتزم كل الغربيّات مقاس 38؟
لا بأس، فرحّالتنا المرهقة تنتشي بانتصارها، وانتصار حريم الشرق المكانيّ على حريم الغرب الزمنيّ، وتتنفس الصعداء في الطائرة، وتحمد الله لأنه نجّاها من مقاس 38.
صفقت “شهرزاد” فقد حازت نصيرة، وتبسمت “الياسمين” فقد حازت بعد موتها جناحين، ولمع سوار “فاطمة” الأمازيغي الثقيل… ولكن، هل عرفت “فاطمة” حقاً غربها؟؟؟
_____________
مقال منشور في مجلة الموقف الادبي . تموز 2022
__________ د . رؤى قداح