وجهة نظر

بورتري (2) الحزب الاشتراكي الموحد بين ما فهمه وما لم يفهمه بعد     

في قلب الأوضاع 43 أحمد الخمسي

حكى لي صديق عن العيش بضعة أيام مع محمد بنسعيد آيت يدر في الخارج. عن تلك الفترة، صادفت (عند الصديق المعني بالحديث ها هنا) صورة مع وزير خارجية الاتحاد الأوربي الحالي: جوزيب بوريل، حتى يتأمل القارئ في المستوى الذي نحن بصدد الحديث عنه. في الصورة، جلوسا، وزير الخارجية الأوربي الحالي يضع يده على خده منصتا والصديق المتحدث عنه يوجه له الكلام بنظرة حادة، وحركة يده تكمل معنى الكلام. كان بوريل مسؤولا في الحزب الاشتراكي العمالي الاسباني، وكان الصديق المسؤول الأول عن جمعية مغربية للمرافعة عن المهاجرين المغاربة. يحكي الصديق أنه بعد عودته الى المنزل، وجد الأستاذ عبد السلام الغازي: أين السي محمد بنسعيد؟ ردّ السي عبد السلام الغازي: إنه في المطبخ. دخل الصديق إلى المطبخ، فوجد السي محمد بنسعيد يهيئ يطبخ أكلة الغذاء. أسرّ اليّ الصديق أنه وهو يجد قائدا سياسيّاً يدبر أمر الأكل بنفسه للجميع كما لو كان قائد المقاومة الفيتنامية هو شي منه.

المناسبة الثانية عندما طالعت حديث السي محمد بنسعيد مع الجزيرة في برنامج “شاهد على العصر”، على عادة بعض المصريين الذين ترافقهم عجرفتهم في كل القضايا، كان يسائل بنسعيد، وفق خلاصاته الجاهزة (كون النظام المغربي نظاما رجعيا) بناء على المراجع المتداولة، فلا ينجرّ السي محمد بنسعيد لما يريده الصحافي المخونج أن يقوله له. بل يصرّ – من زاوية الوقائع- على تأكيد ما يعلم حتى لو كانت الوقائع معاكسة للخلاصات المتداولة. يستخلص القارئ بالملموس من حديث بنسعيد مسلسل الأخطاء الثلاثة التي تحدث عنها فيما بعد الشهيد بنبركة في مسيرة الحركة الوطنية وجيش التحرير والمقاومة. ويصر على موقف جيش التحرير الذي لم يكن له مشكل مع محمد الخامس، بل كان السلطان الراحل محل إجماع المغاربة.

يقتضي الحديث عن محمد بنسعيد، في منزل الصديق ومن خلال الحديث مع قناة الجزيرة، الإمساك بخيط الصدق والتواضع والوفاء للحقائق كما جرت في الواقع لا كما أراد لها المتصارعون أن تظهر.

في كتابها عن “الأحزاب السياسية والاحتجاجات: 1934- 2020″، في سياق الكلام، وضعت الأستاذة مونيا الشرايبي بناني ذات فقرة اسم محمد الخامس واسم محمد بنسعيد في نفس البين قوسين. وفي مقال يتحدث فيه طه حسين، وضع التشبيه بين محمد الخامس و هوشي منه القائد الفيتنامي.

الخلاصة الأولى، يهدف هذا المقال استكمال الصورة عن ملامح القادة اليساريين المغاربة، الذين طبعوا مراحل من التاريخ المعاصر للمغرب، رفقة رموز الدولة التاريخيين من عيار محمد الخامس. لرسم خطوط التجربة التاريخية المغربية التي لا تشبه البلدان الأخرى. وقد كتب أحد الفرنسيين مقالا عن تميز المغرب بين مستعمرات فرنسا في افريقيا بكاملها، مثل تميز الكامبودج الملكية عن مستعمرات فرنسا في الهند الصينية. هناك وهنا تكامل تاريخي بين الشعب والدولة يميزه انسجام البناء الصلب الذي يقاوم تقلبات الظرفيات والسياقات والمراحل. فالزاويتين الناصرية (تامغروت قرب زاكورة) والوزانية (شمال المغرب) عمل استراتيجي كان الهدف ترسيخ مبدأ ما لا يؤخذ بالسلطان يؤخذ بالقرآن، جدل السيادة بالقوتين الناعمة والصادمة لتوحيد الأمم والأوطان.

كان ترسيخ “الوعي الديمقراطي بدل الوعي المتأخر”، يمر كما هي النظرية عند كل من عبد الله العروي (التاريخانية) وياسين الحافظ (الوعي التاريخي المقارن). وهو مستوى انتروبولوجي مركب، صيغة ممتدة في الزمن الطويل، لصيغة “التحليل الملموس للواقع الملموس” التي شكلت المنهج اليساري لمعرفة الواقع (التاريخي ها هنا) قصد ضبط التموقع للتمكن من بعد من توقع ما يمكن البناء عليه كأرضية صلبة تقتضي فرز ما انتهت صلاحيته، وما أخذ يبرز كضرورة حيوية لضمان استمرارية الشعب والدولة والتراب الوطني. الأفكار الجاهزة المستوردة من تجارب الآخرين غير كافية للفعل المؤثر طريقا للتغيير. واحترام الحقائق الثابتة والانطلاق منها، جزء من مقومات القدرة على التغيير.

هذه الحقائق يمكن اعتبار فهمها التلقائي هو ما يترك للحزب الاشتراكي الموحد مكانته الراسخة في الحياة السياسية المغربية.

***

لأخذ بورتري متكامل للحزب الاشتراكي الموحد، يقتضي رسم الملامح التي شكلت فيسفساء هذا الجزء الراسخ من مسلسل بناء اليسار في المغرب. في المقال السابق، ذكرت المولد الاستقلالي لمحمد بنسعيد ونشأته الاتحادية ومصيره اليساري. وأستكمل مواصفاته كنموذج للمغاربة المنتمين بجذارة لعصرهم، حيث الإخلاص للمقاومة الشعبية لكل أشكال الظلم. والنضال بكل الأشكال لترسيخ العدالة. سواء من زاوية العمل لدمقرطة الدولة أو من زاوية العمل لدمقرطة المجتمع. والنضال لفائدة القضية العادلة (حاجة المغاربة اليوم لملكية برلمانية)، معادلة مركبة (hyper équation)، وكما كان نضال الشعوب من أجل استحقاق الانتماء للعصر أن يطابق معادلة بسيطة (équation).

هذا الخلط بين المركب والبسيط، هو الذي أعطى المجال للمؤسسة الملكية كي تستمر الفاعل السياسي الرئيسي(principal) في الحياة السياسية المغربية، وليست فقط الفاعل السياسي الأساسي (fondamental). فالليبراليون يخلطون حصتهم في الحياة السياسية بدور رئيسي وآخر متوهم أساسي، والأصوليون لهم نفس الخلط، واليساريون يكرسون نفس العمى. الفهم الأساسي المتنظر من كل قطب طبقي ايديولوجي هو هذا التمييز في البنية السياسية المتوارثة عبر قرون. ولأن المؤسسة الملكية تجد نفسها محل أوهام الأقطاب الثلاثة، فقد اكتسبت مهارة التكيف مع كل قطب صار رهانا للقوى العالمية كي تستند إلى أفكاره وطاقته الدافعة في كل مرحلة، ما زالت في حاجة إلى الهيمنة المزدوجة: الأساسية الأصلية في وظيفتها، والرئيسية الوظيفية في كل مرحلة. لذلك يظهر دورها هيمنيا تنفيذيا وموجها في نفس الآن. والتوقف عند الخلط ولملمته ضمن ضبابية الرؤية، هو الذي ما يجنح بنا نحو الانزلاق نحو الشوفينية بما يعبّر عنه ب”تمغربيت” التي ينتقل بها البعض من دور التوابل والتميلحات الى معنى الجوهر والثبات بالمعنى الذاتي المثالي.

ولكي نفهم الدور الأساسي للمؤسسة الملكية – بفكر سياسي عقلاني حديث – علينا أن نفهم أن الدولة كل دولة، لها مؤسسة ناظمة، توزع المهام بين المؤسسات الصلبة الأخرى للدولة: الجيش والشرطة والقضاء والبيروقراطية الإدارية المركزية والخلطة الثقافية التي تمثل “الروح”. هذه المؤسسات في كل بلدان العالم لا تمارس السياسة الاقتصادية الاجتماعية وفي نفس الوقت لا تسمح بممارسة سياسة اقتصادية اجتماعية تجعل البلد ينزلق نحو أخطار تفككه واندثاره كمكون من مكونات الجغرافيا السياسية في العالم.

حالة الانقلابات العسكرية في افريقيا وفي كل الكيانات الهشة التي تمكن الاستعمار من تشويه كياناتها التاريخية، علامة على مقاومة روح الشعب ضد الانزلاق نحو الحرب الاهلية المهددة للوجود السياسي أصلا. فمع مرض الحركات الارهابية، ومع مراهنات القوى الاستعمارية على ترك هامش للارهاب كي تستمر ذرائع وجودها العسكري الاستعماري، حسم أمر الافارقة حاليا لاستبدال الحضور الفرنسي غير الفعال في القضاء على الارهاب في بلدان الساحل. تبرؤ السياسة المغربية من السياسة الفرنسية وقد أصبح المغرب شريكا للأفارقة، يعيد إلى الذهن النموذج الذي مثله محمد الخامس لمقاومة فرنسا والذي خلق مدرسة في افريقيا الغربية اتبعها الرئيس الغيني المؤسس: سيكوتوري في ثورته الشهيرة ضد فرنسا بداية ستينات القرن الماضي، إسوة بمحمد الخامس. وقد استوعبت النخبة السياسية  السينيغالية هذا الدرس بموقف وسط، فأنتجت مؤسسات سياسية مستقرة بعيدة عن الانقلابات العسكرية. لذلك، يشعر الشعبان المغربي والسينيغالي اليوم وكأنهما أقرب إلى بعضهما، من جوارهما المباشر.

ولنعد إلى بنية الدولة في المربع الأول، الذين لا يطبقون الوعي التاريخي والتحليل الانتروبولوجي لا يفهمون لماذا ينحدر ياسين المنصوري من ابي الجعد والحموشي من تازة؟ ولماذا ينتمي أكبر أغنياء المغرب الى فاس وسوس؟ ولماذا ينحدر الساسة الكبار من العواصم التاريخية للأربعة (بنبركة رباطي، بوعبيد سلاوي، المحجوب بن الصديق وعبد اللطيف المنوني مكناسيين، علال الفاسي فاسي، بوستة مراكشي)، بل ولماذا لم ينزلق عبد الكريم الخطابي لحمل المواطنة الفرنسية مثل ما فعل الامير عبد القادر الجزائري؟ ولماذا يحمل منتخب كرة القدم الموريطاني لقب المرابطون؟

إذا تمكن الأقطاب الثلاثة من فهم عميق لأدوار الاحزاب السياسية، دون عقدة من مكانة المؤسسة الملكية، على مدى الخمسين سنة المقبلة، وضمن إعادة تشكيل النظام العالمي المتعدد الأقطاب، سيستعيد المغرب مكانته الدولية من خلال إحياء امتداده الطبيعي (الاقتصادي الاجتماعي) إلى الساحل الافريقي، في بنية راسخة تحيي جذور التاريخ، وتقتسم النفع الحضاري الحديث (تكنولوجيا وثروة ورفاه)، شرط تقوية شروط الجاذبية. وهي الوحدة الوطنية الراسخة والتنمية البشرية النموذجية (التعليم والصحة والشغل والخدمات)، والتمثيلية الديمقراطية. ساعتها، يستعيد المغاربة سرّ الحكمة التي طفحت في وقت الأزمة في عهد السلطان سليمان: وهي أن المغاربة وأسر حملة السلاح السلطان في معركة انهزم فيها جيشه أمام قبائل زايان، جاء الناس البسطاء من نفس القبائل يفرحون بوجود السلطان بينهم ويتبركون بالشريف. ولم يفكر عسكريو القبائل في إسقاط سلطة الشرفاء. في المقابل، زهد السلطان في الملك بعد ذلك، وأوصى بالعرش لأمير الصلاح والتقوى، ابن أخيه عبد الرحمان بن هشام العلوي. من يقرأ التاريخ جيّدا ولا يكون همه الانقضاض على مكاسب السلطة والمال، يكاد يتأمل في الابتسامة بين اللاعب أوناحي وولي العهد أثناء التقاط الصورة الجماعية بعد المونديال كما لو كانا أصدقاء الطفولة من زمان. في الواقع، نفس الشعور تملك المغاربة يوم برز ناصر الزفزافي على رأس الحراك الشعبي في الريف. أحبّه الناس ولم يثقوا في الاتهامات الجاهزة لليبراليين الذين تخندقوا جميعا ضد بسطاء الريف للربح الجشع في السلطة والثروة. واليوم أعيد ما قلته قبل صدور ترهات برلمان الاتحاد الأوربي الفاسد، إذا كانت الدولة تحتاج إلى ما يشبه الرهينة مقابل إطلاق سراح ناصر وباقي المعتقلين فسوف أقدم نفسي لقضاء ما تبقى من السنوات العشرين في السجن، همنا المشترك، تقوية لحمة المغاربة والنظر بنكران ذات لما يستحقه هذا البلد الجميل وشعبه الطيب بجذارة.

هذا الجزء هو الذي لم يفهمه اليسار في دائرته التأطيرية الحركية القيادية الواسعة. رمت النخبة الاتحادية المؤسِّسَة برموزيها الخالدين (العروي، الجابري)، ورممت الدولة بين الفينة والأخرى شقوقا في البناء العام، وتجرأت بعض الأوساط من عالم الأعمال ورأس المال على خوض تجربة العمل السياسي المنظم (عبد الرحيم الحجوجي، كريم التازي)، وصمد الاقتصاديون في نقد السياسات العامة بالتحليل والتركيب (أقصبي، العوفي)، ولكن النظرة التأطيرية في السياسة العملية (الاحزاب)داخل اليسار راكمت البراغماتية، بالنزوع الاندماجي المتيامن تارة وبالنزوع العدمي تارة أخرى، ديدنهما المزايدة اللفظية والاستفادة الفردية من المؤسسات، بدل تحصين العمل الشعبي القاعدي المتوزن بتقوية المؤسسات وقيادة النضال الشعبي، بحزم وتدرج وروح معنويات عالية رصينة.

***

هذا ما ترك القوة الكامنة لليسار في حدود “القلة والعلة”، بدل التقدم في الحياة السياسية عتبة “الكثرة والغلة”، بالمعنى الايجابي في الحالتين.

ولأن هاجس الخوف وضيق الأفق، وزمانة ضعف خفقان النَفَس، يحوّل قوة الدفاع عن المكتسبات القيادية، إلى تكاثر غير متوازن في “الكريات البيضاء” من داخل المواقع القيادية (حالة تدوينة السي محمد الصلحيوي)، مما يحول النقاش لما يشبه احتقان طنجرة الضغط فيرد جمهور اليسار بآلية دفاعية مقابلة لإعادة توزيع “الكريات البيضاء” الدفاعية حيث يجب: مكتسب القيادة الاستثنائية لا يعني خرق القانون والتشبه بالرداءة في التمسك بالمواقع بدل الدفع من القيادة نحو القدوة المبدئية. حالة نبيلة منيب ما زالت منتجة للريادة ليس من موقع الأمينة العامة بخرق القانون، بل حضورها الملتزم بالقانون، حالتها تجسد المبدأ التراثي “من تواضع لله رفعه”.

ما كان للحزب الاشتراكي الموحد وليس في استطاعة أحد أن يضعه في جيبه، لأن جاذبية الاشتراكي الموحد في كونه عصي على التطويع للإرادة غير الإرادة الجماعية. والتفوق الفردي لا يعني ليّ مبدأ السيادة الشعبية التي لا طبيعة لها سوى الطبيعة الجماعية وتدوير المسؤوليات كي لا نسقط – كما قال أحد المعلقين عن حق – في وضعية العجلة التي تدور في الرمل أو الطمي المبلّل. ومن هو في طاقة وقدرة نبيلة ليس متوقفا على موقع حزبي بعينه، كائنا ما كان الموقع. وفضيلة تدوينة السي محمد الصلحيوي كونها كشفت من ذات الروح التي تحرك الأغلبية حتى الآن هي هذا التشبث “الخائف” على مصير الحزب، من خلال فرد بعينه. وهو ما لا يمت لروح اليسار بصلة، اللهم إذا كان اليسار العرب، والبعثي، بدل يسار القرن الواحد والعشرين، ويسار كل مراحل التاريخ السابق، بتشذيب الأخطاء والتقدم نحو الأفضل. كتب لينين يوما مقالا تحت عنوان: من الممكن أقل، شرط أن يكون أفضل”. الأقل هنا هو الأمين العام الآتي من غير شخص نبيلة منيب، مع الشرط الذي أقره سيدي خيري المرابط، (ولاية فاصلة)، أما الأهم هو أن يصبح الحزب الاشتراكي الموحد أفضل، في عمل مؤسساته: أي أن تكون القيادة السياسية منكبة على الفروع والجهات، وعلى القطاعات، وأول قطاع هو قطاع المنتخبين، من يستهين بنبيلة منيب كممثلة للحزب في البرلمان. تفرغها لهذه المهمة رفقة فريق عمل متعدد التخصصات التي يحتاجها العمل البرلماني سيفيد الحزب بقوة ضاربة. جمعية منتخبي الجماعات الترابية سيفيد الحزب بتراكم الخبرة على صعيد سياسة القرب، وهو الذي ما زال في لحظته الجنينية. الانكباب على تشكيل الجمعيات الوطنية والمحلية المتخصصة ما زلنا لا نستفيد منه سوى من خلال نباهة بعض رفيقاتنا ورفاقنا في هذا المجال. وقس ما لم يُقل على ما قيل.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى