وجهة نظر

أحمد الخمسي :البورتري الخلاصة (3) في القيادة والعمل الحزبي التنظيمي

في قلب الأوضاع 44 أحمد الخمسي

كل أنواع العلوم التي يلخصها الفكر الحديث في عبارة “فن أن تكون دائما على صواب” (شوبنهاور).

يحدد شوبنهاور للمرافعة القوية أسلوبين (modes, styles) وطريقتين (méthodes)، و38 ميكانيزم ذكاء (ما يقابل مصطلح الحيلة في القاموس التراثي المحلي). يلخص الحجاج تفنن الإنسان في المعاملة الإقناعية، وهو ما يحمل البشر لتظهر قضيته معقولة ومقبولة بل وعادلة، من كل الأوجه. لأنها في آخر الحساب إنسانية بكل المقاييس.

فالتواصل أضحى الخشبة العامة المشتركة حيث تلتقي – من خلال المرافعة- كل المصالح والقيم والمعاملات. والتواصل عتبة يتخطاها كل فاعل في كل مجال. ومن ربح معركة التواصل ربح كل “الحرب”، ومن خسر معركة التواصل كان الخسران المبين مآل “الحرب” جميعا. فالتواصل مرافعة جيدة والمرافعة الجيّدة معاملات وعلاقات والتزامات تفصيلية وليس فقط خطاب خارجي واعتذارات داخلية.

خلال التسعينات، تعذر علي لأسباب قاهرة الحضور في اللجنة المركزية بالدار البيضاء، ثم بعد أقل من شهر نودي عليَّ بالهاتف أن المكتب السياسي (الكتابة الوطنية م.ع.د.ش) قرر بعثي الى مدريد لتمثيل المنظمة في مناسبة حزب يساري هناك. خجلت من نفسي أنا الذي لم أحضر الى الدار البيضاء كيف يسعني الوقت للذهاب الى مدريد. خصوصا والناس عموما يستحسنون الذهاب الى اوربا (عمل وسياحة) بينما لا يذهبون الى فكيك أو طاطا. نعم خجلت من نفسي وفي ذهني الأطر الذين يجولون في المغرب كله، من أقصاه إلى أقصاه. لقد فضلت الاعتذار المزدوج بدل القفز على الاعتذار الأول (الدارالبيضاء) وتلبية المهمة الثانية في مدريد. همي في الذاكرة أؤلئك المقاومون الأوائل الذين استرخصوا حيواتهم من أجل المغرب المستقل والمغرب الديمقراطي. وهمي في الذاكرة استبعاد شبهة الانتهازية. وهمي في الإدراك استبعاد الحظوة والريع الحزبي. ولأنني لست عاقّا للتراث الفكري المحلي، فالاجتهاد الفقهي يقول ويكرر: “درس المفاسد أَوْلىَ من جلب النعمé. والمفسدة التي درأتها وأبعدتها عني هي مفسدة الشبهة بالانتهازية والحظوة. نفس الشبهة درأتها وأبعدتها عني يوم رفضت الترشح لما سيؤدي بوجودي في المكتب السياسي (الكتابة الوطنية). لأنني ما كنت يوما رقما للتصويت ضد رفيق مهما اختلفت معه. ساعتها رفضت التجييش. وقد علم الذين انقلبوا، أي منقلب ينقلبون. الصرامة مع الذات التزام صلب تجاه الآخر. تعترض الدسيسة من أي نقطة أتت. وتحفظ السياسة نبيلة المطمح في علّيين. وقد تفرقت السبل بخمس أشخاص اجتمعنا بداية الثمانينات، لست أعتقد في نفسي الأهلية أكثر من الآخرين. ولست أعتقد أن الضحالة، هي ما يميّز المغاربة لممارسة العمل الحزبي، ما أدعيه هو أنني نذرت نفسي لممارسة أفكاري. لم أستمر لأنني ركبت المواقع، بينما كنت الوحيد بين الخمسة بلا مهام رسمية، لكنني حرصت فقط أن أكون جوكير المتاعب. لذلك، من بعد أتت المواقع حيث كنت إليَّ. تلك ليست منِّي مِنّةٌ على الآخرين، بل فهم مطابق لمصطلح مسؤولية المواطن على تردي الأوضاع. فلم أسمح يوما أن تنطبق على شخصي حكمة المغاربة: “الماكلة فيه، واللعنة فيه”. هذا المغرب، من له غير أبنائه وبناته؟ بترابه وشعبه ودولته.

إذن، كل مراتب المرافعة تقتضي اليوم مستوى مطابق من الحجاج للوقائع، سواء بالتقسيط اليومي مع صاحب متجر الحي، أو المحامي أمام القاضي أو ممثل الشركة الذي يقدم بضاعته الجديدة، أو السياسي الذي يجزم أن برنامجه حزمة من القضايا العادلة التي تخدم المجتمع برمته، باستخدام أعظم آلة صنعها البشر لفض النزاعات: الدولة.

وعندما تصبح المرافعة آلية للدفاع عن البرنامج الحزبي، يعني في الحياة السياسية الحديثة، الدفاع عن مشروع مجتمعي منقح ومزيد جودة. فالحزب الذي يقدم برنامجه السياسي يقدم صيغة، مفترض فيها أن تكون الأفضل، لترسيخ أسس الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. ولأن le message, c’est le médium، كما قال ماكلوهان، ولأن نفس عالِم التواصل اعتبر العالَمَ كُلَّهُ قد أصبح “قرية صغيرة”، فكل خطوة نربحها في التواصل، ينتشر خبرها، وتؤسس مبتدأ جيِّداً للمرحلة الموالية. والعكس صحيح.

والناس الذين ينطلقون دائما من خدمة الشأن العام، قد يكتفون بهذه الخلفية الجيّدة، ويعتبرون أن غيريتهم مكون ثابت في شغلهم الشاغل للدفاع عن المصالح العليا. لكنهم أصناف. هناك من يستقبل الناس أسلوبهم الجيّد في ذاته، فيكتفون بالتأكد من صنف ذكائهم الجيد كمعطى مضمون في المرافعة. غير أن الذكاء الجيّد في مستوى جمهرة فئة اجتماعية معينة قد يصبح سطحيا وبليدا في مستوى آخر من دوائر الشأن العام. فالمرافعة الجمعوية ليست هي المرافعة النقابية، والمرافعة النقابية ليست هي المرافعة داخل جماعة ترابية منتخبة، والمرافعة داخل جماعة ترابية منتخبة محلية ليست هي المرافعة البرلمانية حيث الصدى في الطبقة السياسية وفي الجمهور العادي وفي أوسط قيادة الجيش ولدى الهيئة الدبلوماسية بكل صراعات دولها على الصعيد العالمي. والمرافعة في مؤتمر حزبي ليست هي المرافعة في مؤتمر وطني وليست بالتأكيد على نفس الايقاع في مؤتمر دولي.

عندما يتصور الشخص بمفهومه الثنائي الميكانيكي أن الناس صنفان: عظماء وبسطاء، وعندما يركب رأسه كونه أصبح من بين العظماء، يستسهل العظمة كونها موهبة فردية، أو كونها كاريزما ملتصقة بشخصه، وينسى أن الفرد وسط الجماعة قد يظهر يوما أسد كل كائنات الغابة، وفي اليوم التالي قد لا يظهر أحسن من ثقل حركة الحمار البطيئة أو ليس أكثر من قفز القرد فوق الأشجار. خصوصا، عندما يوجد في مجتمع راكد حيث يحيط به مجموعة من المتملقين والمنافقين والجهلة الذين يستثمرون في شخصه لثقة الصادقة أوالغرور الذي ركبه منذ يوم ظهر كأسد الغابة.

الفرد وسط الجماعة، لا يفتر أن يكون مثل الآلة التي يجب صيانتها من الصدأ وحفظ أصلها من مجرد ما رن في أذنه من الصدى. فالاغترار بالصدى الخارجي يترسب ليصبح صدأ عضويا، يفسد المعدن الأصلي للشخص. وأخطر ما في الاشتغال بالشأن العام هو الاغترار بالصدى الخارجي ونسيان القيم الأصلية غير المرئية داخل التنظيم العضوي. نخب المجتمعات المتأخرة كثيرا ما تكون عرضة لهذا الاغترار غير المرئي. لأن بساطة الفكر تفضل المعيار الثنائي بين المقدس والمدنس. وسيّد القوم في هذا الوضع المنخفض المعايير، يسهل عليه مواجهة الصراعات بسلاح “الملفات” مثل ما فعلت الدولة لمواجهة الرأي الآخر في عالم الصحافة بملفات الدنس من المنظور الاجتماعي حيث التأثير الديني المزدوج: مركب ثنائية المقدس والمدنس، ومركب الخوف الكامن من جبروت السلطة. وعندما يتقن خبراء السلطة استعمال المُرَكّبَينِ معًا في معادلة واحدة لمواجهة المعارضة، تنتقل العدوى للمعارضة لحسم خلافاتها الداخلية بسلاح “الملفات” الموهومة. النتيجة: إنتاج “الانقسامية” والتآكل الداخلي والعودة لثنائية “الشيخ والمريد” وبناء العلاقات الحزبية على علاقات القرون الوسطى بين “الأعيان والأعوان”. كانت ردود أوساط الحزب الاشتراكي الموحد على تدوينة محمد الصلحيوي قبل مدّة يسيرة من زاوية التحذير من السقوط في مستنقع “الشيخ والمريد” ومن علاقات “الأعيان والأعوان”.

الانحدار المحتمل الى مستوى (الشيخ والمريد) مهما كانت القضايا عادلة، يجعل أساليب التنظيم متخلفة، والعلاقات الجماعية بلا معايير ديمقراطية، ومعالجة الأزمات محرومة من الشفافية. وتصريف المالية بلا منطق ميزانية متوازنة بين مصادر الدخل ومخارج الصرف. والتنظيم الذي يجد نفسه وقد افتقد المعايير الشفافة ولجأ إلى ريع الثقة الشخصية يفقد (بنسبة من صنف الخطأ الجسيم) شرعية القول بالدفاع عن القضايا العادلة، لأن منطق “فاقد الشيء لا يعطيه” يفرض نفسه ها هنا. ولأن الفعل لم يطابق القول. والاحتراز منه مناعة صحية نافعة.

ننتقد الدولة كونها تستقطب أفضل النخب عن طريق الريع والتفضيل بالحظوة، ونمارس أسلوب الحلقات المغلقة وقد نضيف كوننا نمارس العلاقة داخل الحلقات الضيقة بمنطق الباطرون دونما انتباه. وقد يتصرف القيادي الصادق بالتغيب عن الاجتماعات المبرمجة، لظروف قاهرة. ويدعو إلى اجتماعات موالية دون احترام الآجال الكافية، مرة أخرى بعدم انتباه عن حسن نية، للإعداد الجيّد لجدول الأعمال.

في الوقت الذي يبدي الدارسون الحجج على كون الدولة لا تتمكن من التصرف كدولة بل ولا تصمد في التصرف كدولة ذات سطوة، سوى لأن وسائلها وأساليبها ذات معايير وبروتوكولات تنسجم مع المصالح الضخمة التي تسهر على بقائها واستمرارها، على الأمد البعيد، بخبرة عالية، مهما تعددت القطاعات، ومهما طرأت المشاكل الخارجية أو الأعطاب الجانبية. فالدولة منظومة قديمة، ذات أدوات مركبة، من العتاد والعدة وأساليب الاحتياط للأزمات: إدارة بيروقراطية محترفة، وجيش وشرطة وقضاء وعالم استخبار للشاذة والفادة.

بينما الذين يجتهدون العمر كله ويبذلون النفس قبل النفيس في المبتدأ من أجل القضايا العادلة، يصيبهم التبرم والغضب، من أبسط توعك يطرأ على الوضع الحزبي، فيصبح عمل العشريات من الوقت، هباء منثورا.

تلك آفة الزهو، أو هكذا يظهر كع الوقت، بالمواقع العليا في التنظيمات الحزبية والنقابية والجمعوية، والحال أن هذه الحزمة كلها ليست سوى جزء يسير من شغل السلطة من موقع الدولة.

من لا يصبر على المشاكل والتعقيدات في مستوى حزب واحد، كيف سيشتغل يوم يفكر أن صناديق الاقتراع ستحمله نحو موقع حزب وازن داخل البرلمان؟ بالأحرى أن يفكر في إقناع الدولة العميقة، كونه سيحافظ على التوازنات الكبرى وهو يشتغل على تنفيذ برنامجه الحزب للتأثير في البنيات الراسخة من قرون؟

لم نتأمل يوما لماذا قمعت الدولة بعنف دامٍ حركة 20 فبراير خلال شهر ماي 2011، لأن مهندسي الحركة لم ينتبهوا للدماء التي سالت في مدريد وبرشلونة منتصف نفس الشهر وهما داخل الاتحاد الأوربي؟ لم نتساءل لِمَ تم اعتقال قادة حراك الريف يوم الاثنين الذي تلا دخول المسجد يوم الجمعة الذي سبقه ومعارضة خطبة الإمام بنقد شفهي من داخل حرم أقدم مكان عمومي صنعه المغاربة في تاريخهم بحيث تقر كل الدساتير (بما فيهم دستور بورقيبة 1959)، كون الإسلام دين الدولة.

ليست المرافعة مجرد صوت صدّاح بصفاء ذهن دائم الجودة. ففي عالم التواصل يوجد مصطلح “وحش التواصل”. وهو الشخص الذي لا يمكن مقاومة سطوته التواصلية أمام الحشود. وقد علمتنا دروس التاريخ أن كبار التواصليين خلال عشرينات وثلاثينات وخمسينات وستينات القرن العشرين، إما مآسي إيطاليا وألمانيا (الدكتاتورية ثم الحرب)، أو هزائم خارجية (67 عبد الناصر) و أخرى انتخابية (69 دوغول). رغم رصيد التفوق في الصدق والعزم وقوة الإرادة. نعم عبد الناصر الصادق الأمين داخليا انهزم في الحرب بسبب الكيان المغشوش اداريا. ودوغول الذي واجه الحلف الاطلسي وأمريكا انهزم انتخابيا وقبله تشرشل.

إن الإنصات في الدوائر الداخلية وإتقان التواضع التنظيمي، وجدل التناوب بين التألق والانسحاب في المواقع، هو الذي يضمن جودة الاتقان.

إن التوازن بين تشبث المجموعة الحزبية في القواعد بقياداتهم وبين حرص القيادات للاحتفاظ بثقة القواعد في عمومها وبنفس الزخم، ليس توازنا تضمنه المواقع، ولا يغديه التألق من المواقع الأولى، بل التوازن الصلب استمرار في الدفاع عن القيم المشتركة، من مختلف المواقع. ذاك هو الصمود الحقيقي من أجل القضايا العادلة.

والتوازن في العمل السياسي ليس تنظيميا حزبيا بالكامل، بل إتقان للمهام المرحلية داخل التنظيم أو من على منابر مؤسسات الدولة. من يذكر لبنسعيد آيت يدر كونه كان أمينا عاما لمنظمة العمل؟ القليل. بل يتذكر الناس بنسعيد كونه صمت دهرا ونطق – عندما خاف البرلمانيون- جهرا، وليس كفرا. وبعدما ألف المغاربة الصوت الصداح للمعارضة اليسارية في البرلمان عن قضايا المحرومين، نفس الأشخاص لم يستحسن الناس مرافعتهم بصدد الخوصصة التي تمت وهم في كراسي الحكومة. إما لأنهم التقطوا العناية الفائقة بالكرسي الحكومي وتركوا العناية الكافية بالقطاعات المخوصصة، أو أنهم أهملوا الأصل الذي أوصلهم حزبيا وتنظيميا للكرسي الحكومي. فتعددت الانشقاقات الحزبية من تحت الكرسي الحكومي (2001= المؤتمر الوطني الاتحادي، الوفاء)، ولم ينفعهم الترتيب الانتخابي الجيّد بعد حين. فاستمر الانفضاض الجماهيري وتفكك التنظيم الحزبي، في الوقت الذي تشبثوا بالكرسي الحكومي ولم يتقنوا التراجع المنظم بعيدا عمّ سموه ساعتها “الاستمرار في الإصلاح” (الورقة الزرقاء 14، أعمال مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد). حتى إذا جاءت حركة 20 فبراير، وجدوا أنفسهم وقد استنفذوا العدة والعدد واستهلكوا رأسمالهم التاريخي. أصبحوا ورقة غير نافعة لا لأنفسهم ولا للدولة ولا للشعب كي يستثمروا على الوجه الحق مطالب “الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية” وقد كان مبتدأ حراكهم الأول (1959) في الحياة السياسية المغربية.

“فن أن تكون دائما على صواب”، لا يعني أن تكون دائما ناجحا في مسعاك. لكن يعني أن تُشَخِّص بصواب الظروف التي حالت دون النجاح في مرحلة من المراحل. فالنقد الذاتي في التوقيت المناسب نفسه نجاح يدعو الناس الى الالتفاف حولك. لأنك على حق حتى في النقد الذاتي. وإفلات اللحظة المناسبة للتشخيص المطابق لما اعترض نجاحك، يفقدك القدرة على النقد المزدوج: لن تستطيع المرافعة الثاقبة في النقد، وبعدها ستفلت منك الفرصة في النقد الذاتي.

إن المرافعة تتأثر بوضعية المتحدث باسمهم في الخريطة الطبقية، ولأن مؤسسات الدولة تتأثر بموازين القوى الطبقية، في المبتدأ والمنتهى، ولأن كل الدول، زايد ناقص، تتحدث باسم الشرعية القانونية، ولأن المحاججة، وقد لاءمت الكلام كأقنعة قانونية، وكلام سياسي عن الاستقرار والمصالح العليا وليس الطبقية، فوضع المترافع باسك من هم ضعفاء في موازين القوى الطبقية، لا يحتاج فقط إلى تماسك في الكلام المنطقي بفضح المصالح الطبقية وسلخها عن أقنعتها القانونية وخطابها السياسي، بل يحتاج أيضا تماسك منهجي داخل صفوفه الحزبية التنظيمية. وله أن يختار ساعتها، إما أن يعتقد جازما أنه يتزعم كتلة شعبية نبيهة و واعية تمام الوعي بفرص التغيير وبمخاطر المغامرات غير المحسوبة، أو إما أنه يقود كتلة من الرعاع المنفعلين الغاضبين، لذلك مهمته الحجاجية تأجيج الغضب وتسخين الطرح.

في الحالتين، لا تنفرد الدولة بالدفاع عن المصالح الطبقية القوية بالمال، لكنها تتحكم في صناعة الرأي العام وتستطيع تأجيج التضليل وخلق المساحيق الشكلية وحجب المعلومات الأساسية التي يشتغل وفقها جهازها البيروقراطي، زيادة عن كونها بموجب الأهمية القصوى للاستقرار السياسي، تدمج النظام الطبقي الظالم بمؤسساتها، لأن سير مؤسساتها الحيوية يحتاج المال، لأداء الأجور ومراكمة ادخار الأموال لترسيخ صورة مثلى عن دورها العام. ومصالح الدولة في الأمن والاستقرار والقضاء عمّ قد يصبح خطرا أو جنينا لحرب أهلية مصالح شعبية في آن واحد.

فمرافعة تسعى إلى تشخيص السياسة العامة للدولة كونها سياسة طبقية مرافعة في غاية الصعوبة، خصوصا إذا كانت الدولة إرثا تاريخيا مشتركا بين الطبقات، وخصوصا إذا كان العمل الحزبي الذي يصرح أنه يتبارى على الوصول الى السلطة وفق بنية حديثة مبنية على الاقتراع العام، وخصوصا إذا كانت مصالح حلفاء الدولة في الخارج، لا تملك الدليل على التفريط البالغ للدولة في مصالح المستثمرين الأجانب. كون الدولة في المغرب إرثا مشتركا تاريخيا للمغاربة جميعا، وكون الدولة تستقوي بمالكي الثروة في الداخل ومخصبي الاستثمار الداخلي باستثماراتهم الخارجية المباشرة، يترك حظوظ التغيير لفائدة المتضررين من السياسة العامة في حدود حظ واحد مقابل حظين. ولأن عمل المعارضة الحالية يرث بؤس الرؤية التي دأبت الحركة الوطنية الاشتغال تحت رمادية ضبابها، فالأجيال المعارضة الحالية ما زالت تفتقد العقلانية المثلى لامتلاك معقولية عملها في أذهان الخصوم. ناهيكم عن تشككات من تتحدث باسمهم. أما هزالة الخبرة السياسية وضعف التكتيك فيترك الاستراتيجيات طول الوقت كلاما عاما.

لليسار خلاصات عامة رصينة حول دوره ضمن ثوابت الحياة السياسية المغربية، ولكنه إما يحتفظ منها بالثوروية والانعزالية والشعبوية العدمية، وإما ينزلق نحو اليمينية الفعلية تحت رداء من الجذرية الشعبوية. من روائز هذه الثنائية الخفية التفريط في التنظيم الديمقراطي الداخلي.

وإذا كان الأمر قد بلغ الحد الكافي من “المعقول” في السياسة، وليست هناك عوائق ذاتية، فما الذي يمنع من الجلوس على الأرض لتدقيق ما يلي:

العقد التاريخي من أجل ملكية برلمانية، توفر الاستقرار للشعب والدولة على مدى قرن من الزمن.

العقد السياسي لليبرالية كون رفاهية الشعب تنبني على ركيزتي تأمين الحقوق الأساسية للمجتمع، والحقوق الأساسية للاستثمار المالي الوطني، دونما مس بما يربحه المقاولون، بل يأمل اليسار في زيادة ربح ونجاح المقاولة المغربية، فالصين لم تؤمن صعودها المضطرد سوى بزيادة عدد الميليارديرات بين أغنيائها. في الوقت التي تصدر الاحصائيات الصينية كل سنة عدد ملايين الصينيين الذي يرتقون من وضعية الطبقات الهشة الى وضعية الطبقات المتوسطة (بمعاييرها الستة المعروفة).

العقد الاجتماعي، وقد صرح الاقتصاديون (ندوة مركز بنسعيد آيت يدر)، شروط تفعيل الدرجات الأربع لبلوغ مستحق لصيغة الدولة الاجتماعية (اقصبي).

العقد الثقافي العلمي، بحيث يتمكن المغاربة في حدود عدد السكان المتواضع، مقارنة مع الخبرة الضاربة للدولة من خلق الثروة البشرية والعلمية تدمج العلماء المغاربة مع الأوراش الاستراتيجية (ندوة القطاع الجامعي للاشتراكي الموحد).

العقد الأمني، ما زالت الطبقة المتحكمة في النظام السياسي تمارس الشطط في المؤسسة الأمنية. فأجهزة الأمن جزء من الدولة وليس أداة لحماية المصالح الطبقية. وعلى صعيد الأجهزة الأمنية ظهر للقاصي والداني الإصلاح الذي أصبحت معه المؤسسة الأمنية رفيعة المستوى، وتغيّر منظور المغاربة عن الشرطية والشرطي مقارنة بما سبق 1999. لكن وزارة الداخلية التي تعتبر جزءا من الجهاز التنفيذي في السلطة، ما زالت تعتمد الفساد في إدارة المصالح اليومية. ووزارة الداخلية، وهي جزء من الحكومة وليست جزءا من الدولة هي التي تبعث البلطجية كمظهر جديد لتسلط النظام الطبقي السياسي على ذوي الحقوق المهدورة. وفي سمعة اليوم، من يدعي ظلم الدرك الملكي بصدد السير والجولان عبر التراب الوطني؟ على الأقل بالمقارنة مع شرطة السير والجولان. كما يمكن التعاقد على فك الارتباط بين القضاة والمصالح غير العادلة التي تعرض في المحاكم. وهنا لا يمكن تبرئة النظام الدولي الرأسمالي كونه أفسد مؤسسات الديمقراطية التمثيلية الى درجة الفساد على صعيد الفيفا والبرلمان الأوربي.

فالنظر الصح للأوضاع المتشابكة يساعد على فرز الخيوط خيطا خيطا. وليس قدر المغرب ألا يعود إلى عهد الأمبراطورية الضاربة بسمعتها ولكن بنموذجية الرقي في المعاملة واحترام قواعد العمل المتقن والقيم الإنسانية. فقد عاش عبد الرحمن المجذوب طفولته حتى سن 12 ربيعا قبل وفاة ميكيافيللي. فما الذي ينقص المغاربة عن الانجليز والفرنسيين والاسبان إن لم تكن وضوح الأهداف واللحمة الوطنية والشغل الحثيث، ومعايير الكفاءة وربط المسؤولية بالمحاسبة؟

إن بناء الكتلة الحزبية الداخلية لا يمكن أن يكون في مستوى التطورات السريعة المتلاحقة إذا لم يتم بجديّة الحفاظ على المغاربة الذين انجذبوا إلى البقاء داخل الحزب، رغم كل ما جرى من تمزقات وأحزان ومكابدة. هذا طبعا إذا لم يدر في ذهن أحد أن الحزب مقاولة تتوزع الأرصدة “الربحية” (تقوية CV) بين أعضاء مجلس الإدارة. ثم ينصرف “المستخدمون” إلى ملء الفراغ بين حملة انتخابية وأخرى.

وإذا اشتغل الحزب بعقلية المشروع المجتمعي، فيمكن من خلال مقعد برلماني واحد إعطاء صورة نموذجية للبرلمانية التي تستحق سمعة نبيلة منيب التي عرفها الناس أمينة عامة ناذرة بين 33 أمينا عاما حزبيا، أكثرهم يشبه الكراكيز. كما يمكن خلق تجارب النضال المؤسساتي عبر الجماعات الترابية القليلة حيث يوجد منتخبو الحزب الاشتراكي الموحد، مشتلا رائعا يخصب التربة الشعبية لما يفيد مصالح المغاربة من زاوية اليسار النزيه المكافح راسخ في الجذور وليس مجرد “عرض سياسي جديد” وسيط من بين الوسطاء لتلميع الانتخابات. علما أن مصلحة الحزب من مصلحة المغرب والمغاربة حيث تتسع المشاركة الشعبية لكن بتمثيل شعبي سياسي وليس عن طريق تشحيم(dopage) انتخابي موسمي.

وهو ما يضيف لعمل الأمانة العامة شموعا مضيئة توسع دائرة اليسار ويخلق ظروف سياسة تحالفية في القطب اليساري.

ومثل الماء والهواء والنار والتراب (رباعية فهم اليونان للطبيعة)، للصراع الطبقي أسلحة الأقوال والأفعال والأحوال والأموال، ضمن الرأسمالية وأحزابها. بينما للشعب واليسار الأفعال والأحوال والأقوال فقط دون الأموال. والبشر الذي يناضل في أحوال أغلبها ليس في صالحه، والمال ليس في كتلته الناخبة، تبقى له جودة الأفعال ومطابقتها للأقوال. وبذلك يجذب المزاج الشعبي العام في اتجاهه. خصوصا والاختيارات الطبقية الأنانية تخلق ضد صانعيها أحوالا جانبية “غير منتظرة”، تصبح مخيفة للسلطة عندما يسود جو الحرب الحالية في أوكرانيا وما يتصاعد في أجوائها في الصراع بين “الجبابرة”.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى