لم أنس قط وأنا طفل صغير، كيف أمسكَ أبي بيدي، فوجدتني رفقته، نسير في الجنازة الرمزية بمدينتنا، وزان دار الضمانة، لأب الأمة ساعتها، الراحل ابن يوسف، محمد الخامس. بعدها وقد دخلت المدرسة الابتدائية، أمرني أبي أن أرافقه، لنصل المكتبة البلدية العمومية. كان ذلك، منتصف الستينات من القرن الماضي. نقف أمام الموظف المكلف بتسيير المكتبة، ليوصيه أبي بإرشادي لأطالع الكتب، كلما حضرتُ مستقبلا. من الكتب الصغيرة التي تصفّحتُها في زيارتي اللاحقة، ملخص مذكرات الرئيس ابن بلة، عندما طالعته، من الحقائق التي مرّتْ أمام عيني بقلم أول رئيس للجزائر المستقلة، أن سكان منطقة تلمسان كانوا يرون السلطان ابن يوسف في القمر، عندما كان في المنفى. لم أشك يوما في قدرة الإنسان على تخيّل من يُقَدّرُ مواقفه وبالتالي يُكِنُّ له القدر العالي من الاحترام وإذن من يحبه، صورته في كل منظر جميل حالم. لم أعتبر يوما حكاية رؤية محمد الخامس من خزعبلات الحركة الوطنية. بل لحظة شاعرية توحي للناس تبوُّءَ مَن يرفعون قيمته في قلوبهم على النقيض من إرادة السلطة الاستعمارية تهميشه وإزاحة إرادته الوطنية الصلبة من طريقها.
كتبت الصحافة الاستعمارية في المغرب إبان الحماية، عن الهبّة الجماهيرية في كل من القبايل و وادي زم في 20 و21 و22 و23 غشت 1955، كانت جبهة التحرير الوطني الجزائرية قد وجدت في التفاف الرأي العام الجزائري حول قضية ابن يوسف، تربة خصبة لتقوية قيادتها للشعب الجزائري من خلال قضية المغرب الأولى.
قبل استقلال الجزائر يتذكر الطفل الصغير في مخيّلتي، الأناشيد العسكرية المقترنة باسم الجزائر.
ومن بعد سنوات الصبا، لم يكتف الوالد بتوجيهي لقراءة الكتب في المكتبة العمومية، بل، وهو الاستقلالي الأمي، كان يرجع منتصف النهار إلى المنزل ومعه جريدة العلم، يضيفها لابنه التلميذ الذي تميّز بالانتقال إلى القسم الأعلى كل سنة، بمطالعة منوعات الجريدة. مرت السنون والوالد يحمل جريدة العلم. وفي سن المراهقة، كانت العلم تخصص صفحة للتعارف والصداقة، بكتابة عناوين الشباب وهواياتهم من مختلف بلدان المغرب العربي. مما أتاح فرصة الصداقة الافتراضية عن بعد بواسطة المراسلة.
عالم الأفكار والخيال لدى المراهقين والشباب من جيلي (مواليد 1954)، تشكل من صخب الأحداث الكبرى في الستينات: الصراع بين الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، تظاهرات الاتحاد المغربي للشغل في فاتح ماي كل سنة، حملة الاستفتاء على دستور 62، حملة الانتخابات 63، أحداث ربيع 1965 بالدار البيضاء، حرب 67، الشعور بالفقدان الأبدي لموريطانيا سنة 69، الحديث عن نسيان الساقية الحمراء ووادي الذهب في يد الاستعمار الاسباني. محاولتي الانقلاب العسكري، السنة التلاميذية البيضاء 71-72. وكان غوغل العصر ساعتها يتشكل من تبادل المجلات بين الرفقة التلاميذية، ومن حلاق الحي، ومن أشهر الإذاعات العالمية، ومن أجود الأساتذة المتنورين، مغاربة وفرنسيين.
توالي الأحداث، وصخب الصراع السياسي، وخصوبة المناقشات في الاستراحة وفي راس الدرب، بين المتفوقين في الدراسة طبعا، كلها كانت عوامل، تجعل شباب المغرب يطمح ليكون مثل شباب 68 في أوربا. وكانت مجلتي “الحرية” و”الهدف” الفلسطينيتين، تتداول بعيدا عن عيون الآباء والأولياء. كان “للاختيار الثوري”، بعد اختطاف المهدي بنبركة نكهة خاصة، في خريف 72، كان قد تمّ الاطلاع على جريدة “المناضل” الناطقة باسم “النقابة الوطنية للتلاميذ”. وخلال المدة الموالية، تم الانخراط في الأنوية الأولى لمنظمة 23 مارس سرّا.
صارت صورة الراحل محمد الخامس الذي رحل باكرا، المعلقة في الغرفة المخصصة لي في بيتنا، هي مكان إخفاء ما يجب إخفاؤه من الوثائق. فلا أحد يجرؤ على المس بالصورة سوى الوالد وحده. ومنذ تعودي على النوم في الغرفة لم يدخل الوالد قط الغرفة.
كانت العملة الصعبة التي ينتظر الوالد من الإبن هي الحصول، في كل دورة دراسية، على لوحة الشرف كأقل ما يجب. لذا، لم تعد للوالد أية رقابة، لا على الرفقة ولا على توقيت الدخول والخروج من البيت. ثم كان التصرف القويم الذي لم ترافقه شكاوي قط، هو الحصانة. كان حسن السلوك والأداء الجيد في الدراسة هما ركائز عيش المراهق في سلام دائم مع المحيط الأسري. كان ذلك يضمن عدم التدخل في المغامرات الغرامية رغم العلم بذلك. كانت الحريات الفردية في مجتمع محافظ مغلق، ليست معترف بها جهرا، وليست منبوذة سرّاً. كانت منزلة بين المنزلتين: مرتكب محظوراتها لم يكن كافرا كما يقول المعتزلة. كان المجتمع المغربي معتزليا بالفطرة والصمت.
وسط هذه الشبكة من الذهنيات والاهتمامات والتصرفات والعلائق والعقائد المتعارف عليها، تمت التنشئة الاجتماعية خلال الستينات، لما سوف يعرف – على مستوى التنشئة السياسية- جيل السبعينات.
تراكم اليأس السياسي مواكبا للتنشئة الاجتماعية. وانطلق جيل السبعينات يبحث عن دوره في السياسة، كل جيل على التوالي، لم يستشر الجيل السابق عنه فيما يجب فعله.
تمّ فتح طريق سالك من وزان إلى البليدة بالجزائر عبر الصداقة بين شابين. ولما انطلق البرنامج الأسبوعي الإذاعي، على أمواج طرابلس الغرب، كل ليلة خميس، لم يرفض الصديق الشاب (18 سنة) طلب إرسال رسالة (داخل غلاف الرسالة المبعوثة إليه) إلى إذاعة طرابلس. إلى اليوم لم يتم الحديث داخل المحيط العائلي لا الصغير ولا الكبير. وإن تمَّ الحديث عنه على أثير الإذاعة المغربية الأولى بالرباط سنة 2011. كانت أجواء ما بعد خطاب 9 مارس 2011 قد فتحت أريحية التحدث بين المغاربة في كل مظاهر “قرن التطرفات”، كما سمى المؤرخ اليساري البرطاني إيريك هوبزباوم، القرن العشرين.
تمّت إذاعة تحقيق “صحافي” عن استغلال الفرنسي موسيو كونط، لمقلع صخري، أثناء ذلك، بعد حديثي عن نشر التحقيق للتشهير بالفرنسيين المتبقين في المغرب من حيث نهب ثروات المغاربة، كتجسيد لما كنا نسميه ب”الاستقلال الشكلي”، نشرت إحدى المجلات التي كان يرأس تحريرها الصديق أحمد نشاطي، ملفا عن أنصار فرنسا ضد محمد بن يوسف، ومنهم الفرنسيون الموزعون في مناطق المغرب، هذا الشخص الفرنسي الذي شهّرتُ بدوره الاستغلالي، ساقت المجلة شهودا على كونه اجتهد في جمع التوقيعات من الخونة لتبرير نفي السطان الشرعي.
ما الذي حذا بالأب الأمي أن يحرص على الاهتمام بابنه الصغير لإتقان الدراسة عبر المكتبة العمومية وجريدة العلم؟ كان السرّ الأول أن الجد حرم أبناءه (الأب أكبرهم) من ولوج المدرسة العمومية، لأنها مدرسة المستعمر والنصارى. والسر الثاني أنه فقد وظيفة سائق القايد الظويهري، لما تمت إقالة القايد عندما رفض التوقيع على عرائض فرنسا لتولية ابن عرفة ونفي محمد بن يوسف، والسر الثالث لأنه أصبح استقلالي الانتماء، بحيث نما في أجواء اللطيف ضد الظهير البربري (عمره 11 سنة) وأجواء نزول ميريكان (42) ومؤتمر آنفا (43) وعريضة الاستقلال (44) وخطاب طنجة (47)، وهو في عز الشباب (عمره 28 عاما) ثم فقدان الوظيفة (عمره 34 عاما).
ولما نفي السلطان ابن يوسف، تعزز موقف السلطان والحركة الوطنية بهزيمة فرنسا في فييتنام (قبل متام السنة = ماي 54) وبقيام الثورة الجزائرية ضد فرنسا(نوفمبر 54). لذلك، أصبح الناس يرون في السلطان المنفي في القمر، كونه خطا الخطوة الأولى ضد الاستعمار ثم تبعه زعماء الشعوب الأخرى. لقد وضع المؤلف المشرقي ظاهر تركي اسم محمد الخامس ضمن أشهر قادة العالم عبر التاريخ. كما كتب طه حسين مقالا في الخمسينات ضمن كبار المقاومين رفقة الزعيم الفييتنامي اليساري هو شي منه.
حركة 3 مارس 73، كانت بالنسبة لجيل شباب بداية السبعينات، دفعة أخيرة من حركة محمد بن يوسف وباقي المقاومين، الذين رفضوا عروش الذل وفضلوا المنافي والسجون والاستشهاد من أجل الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. لعلها كانت الصرخة الأخيرة التي ساعدت المغاربة جميعا للعودة إلى تحرير التراب الوطني في الجنوب وأشعلت الحماس ليصنع الجنود المغاربة ملحمة بئر أنزران في 14 غشت 1979…ليس من الصدفة أن ينهي المقاوم محمد بنسعيد آيت يدر مرحلة المنفى ويعود ورفاقه قادة منظمة 23 مارس، ليندمجوا في الحياة السياسية لو لم تبتدئ مرحلة المعادلة حيث رقم التراب الوطني والسيادة الشعبية، تحت سقف الإرث المشترك: الدولة المغربية.