موقع ابن رشد الفيلسوف والقاضي والفقيه بين الإسلام والمسيحية اللاتينية (4/1)

أحمد رباص
بادئ ذي بدء، يمكننا أن نتساءل بحق عن مصير ابن رشد خلال حياته والطرق التي اتبعها تلاميذه وتأثيره بعد وفاته.
ولد عام 1128م في قرطبة وتوفي عام 1198م بعد أن عانى في نهاية حياته من محنة مؤقتة. كان له نشاط فكري لافت في جميع مجالات المعرفة، سواء في الطب من خلال كتابه عن “الكليات في الطب”، في العلوم، في الفلسفة، في الشريعة من خلال كتابه الموسوم ب”بداية المجتهد ونهاية المقتصد”، أو في علم الكلام. كما شغل في حياته العملية مناصب كبيرة. ومع ذلك، بعد أقل من أربعين عاما من وفاته، في عام 1236م، سقطت قرطبة، التي مارس فيها نشاطه الفلسفي والعلمي والقضائي، في أيدي مسيحيي “الاسترداد”.
بعد اثني عشر عاما، في عام 1248، جاء دور إشبيلية. كان قد شغل منصب قاضي القضاة هناك. ثم اقتصرت الحياة الفكرية والعلمية والثقافية للأندلس على مملكة غرناطة التي ظلت قائمة لما يقرب من قرنين ونصف، ولكن دون أن يكون لها نفس إشعاع المدينتين المذكورتين أعلاه.
على الجانب الآخر من مضيق جبل طارق، لم تكن سلالة الموحدين التي قدم إليها ابن رشد على يد ابن طفيل والتي قام حكامها بالكثير لتشجيع تطوير نشاطه الفلسفي، لن تتمكن من البقاء لفترة طويلة؛ إذ تلقت الضربة الأخيرة في مقتل مع استيلاء المرينيين على مراكش عام 1269.
وفي الوقت نفسه، في الجهة الشرقية، لم تقاوم بغداد حصار السلطان المغولي هولاكو خان وتم إعدام الخليفة يوم 10 فبراير 1258م. وأصبحت بغداد مرة أخرى مدينة صغيرة. كانت تلك نهاية مدينة انبثق منها إشعاع ثقافي وعلمي هائل. وكانت قد مرت على موت لبن رشد ستون سنة تقريبا.
لا يسعنا إلا أن نلاحظ راهنية هذين الانحطاطين، ويمكننا أن نتساءل لماذا نسي العرب ابن رشد لقرون عديدة، حتى العصر الحديث؟ لماذا اقتصر تأثيره بسرعة كبيرة على العالم اللاتيني، وارتبط ارتباطا وثيقا بللفلسفة الأرسطية، ولم يسترجع مكانته الفكرية الكاملة إلا في القرن التاسع عشر؟
الظروف السياسية والأحداث التي ذكرناها للتو تسمح لنا بتوضيح أنه في الشرق والأندلس لم تكن اهتمامات العرب الكبرى تتعلق بالعلم والفلسفة خلال هذه الفترات المضطربة. ولكن قد يكون هذا أيضا بسبب طبيعة عملهما ونقلهما، التي سنحاول تتبع بعض جوانبها.
وُلد ابن رشد في مجتمع شهد تبادلات ثقافية وفكرية مهمة بين الطوائف الثلاث الرئيسية الموجودة في الأندلس آنذاك: المسلمين، اليهود والمسيحيين. لقد عاشوا في وئام وتوادد إلى حد ما حسب الحالة ووفقا للمكان، في سياق صراع بين سيطرتين، سيطرة المسلمين القائمة منذ عدة قرون، وهيمنة المسيحيين الذين سعوا إلى تمديد وتوسيع منطقة نفوذهم. ورغم ذلك، كانت الاتصالات والتبادلات عديدة. تم الكشف عن الجيل الأول من المترجمين، في السنوات 1130م-1150م، وهي سنوات طفولة وشباب ابن رشد، من قبل يوحنا الإشبيلي وهيرمان الكورنثي على وجه الخصوص. ثم ما لبث، في مدينة طليطلة التي “استعادها” المسيحيون عام 1085م، أن تطور نشاط ثقافي مكثف زمن أسقفية كاستلمورون (1152-1166) شبيه بما أنتجه ابن رشد من أعمال أولى حول أرسطو: المختصرات والجوامع (1158م-1160م).
لهذا الأسقف، على وجه الخصوص، تمت نسبة ترجمة كتاب الشفاء وكتاب النحاة (De anima) لابن سينا ، ومنذ منتصف القرن الثاني عشر جعل المترجمون النشطون في طليطلة من المدينة مكانا رئيسيا لنقل التراث العلمي والفلسفي العربي إلى اللاتين.
إن نشاط مركز الترجمة هذا موثق جيدا، ولا سيما الطريقة التي تم استخدامها عندما لجأ المترجم، للانتقال من العربية إلى اللاتينية، إلى وسيط، غالبا ما كان يهوديا أو مستعربا، لا يعرف جيدا اللغة اللاتينية، ولكنه يجيد اللغتين العربية والإسبانية.
من بين هؤلاء المترجمين، اكتسب بعضهم شهرة كبيرة. أهمهم بلا شك جيراردو الكريموني، الذي تجاوز عدد ترجماته 71 بشهادة تلاميذه، حيث تُنسب إليه اليوم 87 ترجمة، وتوفي عام 1187م، بعد أن ترجم أعمال أرسطو وشارحيه، وكذلك أرخميدس، أوقليدس، بطليموس، أبقراط وجالينوس، الكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم كثير.
يجب ذكر مترجمين آخرين سنحت لهم الفرصة بأن يشتغلوا سويا. هكذا نجد دومينيك كونديسالفي، اليهودي إبراهيم بن داود من جهة بالنسبة لترجمة كتابي “الشفاء” و”النجاة” لابن سينا، “المعلم يوحنا” من جهة أخرى (ربما هو من رهبان كاثيدرائية طليطلة)
بالنسبة لترجمة أبي حامد الغزالي وسليمان بن جبيرول.
استمر عملهم حتى القرن الثالث عشر الميلادي: مما قبل 1220م على يد مايكل سكوت (توفي قبل 1236م)، وإلى حوالي 1250م على يد هرمان الألماني. الأول، بعد أن افتتح نشاطه في طليطلة كمترجم من العربية إلى اللاتينية، ذهب إلى نابولي حيث يبدو أنه بدأ بين 1225م و 1230م ترجمة أعمال ابن رشد. لكن من الممكن تماما أن تكون بعض الشروحات لأعمال أرسطو التي قام بها القرطبي معروفة في وقت سابق، إذا أخذنا في الاعتبار تاريخ الانتهاء منها (قبل حوالي أربعين عاما)، وإمكانيات النشر الموجودة في الأندلس ثم في نابولي، روما أو أكسفورد.
مهما كان الأمر، فإن قائمة المخطوطات اللاتينية التي تحتوي على شروحات ابن رشد لأعمال أرسطو تبوئ ترجمات مايكل سكوت مكانة هانة. يُنسب إليه الشرح الكبير لكتاب “الطبيعيات” (رقم 105 ) ، الشرح الكبير لـكتاب “السماء” (106)، الشرح الأوسط لـكتاب “الكون والفساد” (109)، الشرح الاوسط للكتاب الرابع من “الآثار العلوية” (110)، الشرح الكبير لـكتابي “الشفاء” و”النجاة” (111)، وجامع عن “رسائل موجزة في الطبيعة” (112115)؛ وبيقين أقل، جامع عن “أجزاء الحيوان”
(116-119) والشرح الكبير لكتاب “الميتافيزيقيا” (126). وهناك عدد لا يستهان به من الأعمال الهامة من قبل الإسطاغيري جنبا إلى جنب مع الشروحات التي أدلى بها ابن رشد.
بالنسبة إلى هيرمان الألماني (توفي عام 1272)، فقد ترجم في منتصف القرن الثالث عشر الشرح الأوسط لكتاب “الخطابة” (رقم 103 ) والشرح الأوسط ل”فن الشعر ( 104)، والذي يرجع تاريخه إلى عام 1256 في طليطلة.
فضلا عن ذلك، في طليطلة، مارس هيرمان نشاطه، كما أشار هو نفسه من خلال التوقيع، يوم 3 يونيو 1240، على ترجمته للشرح الأوسط لكتاب “الأخلاق إلى نيقوماخوس” (127)، الشرح الذي ذكر في نفس الوقت تاريخ فراغ ابن رشد من تأليفه وهو سنة 572 هجرية”؛ أي 1177 ميلادية. نحن مدينون له أيضا بالترجمة اللاتينية لبداية شرح الفارابي ل”خطابة” أرسطو.
(يتبع)