وجهة نظر

ما معنى أن تكون يساريا اليوم؟ (الجزء الثاني) منير الطاهري

النظام الرأسمالي لن يسقط من تلقاء نفسه بسبب تلك العيوب، لكنه يحتاج إلى فعل سوسيولوجي؛ أي إرادة الجماهير للمطالبة بنظام إنتاجي أقل سوءا، وهو الفعل الذي يتأتى من خلال العمل الاحتجاجي والمشاركة الديموقراطية في انتخاب الأحزاب التي تحمل مشروعا تدبيريا يساريا، يحد من بشاعة هذا النظام الإنتاجي ويعيد توزيع فائض القيمة لفائدة الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
المشروع التدبيري الاشتراكي الجديد الذي يحمله المناضل اليساري يكمن في وضع إجراءات وقوانين تضمن العدالة الاجتماعية والمساواة والضغط بقوانين جديدة لتوجيه فائض القيمة إلى صناديق لتأمين التماسك الاجتماعي ولوضع برامج ابتكارية لتكثيف الانتاج بشكل يضمن استدامة العنصر البشري والحفاظ على البيئة. الطريق إلى ذلك لن يكون اشتراكية التأميم، بل تقوية الأدوار الرقابية والتأطيرية للدولة في مراقبتها للقطاع الخاص بواسطة نظام ضريبي جديد للحد من السلوكات الاستهلاكية الرعناء؛ أي الضريبة على الرفاهية والبدخ أولا وهي المطلب الأساسي ليساريي اليوم .
دور المناضل اليساري اليوم هو إجبار النظام الرأسمالي على التراجع عن توجهه المتوحش المنساق نحو موجة تسليع الخدمات الأساسية ، وهو مطالب هنا بتعميق فكره وتصوره لمفهوم الخدمة الأساسية والحد الأدنى من الخدمات الأساسية غير القابلة للتسليع، و خصوصا آليات ضمان حق الولوج إلى هذه الخدمات من طرف الجميع. ويتعلق الأمر بالمرافق العمومية الضرورية للعيش المشترك؛ أي مرافق التنشئة الاجتماعية والتمهين والصحة والشرب والغداء والأمن والسلامة، والتقليص من مظاهر الحرمان الاقتصادي والاجتماعي. وهو بذلك مدعو لوضع معايير علمية لتحديد مفهوم الخدمات الأساسية غير القابلة للتسليع وفصلها عن خدمات السوق ذات المنطق الربحي والتنافسي.
ضمان هذه الخدمات، يتطلب وجود مقاولة مواطنة وعمومية مكلفة بأداء الحد الأدنى من الخدمة وتطويرها وابتداع آليات التمويل المستدام لهذا النوع من الخدمات وذلك بخلق أجهزة مالية كفيلة بتمويل الخدمة الشاملة.
من خلال ذلك يتضح أن المناضل اليساري اليوم، مطالب أكثر من أي وقت مضى بتعميق تفكيره والحفاظ على يقظته وانتباهه للحفاظ على موقعه إلى جانب الطبقات المستضعفة والفقيرة والمهمشة، كما أنه مطالب بتقديم تصور اقتصادي لفائدة هذه الطبقة والدفاع عنه؛ أي وصع تصور متكامل لاقتصاد تضامني اجتماعي بتشجيع أساليب الإنتاج التعاوني لفائدة صغار الملاكين والفلاحين والمهنيين وأرباب الحرف والصناعات التقليدية، وتشجيع أسواق بديلة لفائدة المنتوج التعاوني وإعادة هيكلة الاقتصاديات المهمشة.
دور اليساري هو الاستمرار في التشخيص الملموس للواقع وإعداد رؤية مستقبلية قابلة للتحقق عن تدبير العملية الانتاجية وتوجيه فائض القيمة لفائدة العمال، وضمان العيش الكريم لمواطني الدولة الاشتراكية.
وإذا بحثتا في الأصول التاريخية لمصطلح يسار نجد أنه يعود إلى تاريخ 28 غشت 1789 حيث كان النواب الفرنسيون المعارضون لنظام الملكية المطلقة في فرنسا يختارون الجلوس يسار رئيس الجمعية الوطنية.
كانت موافق هؤلاء النواب معروفة برفضهم لنظام الامتيازات واللامساواة الاجتماعية وكانوا وراء ابتكار مبادئ الثورة الفرنسية: المساواة الإخاء والحرية.
إلى حدود اليوم مازالت هذه هي المباديء التي تحكم اليسار الفرنسي والتي أضاف إليها مبدأي العلمانية وحماية البيئة.
في بلدان الربيع المغاربي أو ربيع بلدان الجنوب، سيصوغ اليسار ثلاثيته الشهيرة: حرية كرامة عدالة اجتماعية.
وقد شكل الفكر الاشتراكي القائم على المبادئ الماركسية مرجعية أساسية للأحزاب اليسارية لتخيلص الطبقات المتضررة من استغلال البرجوازية الناشئة حينها، لدرجة اعتبر جوريس بأن ظهور الاشتراكية يكاد يكون ذاك الوحي الديني الكبير الذي جاء لانقاد هذه الطبقات.
رغم اتفاق أحزاب اليسار حول الهدف الكبير أي : الاشتراكية كشاطئ نجاة للطبقة العاملة فإن أسلوب الانتقال إليها بقي محل اختلاف كبير.
حيث اعتبر البعض أن وسائل هذا الانتقال هو ثورة الطبقات المسحوقة وفرض نظام اشتراكي أساسه دكتاتورية البروليتاريا،
بينما اعتبر فريق أخر أن الديموقراطية والإصلاح المرن للنظام السياسي واحترام الحريات الفردية هي الوسائل الممكنة لتحقيق هذا الانتقال.
هذا الاختلاف سيصل صداه إلى مؤتمر الطبقة العمالية المنعقد بمدينة تور الفرنسية سنة 1920 حيث سينقسم اليسار إلى اتجاهين : يسار ثوري منجدب إلى ما حققته الثورة البلشفية في الشرق الأوروبي ويتبنى الماركسية اللينينية كمنهجية للتغيير، ويسار فرنسي ديموقراطي سيواصل صموده ونضاله الديموقراطي إلى أن وصل للسلطة سنة 1981.
(يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى