ما معنى أن تكون يساريا اليوم؟ (الجزء الثالث والأخير) منير الطاهري

– موقع ودور اليساراليوم :
اليوم اليسار مازال يناهض الرأسمالية، العولمة واقتصاد السوق دون أن يقدم بديلا أو تصورا عن نموذج الدولة الاشتراكية البديلة التي قد تشكل تصحيحا واستمرارية لنموذج الدولة الاشتراكية التي بلورها اليسار عبر قرن من الزمان والقائمة على مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا وتأميم وسائل الانتاج.
– ماذا تبقى من اليسار إذن؟
اليسار االفرنسي الديموقراطي والذي لم يعلن قطيعته مع النظام الرأسمالي لا نجد في مرجعياته أي إشارة إلى هذا المفهوم، كما أن البلدان الاشتراكية السابقة أصبحت تتسابق لإنجاز إصلاحات اقتصادية متسارعة نحو التحرير وضد سياسة التأميم.
فهل أصبحت الاشتراكية اليوم مفهوما مبتذلا متجاوزا؟ وألم يبق للأحزاب اليسارية من دور سوى ضمان الاستمرارية والحفاظ على نفسها من الاندثار؟
هل أصبحت الأحزاب اليسارية مجرد أداة في يد السلطة الرأسمالية الحاكمة لتخفيف حدة الاحتدام والتوتر بين الطبقات؟
أم أنها مازالت قلاعا للمناظرة والتأطير لضمان الاستمرارية وإعادة التفكير في الحلول البديلة والتفاعل مع المواطنين لإيجاد هذه الحلول؟
– مستقبل اليسار اليوم
أمام التطورات المتسارعة التي عرفها العالم يمكن لنا أن نطرح نفس الأسلة التي طرحها “جان جوريس” قبل مائة عام : كيف لنا أن نحافظ على حماسنا وتأهبنا لمواجهة الويلات العظيمة القادمة أي المجاعة والأمراض، والحروب، و البطالة وانعدام الأمن الوظيفي، وضعف القدرة الشرائية، والأصولية الدينية والإرهاب وانعدام الأمن والهجرة والعولمة والتلوث؟ كيف لنا أن ننظر إلى هذه القضايا الجديدة ونقترح حلولا لها في إطار الدولة الاشتراكية المأمولة؟
مقابل ذلك، نجد أن النظام الرأسمالي الجديد أصبح يقدم أجوبة براغماتية وملموسة حول سبل تحسين الظروف المعيشية في الجزء الشمالي من العالم، رغم الركود أو التراجع الذي تعرفه بلدان الجنوب، إذ لازال عدد الأشخاص الذين يعيشون على أقل من يورو في اليوم في تزايد مستمر.
نحن، إذن، في عالم لامتكافىء، يعرف حالات مهولة من البؤس الاجتماعي المصحوبة بحرمان من الحاجيات ومن حق الولوج إلى الخدمات التي يقدمها السوق، وخصوصا تلك الخدمات التي تتسم بجودة عالية.
إن مستقبل اليسار اليوم يكمن في تقديم مشروع مجتمعي جديد ومتجدد ينهل من الزاد النظري المهم الذي تركه “كارل ماركس” و”فريديريك انجلز” و”جان جوريس” وعدد من الرواد الذين فكرو قبلنا في معضلة استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
هذا المشروع المجتمعي لابد أن يكون طموحا ويقدم إجابات واضحة ذات مصداقية لإعادة الاعتبار للحس الجماعي والتشاركي، وأن لايستسلم كليا للأطروحات اليمينية التي تسعى إلى التحرير الكامل للسوق
وهو في ذلك:
– يحتاج إلى الوحدة والاتحاد وتجميع المكونات التي مزقتها صراعات هامشية خلال تاريخه؛
– يحتاج إلى بناء مشروع متكامل للإجابة عن قضايا العالم اليوم؛
– يحتاج إلى وضع استراتيجية عمل شاملة وتسطير منهجية عمل للقرب من الناس. ولوضع هذه الاستراتيجية والمنهجية لابد له من :
أولا: استحضار التاريخ والمبادئ المشتركة الرامية إلى تحرير الإنسان من الاستغلال الناجم عن غياب المساواة الاجتماعية التي تعمل الطبقة المستغلة على تكريسها بواسطة السيطرة والعنف والتمييز الاجتماعي بسبب الجنس أو اللون والتمييز الاجتماعي بسبب عدم امتلاك القدرة المالية أوبسبب إعاقة بدنية.
من هنا فإن المشروع اليساري اليوم محوره هو الإنسان وتحرير هذا الإنسان من كل أشكال الاستغلال أو التمييز.
ثانيا: الوفاء للقيم اليسارية وذلك ما يقتضي من يساري اليوم الحرص على تطابق وتماهي أفكاره ومبادئه مع أفعاله؛ أي أن المبدأ الأول للمناضل اليساري هو أن يعيش أفكاره في سلوكه اليومي وأن لايجد حرجا في الاعتراف بالخطإ إن وجد نفسه في مرحلة ضعف أو أنانية جعلته يتجاهل مسؤولياته المشتركة. إنه الشخص الذي يعطي القدوة للآخرين في التزامه بالقيم والمبادىء التي يؤمن بها والثبات على كلمته وتعهداته ووعوده.
ثالثا: المناضل اليساري اليوم مدعو لأن يكون ذالك المثقف العضوي الحذر والمندمج الذي يعمل باستمرار على تحيين معلوماته وثمثلاتة للعالم المحيط به. ومن هنا فإن وعي المثقف العضوي بهموم طبقته يعني مشاركته وحضوره الدائم في حلقات النقاش المجتمعية وتقديم انتقاداته المؤسسة على مرجعيات علمية. غير أن ذلك لا يعني استقلالية هذا المناضل عن التنظيم بسبب امتلاكه للأدوات العلمية التي هي أدوات مستقلة بطبيعتها عن السياسي، ولكنها تعني الالتزام التنظيمي في إطار الدفاع عن الأفكار التقدمية التي تهدف إلى تحرير الإنسان من آفة الاستغلال.
رابعا: تبني الواقعية في التحليل وذلك بالاستفادة من الأخطاء التاريخية التي وقعت فيها اشتراكية التأميم بسبب استبعاد المعالجة الديموقراطية للمشاكل المطروحة. كما أن هذه الواقعية تتطلب إيجاد أجوبة كافية لإشكاليات التحرير الاقتصادي والعولمة، أجوبة تجعل من هذين الخيارين أكثر عدالة اجتماعية.
.- خامسا: التفكير في الأفق الاشتراكي من منظور عالمي يأخد بعين الاعتبار التطورات التي تعرفها بلدان أخرى في أمريكا اللاتينية وفي بعض البلدان الإفريقية والتفكير في هذا الأفق للإنسانية جمعاء وليس للطبقة العاملة وحدها.
إن الانتقال من الرأسمالية الصناعية إلى الرسمالية البنكية والمالية سيكون له أثر بارز على هذه التحولات لأنه مع نهاية التمانينات ستصبح الأسواق المالية هي التي تتحكم في المقاولات وهو انتقال من نظام انتاجي يديره رب للعمل ويعمل على مراكمة فائض القيمة بهدف الرفع من انتاجية وربحية المقاولات إلى نظام يحدده السوق المالي وشروط ووسائل تمويل المشروع ونسبة الفائدة
وبالتالي أصبحت المردودية المالية للرأسمال أكثر أهمية من وسائل الإنتاج الأخرى؛ أي العمل والتنظيم وهو ما دفع بالمقاولات إلى تقليص الأجور والمصاريف الممنوحة لأنظمة التقاعد، وكان له وقع مباشر على وضعية العمال، خصوصا مع تنامي مقاربة التخصص الانتاجي التايلوري وتنميط اليد العاملة، وإحلال نماذج جديدة لعقود الشغل أكثر إدلالا للعمال واستبعادا لهم من نتائج فائض القيمة في سبيل تحقيق ظوابط قارة لسوق الشغل قادرة على امتصاص جميع أشكال احتدام الصراعات الطبقية بواسطة تخفيف ممنهج ومتحكم فيه لمعاناة الطبقة العاملة من مظاهر الحرمان
– مرحلة التسويق القصوى للدولة والمؤسسات واليد العاملة والأحزاب
كذلك، وفي ظل العولمة أو الشمولية سيتم تعميم معايير التسليع الشامل انطلاقا من اتفاقيات تحرير التبادل التجاري وفرض معايير المنظمه العالمية للتجارة في تدبير الخدمات الاجتماعية وتحديد أدوار الدولة في مواجهة السوق وتسريع رواج الرساميل والبضائع عبر العالم.
الرأسمال في صيغته الشبكية الجديدة يتطلب إعادة التفكير في توحيد مطالب الطبقة العمالية عبر العالم وتوطيد أواصرها بواسطة الدفاع عن طبقة وسطى متحدة مع العمال وصغار الملاك والتجار والفلاحين و قادرة على الانتقال من فكر الاشتراكية الديموقراطية إلى فكر الاشتراكية التوزيعية.
تتمثل أدوار اليسار اليوم في مواصلة هذا العمل الوحدي بين الطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة.
التعليم هو محور عمل اليسار اليوم لأنه يساهم في تحرير الطبقات الفقيرة من الاستغلال ويلهمها الكفاءة العالية للمساهمة في تنظيم العملية الانتاجية بدل البقاء في أسفل السلسلة والاستمرار في مستواها التقني واليدوي، ومن هنا فإن الدفاع عن المدرسة العمومية وتطوير العرض المدرسي في الأحياء الفقيرة والمناطق النائية يعتبر المحور الأساس للبرامج الانتخابية اليسارية.
ويبقى الدور الجديد ليساريي اليوم هو محاربة التفاوت الاجتماعي من جذوره…