وجهة نظر

عبد الرحيم الجامعي الأستاذ النقيب قدوة المحاماة في المغرب بقلم أحمد الخمسي

في قلب الأوضاع 48

ذات يوم صادفتني العزيزة سميرة بوحيى مع شابة في باب الحد بالرباط، سلمنا، ولما افترقنا عرّفتُ الشابة على من تكون سميرة، مرت السنوات ربما سبعاٌ، ساعتها تحملت تلك الشابة متاعب السفر، لتحضر يوم الاقتراع إلى مسقط رأسها لتصوت على اللائحة التي تترأسها نبيلة منيب.

وقبل أيام، حضرنا في مناسبة زفاف العزيزين شيماء وأسامة، بتطوان. وبعد أسبوع من ذلك، حضرت نفس الشابة إلى تطوان، وهاتفتني لتسلمني نسخة حيث إهداء المؤلف باسمي، وليس المؤلف سوى الأستاذ المحامي النقيب عبد الرحيم الذي آزرني لما كنت معتقلا ضمن ملف المنظمات السرية اليسارية.

أتصفح الآن، كتاب ضخم من 656 صفحة، في طبعته الثانية، سلمته لي الأستاذة سعاد حضري مشكورة، من هيأة المحاماة بالقنيطرة، حيث الإهداء الثمين من المؤلِّف، الأستاذ النقيب عبد الرحيم الجامعي. تاريخ الإهداء 17/3/2023.

أتذكر مارس 1976، كان الأستاذ النقيب عبد الرحيم الجامعي، يزورني في سجن اغبيلة بالدار البيضاء. طريقته في السؤال عن أحوال المعتقلين، عن مجريات التحقيق معي سابقا في الاعتقال الاحتياطي، عندما كانت المساطر في عهد الحكم الفردي المطلق تجيز للسلطة أن يقبع المعتقل أكثر من سنة أو سنتين، وكانت ساعتها جمعية هيئات المحامين، المتراس الأول للدفاع عن حقوق المعتقلين، لما كانت مدرسة معتقلي سنوات الرصاص، خلقت من المعتقلات معاهد لتكوين قيم الوفاء والصبر والمزيد من نكران الذات. بحيث أصبح النضال من أجل الكرامة والحرية داخل السجون، نمط عيش يومي. بعض الأساتذة الجامعيين الذين كانوا يتشرفون بتدريس ولي العهد ساعتها، هم الذين شرفونا بالإتيان حتى السجن لامتحاننا شفويا. كانت المرحلة صعبة وخيالية من حيث ظروف الاعتقال وأساليب التنكيل بالمعتقلين للنيل من معنوياتهم، لكن رسوخ القناعات والقيم كان يتصلب أكثر مع الوقت، وبالضبط صمودا ضد القهر والتنكيل. ولأن الاعتقال في كل تجارب النضال السياسي في كل أصقاع العالم وقت درس وتحصيل وتقييم الأساليب، فقد استفدنا كثيرا من مدرسة السجن تلك.

كانت زيارة الأستاذ عبد الرحيم الجامعي درس الدروس. لم يكن يمارس السياسة خلال زيارته، كان فقط يتقن مهمة مؤازرة المحامي للمعتقل السياسي، المثقل بصك اتهام ضمن الملف العام الموجه ضد ثلاث تنظيمات سياسية سرية، والمهتم – في منطوق القانون- برئ حتى تثبت إدانته. على أساس براءة المتهم المبدئية كان يتصرف الأستاذ الجامعي. ولتكن ما تكون قناعاتك الايديولوجية ومواقفك السياسية. لم يكن الأستاذ عبد الرحيم الجامعي يدري أنه يلقنني درس الفرز بين قناعاتي السياسية وبين حقوقي كمواطن معتقل، وفي نفس الوقت كان يرسم في مسار المؤازرة، أسلوب المؤازرة المحايدة الأكثر قدرة على الاستمرار كأخلاق محاماة، فكان ساعتها يغذي سلطة القضاء بمهنية وحيادية و”سيادية”. لم يكن يبدي مبالغة في التعاطف مع مواقفي، وبالتالي كان يلقنني صيغة النضال الموضوعي من أجل تحديث السياسة بلا سجال. ولا حقد وبمعادلة لا مبالغة ولا تقصير. فقط، إنسانيته المتدفقة، وتوازن معاملته، وعدم تخلفه عن مواعد الزيارة، هذا الانتظام المهني هو الذي كان يزرع صورة المحامي النزيه في مخيلتي. وتلك الصورة هي التي بقيت في ذهني عن الأستاذ عبد الرحيم الجامعي. ومنه تعلمت أن أفصل بين المواقف السياسية

من جيله كمحامي، من القلائل الذين بقوا حاضرين، ليس فقط كمحامين مؤازرين، بل كمحامين نزهاء فقط، غير مترددين فقط، بلا أهداف وصولية فقط، بلا شبهة فقط، بلا تورط في المضاربات المهنية والسياسية فقط. وفقط عظماء. ومتواضعين فقط. لم يزايد على طرف في خضم الصراع السياسي. في كل مرحلة، بقي يمسك بميزان النص القانوني. يفسره لفائدة براءة المتهم وعلى القاضي تتمة المهمة وفق ضميره. لم يستقو ضد أحد لفائدة أحد بغير ما يصرح به القانون.

وبالعودة إلى الكتاب موضوع الذكر ها هنا، نجد العنوان نفسه يلخص مسيرة الأستاذ عبد الرحيم الجامعي= “دفاعا عن المحاكمة العادلة”. في توطئة الكتاب، يكرر الفقرات بجملة اسمية تبدأ بعبارة= أنا مدين للمحاماة. أستاذ نذر حياته للمؤازرة النزيهة يصرح= أنا مدين… لم يكفه العطاء طول حياته، ولكنه ما زال يعتبر نفسه مدينا للمهنة. “أنا مدين للمحاماة” عنوان التوطئة. وعند التوقيع يكتب “عبد الرحيم الجامعي”…هكذا…بلا أي توصيف إضافي…تلك علامة أخرى على روح “الكفاف والعفاف” عند واحد من أقدم نقباء المحامين في المغرب. يستحق لو كان التشبيه يقبل تعبير الماركة المسجلة مع تصنيف إيزو، لكان من كل ماركة نسخ أصلية، ولكانت صفة “صُنِعَ  في المغرب”.

هو عنوان قيم مرحلة بكاملها، عنوان قدوة، عنوان نزاهة وتجرد. ونسخة أصلية من مهنة المحاماة التي نبتت مغربية مأئة في المائة.

فخلاصة السلطة القضائية في البلدان الديمقراطية، لم تصبح السلطة القضائية مستقلة ومن أعمدة سيادة الدولة لتتفرعن وتستقوي على السلط الأخرى. بل، لتضمن للفرد المواطن تحت سقف الدولة، السلامة من شطط كل سلطة، إدارية كانت أو مالية أو اجتماعية أو ثقافية. فالقضاء مثل الماء النقي الذي يصبن كل الأثواب وكل الأشياء من وسخ الظلم والشطط.

وأمثال الأستاذ عبد الرحيم الجامعي، هم الذين بنوا ركن المحاماة ضمن صرح القضاء، على أسس صلبة قوامها النزاهة والترفع عن الاستثمار السياسي الأناني للسمعة المهنية. فقد صار قدوة المحامي الذي يترافع ويتواضع ولا يتجبر أو يستغل ويترفع. أما أن يغني المكتبة القانونية بمرجع ضخم فتلك علامة فارقة على معدنه الصبور المنتج لما تفتخر به محاماة المغرب في خزانة الاجتهاد القضائي.

ومن أمثاله، تعلمت أن ألتزم بالمواقف دون خلط مع أنانية “المجد” السياسي. وما ركبت رأسي ضد أحد يوما، وكم يوما وسنة مرت، لألاحظ المواطن الشهم، الصديق عيسى أشرقي، زعيم العدل والإحسان في أيام خلت. تبادلنا التحية عن بعد بفعل زحمة الطريق في تطوان هذه الأيام.

أما الشابة التي حملت معها نسخة الكتاب المرجع في الأحكام القضائية، فليست سوى الشابة، الوزانية الغزاوية، التي عضت بالأناجد، وهي في وضعية اليتم، لتصبح محامية ضمن إحدى هيئات المحاماة بالمغرب. إنها بنت العم الأبي، الذي كان صارما صلبا، عنوان الكرامة. من أمثاله، تشربنا الكرامة وعدم التبعية لأحد.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى