ثقافة و فن

قصة: “لا بد لواحد من ثانٍ” د.عثمان المنصوري

لم يكن لدى السي أحمد ما يكفي من الوقت للذهاب إلى المنزل، وارتداء لباسه التقليدي من أجل أداء صلاة الجمعة في المسجد، ولذلك قرر أن يتوجه مباشرة إلى أقرب مسجد إليه. أمسك بكيس نظيف في الباب ووضع فيه حذاءه بكل عناية، ثم دخل إلى المسجد، واختار مكانا قريبا من الباب، ليتسنى له الخروج فيما بعد بسلاسة، كما تخير لحذائه مكانا واضحا أمام ناظريه لمراقبته عن بعد، خوفا عليه من السرقة، ثم صلى تحية المسجد، وجلس يستمع بخشوع إلى خطبة الجمعة. سبق للسي أحمد أن تعرض لسرقة نعله (بلغته) في المسجد، ولذلك كان يحرص دائما أن يدخل المسجد بخف قديم لا يكترث له أحد، ولا يطمع فيه لصوص المساجد.
سارت الأمور سيرا عاديا، وقام الناس للصلاة، فبدأت الفجوات تظهر في الصفوف والناس يتسارعون إلى ملئها، ووجد السي أحمد نفسه، متقدما إلى الأمام، وفاقدا في نفس الوقت إمكانية مراقبة حذائه. أدى الصلاة، وباله مشغول ومتوجس من أن يتعرض حذاؤه للسرقة. كان حذاء غاليا، اشترته له ابنته لبنى من لندن بثمن يعادل ربع أجرته، وأحضرته له هدية. وما أن سلم الإمام حتى نهض ميمما شطر المكان الذي وضع فيه الحذاء. كان عليه أن ينتظر دوره بين جماعات المصلين الخارجين، وحين وصل إلى المكان، لم يجد حذاءه. حدث ما كان يخشاه، ويتجنبه منذ سنوات. جال بعينيه في أيدي المصلين الخارجين، وتدافع معهم للخروج عله يجد السارق ومعه الحذاء، ولكنه لم يعثر على حذائه بين الأحذية المرفوعة في الأيدي أو تلك التي ينزلها أصحابها قبل الخروج بها.
ظل على هذا الحال لفترة، وأفواج الخارجين تتناقص، وعاد إلى مكان الأحذية من جديد وهو يمني النفس بأن يكون أحدهم أخذه خطأ ثم أرجعه إلى مكانه. لمحه صديقه الدكتور إبراهيم من بعيد، فقدم إليه وسلم عليه، وسأله عن حاله، فأخبره بما وقع، وإن كانت حاله في الحقيقة تغني عن أي جواب. لم يبق في المكان إلا خف قديم مهلهل، هو ما تركه السارق بدون شك، فأخذه الدكتور إبراهيم من يده، مهونا عليه الأمر، وقال له:
– هيا، لقد قضي الأمر ولا معنى لوقوفك هنا.
– يا صديقي، “بقات فيَّا الشمتة”. لقد كنت واعيا بضرورة الحذر، خاصة أن الحذاء غال، ومغر بالسرقة.
– هدئ من غضبك، اذهب الآن واسترح وتناول غذاءك، وسأمر عندك بعد العصر لنرى ما يمكن القيام به.

عاد السي أحمد إلى منزله، وهو في حالة شديدة من الغضب والندم، تتقاذفه الأفكار والهواجس، ولم ينبس ببنت شفة، وكان واضحا لزوجته أنه ليس في أحسن حالاته فتجنبت الحديث معه، وسارعت إلى إعداد طعام الكسكس الذي يحبه، والذي تعده له كل جمعة. تناول طبقه المفضل على مضض، وبعد ذلك أخبرها بما وقع، إلا أنها لم تلمه، بل خففت عنه ببعض الكلمات المأثورة التي تعرف كيف تستعملها في وقتها: “تخطى الراس وتجي فين بغات”، وطلبت منه نسيان الأمر، وأخْذَ قيلولة يريح بها نفسه، ويخفف من قلقه.
بعد أذان العصر، وصل صديقه الدكتور إبراهيم، وطلب منه الخروج معه للبحث عن الحذاء المفقود. فسأله في يأس:
– أين تريد أن نبحث؟
– لدي فكرة، تعال معي .
أخذه صديقه في سيارته إلى سوق مشهور للمتلاشيات والأشياء القديمة والمستعملة، وفي الطريق أخبره بأن هذه السوق هي عادة أول مكان يقصده اللصوص لبيع مسروقاتهم، بأبخس الأثمان.
– يا أخي، حذائي اشترته ابنتي بمائتي وخمسين أورو، ولم أستعمله سوى بضع مرات، فكيف يباع أو يشترى في هذه السوق.
– لن نخسر شيئا بالذهاب إلى السوق، ولنعتبرها جولة للترفيه عن النفس.
– أنا لا تهمني قيمته المادية، ولكنه حذاء عزيز علي لأنه هدية من ابنتي بمناسبة عيد ميلادي.
– أعرف ،ولذلك سنحاول العثور عليه.
قبل ولوج السوق، طلب الدكتور إبراهيم من صاحبه أن يترك الهاتف في السيارة مع معظم نقوده وأشيائه الثمينة، تحسبا لأي محاولة سرقة أخرى. وبعد ذلك توجها إلى السوق وشرعا في جولتهم التفتيشية.
لم تكن العملية سهلة، فالسوق كان مكتظا، والبضائع كثيرة ومعروضة على الأرض، بدون نظام، حيث كل شيء قابل للبيع أو الشراء: أقفال صدئة ومفاتيح من كل نوع وأمشاط تهشمت أسنانها، وأزرار قمصان من كل نوع ولون، ومكواة قديمة تشتغل بالفحم، وأقمصة ومعاطف وسراويل، وجوارب قديمة بعضها بدون زوج، وكراسي بأرجل مهترئة أو ناقصة، وعلب أدوية وآلات قديمة: حواسيب فات زمنها وأجهزة مذياع قديمة أو تلفزة لم يبق منها إلى صناديقها الفارغة، وعلب مناديل ورقية مستعملة، بما بقي فيها من مناديل، مسامير من كل الأحجام، وأوني الطبخ … خليط من المعروضات التي تتفاوت في قيمتها وحجمها، وبعضها لا يمكن تصور وجود من يقبل عليها، ومع ذلك فمرتادو السوق يتفحصونها ويساومون عليها.
همس الدكتور إبراهيم في أذن صاحبه المبهور بهذا العالم الذي لم يسبق له أن ارتاده، وقال له:
– علينا أن لا نضيع الوقت، ونبحث بتركيز على الحذاء ضمن السلع المعروضة، فإذا عثرنا عليه، إياك إياك أن تبدي اهتمامك به. الأحسن أن تتركني أتولى مساومة البائع.
– هل أنت متأكد من عثورنا عليه
– هذا هو السوق الوحيد والمثالي لبيعه، فالسارق لا يهمه منه سوى ما سيحصل عليه من مال.
– ومن سيشتري منه حذاء غالي الثمن؟
– يا أخي. لقد أضحكتني. “باش ما باع السارق رابح”، دع الأمر لي وتعال نبحث بين باعة الخردوات والأحذية.
شقَّا طريقهما وسط الزحام، حتى وصلا إلى صف تباع فيه الأحذية، وشرعا في تفحص المعروضات، وفجأة تراءت للسي أحمد فردة حذائه، مكومة مع مجموعة من الأحذية، فكاد يصرخ عاليا، ثم تذكر نصيحة صديقه، فتماسك ولكز صديقه مشيرا بعينيه إلى فردة الحذاء.
أمسك بالفردة وكأنه يتفحصها، ثم شرع يقلب بين الأحذية عن الفردة الثانية، ولكنه لم يجدها، فعاود التقليب والبحث بدون جدوى، فغمزه الدكتور إبراهيم، ليكف عن البحث، وتولى مهمة البحث والحديث مع البائع.
– السلام عليكم
– وعليكم السلام
– أين فردة الحذاء الأخرى؟
– لا توجد إلا هذه الفردة الجميلة..
– وأين الفردة الأخرى ؟
– لقد بعتها منذ ساعة فقط.
– هل بعت فردة واحدة؟.
ضحك البائع قليلا ، ثم استطرد: نعم، ” آ سيدي كل فول كيجيب لو الله كيالو”
– وكيف ذلك؟.
– اشترى مني الحذاءَ رجل بقدم يمنى واحدة؟ وترك لي فردة الحذاء اليسرى لأنه لا غرض له بها.
– وبكم بعته له؟
– بعته بمائتي درهم، مع علمي بأن قيمته أكثر من ذلك، لا تقل عن 400 درهم، لكن لا أحد في هذا السوق يدفع هذا الثمن في حذاء ولو كان أغلى من ذلك بكثير.
– على هذا الأساس فأنت اشتريته بثمن أقل.
– بيني وبينك، لقد اشتريته بمائة درهم. وربحت فيه مائة درهم .”الله يجعل البركة”
– في الحقيقة “ما عندنا زهر” هذا الحذاء أعجبنا، ولكن فردة واحدة لا تنفعنا ولا قيمة لها. هل اشتريته من شركة أو من بائع معين؟
– لماذا تسأل؟
– ربما كان لدى الشركة أحذية مماثلة له.
– أنا لا أتعامل مع الشركات. اشتريته من شاب يظهر أنه كان في حاجة إلى المال، وحين عرضت عليه الثمن، لم يساوم، وأخذ المبلغ وذهب.
– هل تعرفه؟
– لا. يفد علي يوميا العشرات من الناس لبيع العديد من الأشياء المختلفة، ولا وقت لدي للتعارف معهم.
– هل تعتقد أن هذه الفردة ستجد من يشتريها؟
– أنا في هذه الحرفة منذ سنوات، وبالنسبة لي كل سلعة لها مشتر، وبعضها ظل معروضا عندي لشهور، بل لسنوات، ولكن يأتي دائما مشتر غير منتظر للشراء.
تبادل الصديقان الكلام على حدة، ثم تقدم الدكتور مرة أخرى إلى البائع، وقال له:
– في الحقيقة، هذا الحذاء هو لصاحبي، وقد سرق منه هذا الظهر في المسجد، وقد جئنا نسابق الزمن لنحصل على الحذاء، ولكنك بعت منه فردة وتركت أخرى بدون فائدة.
لم تبد على محيا البائع علامات الدهشة أو الاستغراب، ولكنه رد عليه بهدوء:
– لقد عرفت من البداية أنكما تبحثان عن شيء ضائع، فلدي خبرة طويلة بهذه الأمور، ولست سوى بائع بسيط، يقبل علي عشرات الباعة والمشترين كل يوم، ولا أسأل عن اصلها، لأنها عادة أشياء بسيطة القيمة، فليست ذهبا ولا هواتف غالية الثمن، ولا يعلم ما في القلوب إلا الله. حين أشك في البائع أمتنع عن التعامل معه لأنني في غنى عن المشاكل.
– أفهم موقفك، ولكنني كنت أتمنى أن أجد عندك معلومات عن البائع.
– هو شاب يرتدي لباسا حسنا، وليس من الباعة المتعودين على ارتياد السوق.
– حسنا. وماذا عن الفردة الباقية؟
– لو لك غرض فيها، فخذها بدون مقابل.
– شكرا على صراحتك. وإذا احتجت لي يوما فهذه بطاقة زيارتي.

خرج الصديقان وعادا إلى السيارة، وجلس السي أحمد يفكر ساهما. فقال له الدكتور إبراهيم:
– لا تشغل بالك، الله يخلف عليك، بقي لك من الحذاء ما يمكنك الاحتفاظ به كذكرى عزيزة، وهدية من ابنتك لبنى.
كان الدكتور ينتظر تعقيبا من صديقه، ولكن هذا الأخير أجهش بالبكاء، وكلما حاول تهدئته ازداد إجهاشا، فانتظر إلى أن هدأ وقال له:
– ما هذا يا صاحبي. أعلى حذاء تبكي كل هذا البكاء؟
– لا لا أنا لا أبكي على الحذاء
– وماذا إذن ؟
– ذكرتني فردة الحذاء بأشياء كثيرة. كانت للفردة قيمة حين كانت مجتمعة مع صاحبتها، فلما بيعت لم يعد للفردة الوحيدة أية قيمة.
– ….؟؟
– كان لنا الكثير من الأحبة، غيبهم الزمن أو الموت، هم كالفردة بالنسبة لنا، فقدناهم وفقدنا معهم جزءا منا هو بمثابة الفردة التي لم يعد لها معنى.
– لقد أصبحت فيلسوفا
– الحياة أكبر معلم، والأشياء البسيطة تحرك فينا مكامن الشجن. أبكاني تذكري لوالديَّ. كان أبي وأمي مثل فردتي حذاء، متلازمين، لا يفترقان، يسيران بخطوات متساوية، إن خطت فردة لحقتها الأخرى بانسجام، مشتا في الطرق الصعبة، وغاصتا في الأوحال وارتقتا في المسالك المرتفعة. واجهتا معا كل التقلبات. وفي يوم ما توفي الوالد، رحلت الفردة اليمنى بمفردها، وبقيت الوالدة بعده فردة يسرى، ضائعة حائرة. بدونه لم تصمد إلا ثلاث سنوات، ثم لحقت بفردتها وتوأم روحها.
لقد نكأت جراحا لا تندمل، دعنا من كل هذا، ولْنَطْوِ الصفحةَ، ولْيَنتبِهْ كلٌّ منا لفردته قبل ضياعها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى