تمارة: دور المدرسة في التربية على المواطنة وتحقيق التماسك الاجتماعي (الجزء الثالث)

متابعة: أحمد رباص
ما أن أنتهى الأستاذ الكرعي من كلمته حتى شرع مسير اللقاء في تلخيصها، مذكرا بأنه تناول ازمة التعليم ببلادنا بالاستشهاد بكانت ولينين وفلسفة التنوير. وذكر المسير أن الكرعي أكد أن تعليمنا تعليم طبقي وأنه في ظل استمرار هذه الرؤية الطبقية لا يمكن أن نصل إلى تعليم نراهن عليه لبناء مواطن صالح ومجتمع متماسك، وبالتالي نبقى في حاجة إلى تعليم موحد في مناهجه وبرامجه.
وأشار نور الدين عبقادري إلى أن الأستاذ الذي يشكل الحلقة المركزية في المثلث الديداكتيكي تم استهداف قوته اليومي، الشاهد على ذلك توقيف 203 أستاذا على الصعيد الوطني، ما يستلزم من الجميع الإعلان عن تضامنهم المبدئي مع هؤلاء الأساتذة الموقوفين نظرا لأن المدرسة العمومية شأن عام لا يهم فئة دون باقي الفئات.
بعد ذلك مباشرة، أعطى الأستاذ عبقادري الكلمة للأستاذة بديعة الجمالي التي شاركت وساهمت في تأطير الحراك التعليمي، لتعلن منذ البداية عن تضامنها اللامشروط مع الأساتذة الموقوفين بسبب ممارسة حقهم الطبيعي والمشروع في الإضراب والاعتراض على ما يمس كرامتهم.
عنونت بديعة مداخلتها المندرجة في سياق هذا اللقاء الذي احتضنه مقر فرع الحزب الاشتراكي الموحد بتمارة ب”المدرسة العمومية كنواة لبناء الإنسان: تحليل واقع المدرسة العمومية في ضوء السياق العالمي”.
رأت المتدخلة أن الرأسمال البشري يعتبر عنصرا هاما لتحقيق التطور في كل المجتمعات، ولبنة أساسية وحقيقية يجب استثمارها بالشكل الأنسب، معتبرة إياه ثروة أساسية تستحق الرعاية والعناية المناسبتين مرورا بكل المراحل بدء من الطفولة، لذلك يجب طرح سؤالين هامين: أي مواطن نريد غدا؟ وما هي السبل الكفيلة بتحقيق هذا المبتغى؟
في محاولة للإجابة عن هذين السؤالين، اشترطت الأستاذة بديعة الجواب أولا عن طائفة من الأسئلة الفرعية المهمة في نظرها: أي تعليم يحقق لنا ذلك المبتغى؟ وما هي المقومات الأساسية للمدرسة التي تتيح بأدواتها وأهدافها وبرامجها تحقيق ذلك الهدف؟ وكيف نعدها الإعداد الجيد لبناء المواطن الخلاق والمبدع والمنضبط للأخلاقيات القائمة على المبادئ الإنسانية الكونية والمجتمعية؟
للإجابة عن تلك الأسئلة، استشهدت الأستاذة بمالكوم إكس الذي رأى في التعليم جوازا للانتقال ألى المستقبل، وأن الغد ينتمي لأولئك الذين يعدون له اليوم. كما استحضرت مارتن لوثر كينغ الذي بحسبه يتمثل دور التعليم في إقدار المتعلم على التفكير بعمق وإكسابه الذكاء والشخصية المستقلة. ويمكن القول، تتابع بديعة، إن الدور الأساسي للمدرسة العمومية يتمحور حول بناء الإنسان الذي يفكر خارج الصندوق بشكل إشعاعي وإبراز المهارات الإبداعية التي تساير التطور العلمي بتمكينه من وسائل النقد والتحليل والتمحيص، يحيث ينعكس ذلك بشكل إيحابي على صورة المجتمع الذي ينتظم في إطار سلوكات إنسانية حضارية.
وشددت الأستاذة بديعة على التساؤل حول نجاعة ما تقدمه المدرسة كنواة لتحقيق التعلمات من أجل بلورة شخصية الطفل المراهق وإكسابه الملكات سالفة الذكر.
من الناحية المنهحية، قسمت المتحدثة مداخلتها إلى جزءين. في الجزء الأول وعدت الحضور بالتطرق للسياق العالمي للتعليم، وفي الجزء الثاني بدراسة واقع حال المدرسة العمومية المغربية. وهكذا نبهت في البداية إلى حقيقة موضوعية لا يختلف عليها اثنان، وهي أن العالم أصبح ينحو إلى تثمين الرأسمال البشري اعتبارا للانتقال من اقتصاد الإنتاج إلى اقتصاد المعرفة، مؤكدة على الراسمال الفكري الإبداعي في مجال الابتكارات.
ففي إطار هذا المفهوم الجديد للابتكار وهو الركيزة الأساسية التي يقوم عليها تدبير وتحريك عجلة التعليم، ترى بديعة الجمالي أن ذلك يتطلب التناغم والتوافق مع التطورات التكنولوجية، وأن التحول من الاقتصاد المادي إلى الاقتصاد اللامادي يقتضي تبني استراتيجية ذات شقين يكمل الواحد منهما الآخر: اولا، الزيادة في مصدر توليد ونقل المعارف على المدى الطويل، وهذا ما يقوم به بالضبط التعليم في الدول المتقدمة. وثانيا، بنى تحتية تكنولوجية.
في هذا السياق، أشارت الأستاذة إلى أن هناك نماذج لدول عديدة استطاعت خلق هذا التزاوج وتبوأت المراتب الأولى في التعليم مثل كوريا الجنوبية وفلندا، مؤكدة على ان مدرسة اليوم يجب ان تكون مدرسة ابتكار مرتبطة اكثر بتطبيق المكتسبات المعرفية والمهارية في جميع جوانب الحياة ومنفتحة على محيطها بكل مكوناته ومسايرة للتطور التكنولوجي ومتبنية المقاربات الحديثة في التعليم القائمة على تكنولوجيا المعلومات.
فمن خلال مجموعة من التجارب التي أبرزت أن أساس النمو الاقتصادي هو التعليم، نجحت عدة دول في تطويره بفضل الاعتماد على مناهج تعليمية قائمة على تحفيز مهارة التفكير لدى المتعلم وحل المشكلات والعمل الجماعي مما ساهم في خلق التطور الاقتصادي والاجتماعي وتحقيق العدالة الاجتماعية في تلك الدول.
كما استحضرت المتحدثة تجارب أخرى ركزت على التعلم بدل التلقين والحفظ والاهمام بالمعلمين لتحفيزهم على النهوض بالعملية التعليمية التعلمية وذكرت في هذا المقام هونكونغ كنموذج وسنغفورة التي تبنت نظاما تعليميا يركز على القدرة وأنشأت مدارس التفكير وتبنت إصلاحا آخر شعاره: تعليم أقل وتعلم اكثر، وذلك بالتركيز على التعلمات الأساسية خاصة في المراحل الاولى وعلى الكيف بدل الكم.
في هذا السياق، استنتجت الأستاذة بديعة أنه يتبين من كل هذه التجارب أن الإصلاح رهين بخلق المساحة الكبرى لدى الطفل والمراهق لإعمال العقل والتفكير واستعمال مهارات الابتكار بما يناسب التطورات الحديثة من أجل مواكبة التقدم الهائل الذي يعرفه الاقتصاد العالمي والذي يخلق لا محالة الأمن الاجتماعي.
هذا يحيلنا، في نظر المتحدثة، على التساؤل عن وافع حال المدرسة العمومية المغربية. نعلم أن المدرسة العمومية تلعب دورا هاما في بناء المواطن القادر على الإسهام بشكل ملموس في تقدم البلاد، ولتحقيق ذلك يجب أن يكون في إطار بناء علاقة الثقة بين المواطن والمدرسة. والجميع يعلم أن المدرسة العمومية هي الملاذ الوحيد للأسر ذات الدخل المحدود من أجل الاستثمار في أبنائها الاستثمار المنشود للخروج من براثن الفقر والحاجة والبحث عن المكانة الاجتماعية اللائقة داخل المجتمع.
إذن، بناء علاقة الثقة بين المواطن والمدرسة العمومية رهين بمبدإ نحقيق مبدإ تكافؤ الفرص، وتوفير جميع الظروف الملائمة لتحقيق تعليم جيد للجميع في القرى والمداشر كما في المدن ، وأن يكون تعليما مجانيا ذا نوعية يساهم في النمو المتكامل والمتوازن للمتعلم.
وهنا تتساءل الأستاذة بديعة: هل المدرسة العمومية المغربية تتيح تعليما يزكي ملكة الإبداع لدى المتعلم؟ وهل تركز على مبدإ تكافؤ الفرص بين جميع الاطفال؟
في ما يخص تكافؤ الفرص، الذي يعني الولوج المنصف إلى المدرسة العمومية والحصول على مقعد دراسي بمواصفات مقبولة من الجميع، نجد أن الوصول إلى التعليم رغم إلزاميته يظل صعبا بالنسبة إلى كثير من الأطفال خاصة في العالم القروي ولم يتم تحقيقه بالشكل المطلوب بدء من التعليم الأولي، حيث ما زالت هذه التجربة خجولة تعوزها الإرادة الحقيقية لوضع مناهج موحدة على صعيد جميع الجهات، ولتوفير بنية تحتية مناسبة تسهل الولوج المنصف إليها.
وفي ظل بعد المساكن بالبوادي والقرى عن المدرسة يصعب على الأطفال الصغار الوصول إليها عبر مسافات بعيدة، وبالتالي يتم فرز فئة عريضة من الاطفال الذين لم يستفيدوا من التعليم الأولي ويجدون أنفسهم في السنة الأولى أمام منهاج دراسي يفترض في جميع المسجلين في هذا المستوى المرور بالتعليم الأولي، وهنا ينتفي مبدأ تكافؤ الفرص.
هذا الإشكال نجده على مستوى المدارس الابتدائية والإعدادية خاصة بالنسبة إلى الفتيات في العالم القروي اللواتي ينقطعن عن الدراسة بسبب بعد المسافة وعدم وجود داخليات ورفض الآباء التحاقهن بالمدرسة نظرا لعقليتهم المحافظة التي لا زالت سائدة خاصة في المناطق الجبلية والقروية.
من جهة أخرى، ينعدم التكافؤ في الولوج إلى المدرسة العمومية من حيث المعدات والتجهيزات. فشتان بين تلميذ في الحواضر يرتاد مدرسة مجهزة بجميع الوسائل وآخر في المداشر والبوادي يرتاد مدرسة تفتقد إلى المرافق الصحية والماء الصالح للشرب وسور يحميه من الكلاب الضالة والمتشردين. هكذا يتبين لنا أن مبدأ تكافؤ الفرص بين المتعلمين لا زال حبرا على ورق، تقول بديعة.
وأثارت الأستاذة نقطة أخرى تتعلق بتكافؤ الفرص وهي تلك المرتبطة باختلاف المقررات، معبرة عنها من خلال طرح هذين السؤالين: على أي أساس يتم اختيار المراجع التي يقال إنها ملائمة لكل منطقة ولكل مؤسسة؟ ولماذا هذا الاختلاف من الأساس؟ في جوابها، رأت بديعة أن التبرير المنطقي لهذا المعطى غائب، هناك فقط تحويل المتعلمين إلى زبناء تباع لهم سنويا كتب وكراسات محاباة لأصحاب دور الطباعة والنشر.
في هذا الإطار، ذكرت المتحدثة مؤشرا واضحا وإضافيا على غياب تكافؤ الفرص وهو الاكتظاظ بحيث نجد أن القسم يحتضن عددا من التلاميذ يتعدى في مجمل الحالات خمسين تلميذا؛ وهو ما يؤثر على توزيع المواد الدراسية وعلى حصصها الزمنية ويحول دون التوزيع المعقلن للمواد حتى يستفيد الأطفال من مضامينها.
كما اشارت الأستاذة إلى عدم تكافؤ في الولوج إلى الأنشطة التفاعلية والموازية واستعمال الأدوات التكنولوجية، متسائلة: هل المدرسة العمومية بهذه المواصفات تثير الشغف لدى المتعلم وتحقق له المتعة وتكرس إعماله للتفكير والعقل؟ لتستنتج من الجواب الضمني بالنفي أن شعار تفعيل الحياة المدرسية يظل غائبا في أغلب المؤسسات التعليمية.
وراء هذا الواقع المزري عدة اسباب ذكرت منها المتدخلة ضعف البنية التحتية التي توفر فضاء ملائما للأنشطة الموازية والتفاعلية والرياضية، وإثقال البرنامج الصفي بمجموعة من المواد التي لا تتيح الفرصة لمزاولة أنشطة اخرى، وتركيز جميع المواد المبرمجة على الحفظ والتلقين، وشحن المتعلم بكم كبير من المعلومات دون تمكينه من فرص التفكير والإبداع. وهذا يلمسه الممارسون عن قرب، تختم بديعة الجمالي.
(يتبع)