” كرسي الزعامة لا يقبل القسمة” حلقة 11– د.عثمان المنصوري
كرسي الزعامة لا يقبل القسمة -1-
اليوم 15 ماي، خرجت من مقهى الموعد على الساعة السابعة مساء. لقد قررت أخيرا أن أغادر هذا المقهى إلى غير رجعة، وأبحث لي عن مقهى جديد.
لماذا؟ يقتضي الجواب عن هذا السؤال الرجوع بالذاكرة إلى سنة كاملة، وتتبع التفاصيل التي جعلتني أتخذ هذا القرار.
بدأت علاقتي بمقهى الموعد في منتصف شهر ماي الماضي، حين عرض علي صديقي في العمل مجيد الهواري الملقب بمجيدو، أن نشرب كأس قهوة في هذا المقهى. كان يعرف جيدا أنني لست من هواة ارتياد المقاهي، وأنني عادة ما أعود إلى البيت مباشرة بعد العمل. لكنه ألح علي هذه المرة، ووعدني بأن أقضي لحظات ممتعة مع أصدقائهالطيبين الذين يلتقي بهم يوميا في جو من المرح والمتعة، وفي فضاء جميل ومحترم. فقبلت دعوته، على أساس المجاملة، وأن ارتياد هذا المقهى سيكون لمرة واحدة، ولن يضيرني في شيء.
حين وصلنا إلى المقهى، أعجبني مظهره الخارجي الأنيق، وواجهته الأمامية الكبيرة، والطاولات والكراسي الجميلة المصطفة بانتظام، فهمست لصديقي مجيدو بأنني لا أحب الجلوس خارج المقهى، فأكد لي أنهم جميعا لا يحبون ذلك، وأنهم يجلسون في ركن مخصص لهم داخل المقهى. دخلت مقتفيا أثر صديقي الذي جال بنظره في المقهى، فلمح ثلاثة من أصدقائه في مكانهم المعتاد، وأشار إليهم ملوحا بيده، وتوجهنا نحوهم، ثم قدمني لهم و قدمهم لي واحدا واحدا:
– السي امحمد سليطن، وهو اسم على مسمى، موظف متقاعد، ورئيس المجموعة وقائدها الذي لا تحلو جلساتنا إلا به، وهذا السي بوشعيب بنمسعود موظف في بنك، وهذا عبد القادر المذكوري فلاح وكساب، يملك ضيعة بجوار المدينة، ولا ينقصنا سوى الأخ شفيق المسفيوي، أستاذ الرياضيات.
رحب بنا الحاضرون، وقدموا لي كرسيا بجوار مجيدو، واستأنفوا أحاديثهم بشكل عاد. ولم تمض إلا لحظات حتى وجدت نفسي أنسجم مع المجموعة، التي التحق بها شفيق المسفيوي. كان “سليطن” يتسيد الجلسة فعلا، فهو الذي يحسم في النقاشات، ويعلق عليها، ويسيطر على الجلسة. كان يفعل كل شيء، لإثبات ذاته. يحكي النكت والنوادر، ويتحدث في الكرة والسياسة والفن والثقافة، ويستعرض معلوماته، وكانت له قدرة على الحديث وإدارة دفته، واحتكار الكلمة، وشد الانتباه إليه، يساعده في ذلك صوته الجوهري، وقوة شخصيته وإعجاب زملائه والتفافهم حوله. كانت الجلسة ممتعة حقا، والمقهى من الداخل رائعة، بديكوراتها وأثاثها، والشاشة الكبيرة التي تعرض مباريات كرة القادم، والأخبار من القنوات الدولية، وأحيانا الأفلام الوثائقية حسب ذوق أغلبية الزبائن. كما أنها نظيفة، والخدمة فيها جيدة، والنادل يسعى برشاقة ومرح إلى تلبية طلبات الزبائن، والطاولات متباعدة، تتيح للجالسين التحدث في حرية وبدون حرج.
قبل أن نخرج سألني صديقي مجيدو، هل أعجبتني الجلسة، فعبرت له عن إعجابي الشديد، وبعد أن ودعْنا باقي الجلساء، صرحت له بأنني سأكون سعيدا بالانضمام إلى هذه المجموعة، فهلل لذلك، وأكد لي بأنني لن أندم على ذلك، واتفقنا على أن نذهب إلى مقهى الموعد، في نفس الموعد كل يوم بعد انتهائنا من العمل في الشركة. والتزمت فعلا بالاتفاق، وواظبت مع صديقي مجيدو على حضور لقاءاته مع أصدقائه كل يوم، وأصبحت عضوا سادسا في المجموعة، وبدأت أشعر بأنني لن أجد صعوبة في الانسجام مع أعضائها.
كرسي الزعامة لا يقبل القسمة -2-
بعد انصرام أسبوع، حلت عطلة نهاية الأسبوع، التي أخلدت فيها إلى الراحة، وكانت فرصة كافية للتأمل في علاقتي الجديدة بالمقهى وبالأصدقاء الجدد.
بعد أن زالت هالة الانبهار بالمجموعة والمقهى، وبعد أن استرجعت بعض اللحظات والمواقف التي لم أعرها سابقا اهتماما، وبعد أن تذكرت ما كان يروج في جلساتنا من أحاديث وتصرفات، وما يميز كل الأعضاء عن بعضهم البعض. توقفت عند بعض التفصيلات، مثل حرص الجميع على الجلوس في أماكنهم المعتادة، وكيف أنهم خصصوا لي مقعدا هامشيا، أصبح رسميا، وكأنهم يحددون منذ البداية مكانتي بينهم. كان بوشعيب حريصا على أناقته، ومنظما في مواعيده، ويمضي نصف الوقت معنا ونصفه الآخر مع هاتفه المحول، أما عبد القادر، فكان بدينا وذا حيوية ويستمتع جيدا باللحظات التي يقضيها معنا، ويضحك على أية نكتة بدون تكلف، ومن أعماق قلبه، ولا يلقي بالا إلى لباسه. أما شفيق المسفيوي فهو أستاذ في العقد الرابع من عمره، وهو لا يحترم مواعيد اللقاء، فيأتي أحيانا قبل الوقت وأحيانا أخرى يأتي متأخرا أو يتغيب حسب ما تسمح به مواقيت الساعات الإضافية التي يستعين بها على تدبير مصاريف المنزل. وأما صديقي مجيدو، فهو لا يهش ولا ينش، يستمع للحوارات، ويدلي بعبارات مقتضبة تدل على الموافقة أو الإعجاب، بدون إبداء أي اعتراض أو رأي مخالف. أما “سليطن”، فهو القائد والمهيمن على المجموعة. الكل يأتمر بأمره. إذا أراد مشاهدة مقابلة فريقه ريال مدريد، فلا أحد يجرؤ على المطالبة بتغيير القناة، ولا يحب كثيرا معارضته، وحين يحدث ذلك يلجأ فورا إلى التنقيص من المعارض والتهكم عليه، واستصغار رأيه، هذا إن سمح له بمواصلة كلامه. وله أيضا سلطة على النادل الذي يعرف مكانته في المجموعة، فيبادر مسرعا إلى تلبية طلباته. تذكرت أيضا أنني أردت مرة الجلوس في مكان “سليطن”، ولم يكن قد حضر بعد، فسارع الجميع إلى منعي مصرين على أن الكرسي المعين هو كرسي “سليطن”، وأنه لا يقبل بجلوس أي منهم عليه. تذكرت كيف أنه كان دائما يخطِّئني حين أدلي برأي، أو يقاطعني حين أخوض في موضوع بعيد عن مجال اهتمامه، وكأنما يخشى من منافستي له على الريادة. كما لاحظت أنه لا يتكلم أبدا عن وظيفته قبل التقاعد.
أقنعت نفسي بأن الأمور ستتغير حين نتعود على بعضنا، ونقضي المزيد من الوقت للتعرف والانسجام، وأن ما لاحظته، شيء طبيعي، ويوجد في أية مجموعة. وهكذا استأنفت اللقاء بأصدقاء المقهى، واعتبرته طقسا من الطقوس الاجتماعية، التي لا بد منها. إلا أن صبري بدأ ينفد بعد مرور أسبوعين آخرين. بدأ الروتين يتسلل إلى الاجتماعات، وما كان مسليا أصبح بالنسبة لي مقرفا، ولم أعد أستسيغ تجاوزات “سليطن”، وبدأت تحدث بيننا مشادات، ولكن الأعضاء كانوا دائما يتدخلون لصالحه، ويبررون ذلك بأننا في جلسة عادية بمقهى، وأننا هنا لنتمتع بمشروباتنا في جو يخفف عنا ولا يزيد من ضيقنا. لكنهم لا يعرفون طبعي العنيد، وأنني لا أرضخ للأمر الواقع، ولا أستكين أمام الإكراهات. من هنا نشأت في ذهني فكرة أصبحت تلح علي باستمرار، خصوصا حين تتكرر معاملة “سليطن “لي، وهي أن أزيحه عن ريادة المجموعة. وتبعا لذلك قررت أن أخطط جيدا – كما أفعل في عملي بالإدارة – وأعمل على إعادة الأمور إلى نصابها، أو لنقل تصحيح الأوضاع التي فرضها “سليطن” بتسلطه.
من حسن حظي أنني بدأت إجازتي السنوية مع مرور أول شهر من بداية هذه التجربة. وكما كان مخططا، سافرت مع العائلة إلى مدينة إسبانية شاطئية صغيرة، وخلال هذه العطلة، وجدت متسعا من الوقت للتفكير في خطة أُقَوِّم بها الاعوجاج الحاصل في مجموعة أصدقاء المقهى. أخذت معي حاسوبي، وخصصت ساعات كثيرة – بمعدل ساعتين في اليوم- للاطلاع في الأنترنيت على ما كتب حول القيادة والزعامة من مقالات وكتب، وما أنجز من أشرطة وثائقية ومحاضرات، وكنت أدون الأفكار المهمة في مفكرة صغيرة. وما أن انتهت الإجازة، حتى كنت قد وضعت مخططا يتضمن مراحل محددة، غايته الأساسية إزاحة “سليطين” من القيادة، وحلولي محله فيها، وقررت الشروع في تنفيذه بكل صبر وعزيمة.
كرسي الزعامة لا يقبل القسمة -3-
بعد عودتي إلى العمل، بدأت في تنفيذ مخططي متبعا المراحل التي استنتجتها من قراءاتي الكثيرة عن موضوع الزعامة. كانت المرحلة الأولى تقتضي القيام بتحديد الهدف الذي أسعى إليه بكل تدقيق، والتعرف جيدا على الأعضاء وعلى الرئيس، بالتركيز على نقط قوتهم ونقط ضعفهم، ومحاولة التعرف على نقط قوتي وضعفي، ودراسة المكان والجو الذي ستجري فيه هذه المعركة، مع التحلي بالكثير من الصبر. كان علي أن أعد ملفا مفصلا عن كل واحد منهم، وأن لا أنتقل إلى المرحلة الثانية إلا بعد أن أكمل بحثي عن الجميع. وقد استغرقت مني هذه المرحلة التمهيدية شهرين كاملين، وكنت خلالها أقاوم رغبتي في الانتقال إلى المرحلة الثانية من المخطط، ولكنني التزمت مع نفسي بأن أتقيد بصرامة بكل الخطوات.
لم أجد صعوبة في تجميع المعطيات المتعلقة بصديقي مجيدو، لأنني أعرفه منذ مدة طويلة بحكم اشتغالنا في نفس الشركة، فهو بالنسبة لي كتاب مفتوح. لكنني بذلت مجهودا خاصا للتقرب من باقي أفراد المجموعة، والتعرف على أحوالهم، مظهرا العناية بهم، وبظروف عملهم والاهتمام بأسرهم وابنائهم. واقتضى الأمر مني بعض التحريات الميدانية، والسؤال عنهم في مقرات العمل أو الأحياء التي يقطنون فيها، بدون أن أشعرهم بما يثير شكوكهم، لكن أكثر المعلومات أخذتها من أفراد المجموعة أنفسهم، وخاصة حين كنت أختلي بأي واحد منهم قبل حضور الآخرين أو بمعزل عنهم، وأسأله عنهم، هل هم متزوجون وأين يسكنون وما نوع سكناهم وهل لهم أولاد، وعلاقاتهم الأسرية، وأحوالهم المادية ومستواهم الثقافي. كما تمكنت خلال هذين الشهرين من التعرف على مقومات شخصيتهم، وعلاقتهم بسليطن. لكن هذا الأخير تطلب مني جهدا مضاعفا للتعرف عليه، فهو لا يتحدث أبدا عن نفسه وعن أسرته ومهنته قبل التقاعد، ومحل سكناه. وحين نتحدث عن أمر من أمورنا الشخصية يسارع إلى تغيير دفة الكلام. لا أحد منهم كان يعرف له عنوانا، لأنه يضرب لهم دائما موعدا بعيدا عن محل سكناه.
كان هدفي واضحا، لا لبس فيه، وهو الجلوس على نفس الكرسي الذي يجلس عليه “سليطن”، وتكسير هيمنته على أعضاء المجموعة. وبعد أن تعرفت جيدا عليه بما يكفي، وعلى الباقين، وحتى على النادل بّا المعطي، حاولت أن أركز على ذاتي. فالخطة تقتضي أن أعرف جيدا عيوبي ومزاياي، تماما مثل المحارب الذي يستعرض قواته قبل الحرب، ليعرف جوانب القوة والضعف. معرفة جوانب النقص ضرورية حتى أكون مستعدا عند أي محاولة من الخصم لاستغلالها. ومعرفة جوانب القوة، حتى أعرف حدودي مسبقا، وأتصرف حسب الحالات، واستغلها في الوقت المناسب. ولاحظت أن نقط ضعفي هي نفسها نقط قوة “سليطن ” والعكس. فهو يجيد الكلام ويسيطر على الحديث، وقوي الشخصية، وعنيف في انتقاداته وتهجمه، وله جرأة وتأثير واضح على مستمعيه، ومن حوله في المقهى، وله أجوبة حاضرة على كل شيء، ولا يتورع عن ذكر آرائه، ولا يخجل أو يتراجع حين أقوم بتخطئته، ولا يظهر غضبه. وكلها صفات تنقصني إلى حد كبير. وفي المقابل، فأنا موظف كبير في الشركة ولدي شهادات عليا وراتب يزيد عن راتبه بأضعاف عديدة، ومتمكن من التكنولوجيا، ولدي مهارات في التعامل مع الأنترنيت ووسائل الاتصال الحديثة، وأتقن لغتين أجنبيتين.
شهران كانا كافيين لأتعرف جيدا على المجال وهو مقهى الموعد، واجمع معلومات مفيدة عن المجموعة، وخاصة سليطن، وخلالهما كنت أعد أيضا لما بعد مرحلة المعاينة والتعرف.
كرسي الزعامة لا يقبل القسمة -4-
حسب الخلاصات التي انتهيت إليها من قراءاتي عن الموضوع، كان علي أن أنتقل إلى مرحلة ثانية، وتتلخص في تفكيك وإضعاف ارتباط المجموعة بالقائد. ويتطلب ذلك الاتصال بكل واحد على حدة، وبث الخلاف والشك في علاقته بسليطن. وفقدانه للثقة المطلقة فيه. ليصبح التحكم في المجموعة سهلا بعد ذلك. وأن أعمل أيضا على إبراز نقط ضعفه بالتدريج، وبشكل غير مباشر، وأبرز مواهبي بشكل متواز، يتيح للمجموعة عقد مقارنة تلقائية بيننا.
كانت الاتصالات الفردية قد بدأت في الحقيقة منذ بدايات المرحلة الأولى، وكان لصديقي مجيدو نصيب الأسد في محاولاتي الرامية إلى فك الارتباط الوثيق بينه وبين سليطن. كنت أحاول معه بحذر وبالكثير من الصبر، وأسقيه الشك جرعة جرعة، مستغلا انفرادي به يوميا في العمل، وفي طريقنا إلى المقهى، وركزت على الفارق الكبير بينهما في المستوى العلمي والاجتماعي والمادي، وكيف يستمع إلى ترهاته ويعجب بها، ويخضع لتأثيره عليه. وذكرته بما سجلته في ملاحظاتي عن تعامل سليطن معه، وكيف أنه يبخس كلامه ويستصغر أفكاره ويقاطعه في الحديث، ويستغله حين يترك حساب مشروباته بدون أداء، ويطلب منه باستمرار إيصاله بسيارته. ولم أنس بالموازاة مع تحريضي أن أذكره في الحين بكل تصرف يصدر من سليطن إزاءه.
أما بنمسعود، فهو رجل منظم، يحترم مواعيده، ويعتني بأناقته، ويتكلم باقتضاب، ويستمع جيدا لمخاطبيه، وقد خصص للمقهى وقتا لا يتجاوزه أبدا، وحين يصل موعد خروجه، يتصل بزوجته ليخبرها بذلك. كان رفاق المقهى يتهامسون فيما بينهم بأنه يهاب زوجته، ولا رأي له أمامها، ويتندرون بذلك في غيبته، وخاصة حين يزعم لهم أنه الآمر الناهي في البيت. وعلى الرغم من مكانته، فهو من النوع المنضبط الذي لا يقدر على المواجهة والدخول في خلافات. وقد حاولت أن أميله إلى صفي بالحديث عن آداب الكلام والحوار، والتركيز على أن وقتنا ثمين ولا يجب أن نضيعه في التفاهات، ولا أن نترك رجلا شبه أمي يملأ أدمغتنا بترهاته. وأنه من الأفضل أن نقضي وقتا ممتعا، وأن نستفيد في نفس الوقت من تجارب بعضنا، ونتحاور في المسائل المهمة. وعززت كلامي بالكثير من الإطراء على ثقافته وتربيته وخلقه، وتجربته المهنية، فحركت في داخله بعض المشاعر والرغبات الدفينة.
ولم يكن المذكوري سهل المراس، على الرغم مما يبدو من شعبيته وطريقة لبسه وتلقائية كلامه، والبساطة التي يتصرف فيها في كل المواقف، فهو يأتي إلى المقهى ليقضي ساعات طيبة مع رفاقه، فيضحك ويمرح ويسري عن نفسه. لذلك لم أكلف نفسي عناء التحدث إليه عن سليطن، الذي يشابهه في المزاج والطبع، وركزت على التقرب إليه، والتنويه بعصاميته، وعمله، والتنويه بحياته في البادية، فنسجت معه علاقات مودة، كي أستثمرها مستقبلا، خاصة أنه من عشاق ريال مدريد مثلي.
أما الأستاذ المسفيوي، فقد توسطت له لدى أحد أصدقائي، وهو مدير ثانوية خاصة، يقدم تعويضات سخية للأساتذة الذين يعملون بمؤسسته، وأوصيته به خيرا. وقد كاد يطير فرحا حين أخبرته بالأمر، وتمكن بذلك من تحسين وضعيته المادية، مما انعكس على حياته إيجابا، وعلى علاقته بالمجموعة. وكان هذا كافيا لي لأضمن موقفا مؤيدا منه لي في تنفيذ مخططي.
كرسي الزعامة لا يقبل القسمة -5-
أما بيت القصيد، “سليطن”، فهو لم يتول الزعامة من فراغ، فقد كان يحيط نفسه وحياته الخاصة بالكثير من الكتمان، ولا يتحدث لا عن عمله ولا سكناه ولا أهله إلا نادرا، ولم يفدني رفاقه في التعرف أكثر على أحواله. كل ما عرفته بعد عناء، هو أنه محال على المعاش، وأن له ابنا هاجر منذ أكثر من عشرين سنة وانقطعت أخباره عنه، بعد أن استقر وتزوج هناك، ولكنني أدركت بالمعاينة أنه يعيش من معاشه البسيط، وأنه يعيش في حي شعبي بهامش المدينة، وقد علمت بذلك حين تحينت في إحدى المرات فرصة مغادرته للمقهى وخرجت معه عارضا عليه إيصاله إلى منزله بسيارتي، وكان الجو منذرا بسقوط أمطار، فقبل على مضض، وأصر على أن أوصله قريبا من منزله، لأنه سيقوم قبل ذلك بقضاء غرض ما. حين وصلت إلى المكان المحدد، وكان على مقربة من أحد الأحياء الشعبية، ودعني، وانتظر قليلا حتى يتأكد من ذهابي، لكنني تظاهرت بالانطلاق بعيدا، وعدت من نفس الطريق، وتابعت سيره عن بعد. وتجولت بسيارتي في الحي، قبل أن أعود أدراجي بدون التعرف على محل سكناه، وإن كنت قد عرفت الحي الذي ينبئ بطبيعة السكن والسكان. وكانت هذه المناسبة فرصة لي لأتقرب منه. ثم سنحت لي فرصة أخرى للتعرف عليه أكثر، حين كان يتحدث إلينا عن تأخر تعويضات المرض، فقلت له إن الأمر سهل، فالتعاضدية وضعت بوابة إلكترونية للمنخرطين يستطيعون من خلالها التعرف على مآل الملفات التي يودعونها لديها. وعرضت عليه أن أساعده من هاتفي، وفتحتُ الموقع الإلكتروني للتعاضدية، فأسلم نفسه لي، اعتمادا منه على معرفتي الكبيرة بتقنيات التواصل الرقمي، وكانت مناسبة ليسلمني بطاقة انخراطه وبطاقته الوطنية لملء الاستمارات المطلوبة، وقد فرح كثيرا حين علم أن التعويضات ستصرف قريبا، على الرغم من تواضعها. لكنني تمكنت في غفلة منه من تصوير البطاقتين، اللتين كانتا غنيتين بالمعلومات، بالإضافة إلى المعلومات العامة المتضمنة في البوابة. ومن جملة ما عرفت، عنوان منزله، وعنوانه القديم الذي كان في مدينة أخرى مجاورة للمدينة. وعرفت فيما بعد، حين سألت عنه في العنوان القديم، أنه كان معروفا في المدينة، فقد تقلب في وظائف بسيطة في البلدية، فكان مقدم حي، ثم موظفا في البلدية، وكان معروفا بأنه كان مخبرا، يتحاشاه الجميع. ولم يستطع أن يدفع عنه هذه التهمة، وخاصة حين أحيل على التقاعد، فغادر المدينة إلى مدينتنا واستقر بها. فهمت إذن لماذا يتحاشى الحديث عن عمله وحياته الخاصة. واحتفظت بهذه المعلومات إلى حين الحاجة إليها.
حتى النادل، لم يستثن من مخططي. ومنذ بدأت التنفيذ، وأنا أجزل له العطاء في الإكراميات التي أدفعها له، حتى أصبح يطلب رضاي، ويتودد إلي، ويسارع إلى تلبية طلباتي، ويعاملني بعناية زائدة على تعامله مع الآخرين.
مضت تقريبا خمسة أشهر وأنا منهمك في تنفيذ المخطط، وتمكنت من إنهاء المراحل الأولى المتعلقة بالتعرف على المكان وعلى الأعضاء ودراسة مواطن القوة والضعف عند كل واحد، وتجربة إمكانيات إقناعهم بالتخلي عن التشبث بسليطن، ودراسة شخصية هذا الأخير بما يفيدني في مهمتي، ولم يبق لي إلا الشروع في التنفيذ. وحسب نتائج قراءاتي في الموضوع، علي التحلي بالكثير من الصبر، وعدم التسرع، حتى لا تضيع جهودي السابقة هباء.
لاحظت أن سليطن يستعد جيدا قبل الحضور، فيسجل في ذاكرته آخر النكت والأخبار، والطرائف، والمواضيع التي تروج في وسائل التواصل الاجتماعي، فيبهر سامعيه بالجديد في كل يوم، ويتحفهم بمادة للنقاش والتندر والترويح على النفس، يساعده في ذلك تفننه في السرد وقدرته على شد انتباه سامعيه، لكن ثقافته المحدودة أو لنقل السطحية، وعدم معرفته باللغات، أرغمته على الاكتفاء بكل ما هو منشور بالعربية، وكانت هذه واحدة من أهم نقط ضعفه التي استغللتها جيدا.
كرسي الزعامة لا يقبل القسمة -6-
كنت بعد كل اجتماع، أسجل في ذهني ما يورده من أخبار وطرائف، وحين أعود إلى المنزل أبحث عنها في المواقع. وبعد أسبوع فقط تمكنت من التعرف على معظم المصادر التي يستقي منها مروياته، وبذلك أصبحت أطلع مسبقا عليها، وحين نجتمع في المقهى، ويبدأ في استعراض نوادره ومروياته، كنت أعمل على التنقيص منها وتبخيس قيمتها، لدرجة أني في إحدى المرات انتظرت إلى أن انتهى من رواية إحدى نكته، وضحك الجميع، ولم أسايرهم في الضحك. وبدلا من ذلك، قمت قائلا له: أنا أقف احتراما لهذه النكتة، فسألني وهو في غاية الرضى، هل أعجبتك؟ فأجبته: لا، ولكنني احترمها لسنها، فهي أكبر منك. فانفجر الجميع ضاحكين، وكان ذلك مني إعلانا لحرب أصبحت مكشوفة بيني وبينه. لم يكن هو يعلم السبب، ولكنه كان يحدس أنني أسعى لمنافسته، وكأنَّ لديه ميلا غريزيا للحفاظ على مكانته التي بدأت تهتز أمام الأتباع. وخلال أكثر من أسبوعين، دأبتُ على مناكفته، والتعقيب على كلامه، بتصحيح أخطائه أو بالتأكيد على أنها منقولة من مواقع أجنبية أو أن معطياتها كاذبة، وفي المقابل كنت أبحث في المواقع الأجنبية المتخصصة في مختلف العلوم والتكنولوجيا، عن مواد بعيدة عن متناوله وفوق مستوى فهمه، وأقدمها للمجموعة بسلاسة، فأنال إعجابهم، واهتمامهم بكل ما أقدمه لهم، بينما تراجع اهتمامهم بما يحكيه لهم. وكان من جهته يعمل على استعادة الثقة وتبديد الشكوك حول مروياته، ويحاول دائما إفساد ما أحكيه بالمقاطعة والسخرية أو تغيير الموضوع والتشويش، وقد كنت أنتظر ذلك منه، وأنتظر الفرصة التي تمكنني من الانتقال إلى خطوة جديدة في مخططي. وقد مكنني من اتخاذ هذه الخطوة في إحدى اجتماعاتنا. كنت قد مهدت لكلامي بملاحظة قلت فيها إننا نضيع الكثير من وقتنا في الثرثرة الفارغة، مع أننا نستطيع أن نستفيد من بعضنا البعض، وكان الجميع ينصت إلي حين قاطعني سليطن قائلا:
– نحن هنا نأتي للترويح عن النفس والهروب من المشاكل، وقضاء سويعات من المرح والمتعة.
– أولا، لا تتحدث باسم الجميع، فهم قادرون على أن يعبروا عن آرائهم بكل حرية، ولم أرهم وكّلوك للحديث باسمهم. وثانيا: ما المانع في أن نخصص وقتا ولو بسيطا لأشياء مفيدة.
– الضحك أيضا من الأشياء المفيدة، وكلنا نحتاج للتنفيس عن النفس، والمرح، أليس كذلك؟
– لا لسنا جميعا على نفس الرأي. نعم للضحك والتسلية، ولكن في حدود. ثم إن للحديث آدابا وأصولا، وأهمها أن نستمع لبعضنا البعض، ولا نقاطع بعضنا ونفسد عليهم كلامهم
– …
حاول أن يتكلم مبررا سلوكه ولكنني بادرته بالهجوم:
– أنت مثلا، لم تستمع إلى بقية كلامي، وقاطعتني قبل أن أنتهي منه..
ظهرت على سليطن إمارات الحرج، فبادر صديقي مجيدو لتهدئة الوضع، وطلب مني أن أكمل كلامي فأضفت:
– الإنصات مهم جدا في أي حديث أو حوار، لكي نتمكن من التفاهم والفهم، وبعد عملية الاستيعاب يأتي الرد، يقال إن الله خلق الإنسان بلسان واحد، ولكنه أعطاه أذنين اثنتين، لماذا ؟ لكي …
– لكي يضع عليهما نظارتيه… هههه .
مرة أخرى تدخل سليطن لإفساد حديثي وإخراجه من سياقه، وليصرف الأنظار عني. وكانت هذه هي الفرصة التي أنتظرها، فتصنعت الغضب الشديد، وقلت له:
– وحتى هذه قديمة، وفي غير محلها.
وتوجهت بكلامي للجميع قائلا:
– يظهر أنه ليس لديكم علاج لهذه الحالة، وأنا آسف لتدني مستوى الحوار إلى هذا الحد.
قمت من مكاني غاضبا، وناديت على النادل وناولته ثمن المشروب، وخرجت غير عابئ بإلحاح باقي الأعضاء، ومحاولات مجيدو لإرجاعي إلى المقهى.
كرسي الزعامة لا يقبل القسمة -7-
وصلت الآن إلى مرحلة مهمة من مخططي، بعد أن حاولت أن أجعل مكانة سليطن تهتز بين زملائه، وأن أبخس كلامه. لقد وضعت نفسي محل مقارنة معه. تساءلت مع نفسي: هل سيكون غضبي بدون تأثير يذكر؟ أم أن عملي سيعطي ثماره؟
اتصل بي مجيدو هاتفيا في نفس اليوم، وحاول تهدئتي ولكنني تماديت في إظهار استيائي من تصرفات “سليطن”، وأخبرته أن قراري بمقاطعة المقهى لا رجعة فيه. اتصل بي الجميع إلا “سليطن” وألحّوا علي في العودة إلى المقهى، معتذرين بالنيابة عن “سليطن”، لكنني أصررت على موقفي، وخاصة أن المعني بالأمر لم يعتذر عن سلوكه، وليست هناك ضمانات بأنه لن يكرره مستقبلا.
بعد يومين، بدأت الأزمة التي افتعلتها تؤتي أكلها، فقد رن جرس هاتفي، وكان “سليطن” من طلبني. تعمدت أن لا أجيبه في الحال، وبعد أن أعاد الطلب مرتين، أجبته ببرود، وتبادلنا التحية والسؤال عن الأحوال، ثم تطرق إلى الموضوع، معتذرا عما حدث، مبررا ذلك بأنه لم يقصد إغضابي، لأن تلك هي طريقته في الكلام، وتعهد أن لا يعود إلى مضايقتي، وذكر لي أن الزملاء قد اشتاقوا إلي، ويلحون على رجوعي. وطبعا قبلت اعتذاره، ووعدته بأنني سأفكر في الموضوع، لكنه ألح أكثر، فوعدته بأن أعود للمقهى مع بداية الأسبوع.
كان واضحا أن أعضاء المجموعة ضغطوا عليه، فتحامل على نفسه ليقدم على خطوة الاعتذار. لكنني ربحت الكثير من افتعالي لهذه الحادثة، فقد استطعت أن استميل الأعضاء إلى جانبي، ولو بصفة مؤقتة، وأكسب تعاطفهم، كما استطعت أن أحرج “سليطن”، وأظهره بمظهر الشخص “المبلوز” الذي لا يتحكم في ما يقول والذي يفتقر إلى الذوق واللباقة ولا يحترم الآخرين، كما أنني تمكنت بذلك من كبح جماحه وإرغامه على عدم التدخل مستقبلا لمقاطعتي أو تشتيت الانتباه، وبذلك يمكنني أن أتكلم كما أريد، خدمة لمخططي، وقد مهّد الحادث لي لأشرع في فرض شروطي الأخرى من أجل الاستحواذ على المجموعة.
حين عدت بعد ذلك إلى المقهى، لقيت ترحابا كبيرا من الجميع، وحتى من “سليطن” ومن النادل بّا المعطي. وبعد جلوسي، بدأت فورا في محاولة تصحيح الأوضاع، فقلت لهم:
– أنا أيضا سعيد بعودتي إلى لقاءاتنا التي اشتقت إليها، إلا أن بعض الأمور يجب أن تتغير لمصلحتنا جميعا.
ظهر على الجميع نوع من الاستغراب والتخوف من مشكل جديد، فطمأنتهم مردفا:
– سأوضح كلامي، لقد تعرفت عليكم منذ بضعة أشهر، وهو ما سمح لي بالتوقف عند بعض الأمور، وأهمها بالنسبة لي أنكم عاملتموني منذ البداية كعضو دخيل على المجموعة، وظل تعاملكم معي على نفس المنوال، رغم أنني قضيت معكم أياما واسابيع كثيرة.
حاول البعض أن ينفي ذلك، ولكنني لم أترك له مجالا، وأضفت:
– لقد خصصتم لي منذ البداية كرسيا عاديا في هامش الطاولة. وما زال الحال على ما هو عليه. أنظروا إلى مواقع الكراسي، معظمكم مرتاح في مكانه. “سليطن” يترأس الجلسات وظهره إلى الحائط، وكل المقهى أمام ناظريه، وبجواره بنمسعود على اليمين وبعده الهواري وعلى اليسار المذكوري ثم المسفيوي، أما أنا فمقعدي في طرف الطاولة، وفي مجرى الهواء معرضا لنزلات البرد والزكام، مشيحا بظهري لكل من في المقهى، في مقابلة “سليطن” والحائط. أن تجلس هكذا مرة أو بضع مرات ممكن، ولكن أن يصبح هذا مقعدك دائما فهو أمر لا يحتمل. لا أحد منكم فكر ولو لمرة واحدة في أن يفسح مكانه لي للجلوس.
كرسي الزعامة لا يقبل القسمة -8-
– (مجيدو): هل تجلس في مكاني؟
– لا .. هذه وضعية لا تستقيم، وعلينا أن نتداول على الكراسي، ليأخذ كل منا نصيبه من المزايا والمشاكل.
– يمكن أن نطلب من الحاج شُكْراً أن يضيف لنا طاولة أخرى
– هذه الزاوية من المقهى لا تتسع لطاولتين.
عرض الجميع عليّ استبدال مكاني بمكانهم، إلا “سليطن”، فقد التزم الصمت – على غير عادته – وقررت أن أستبدل مكاني بمكان بنمسعود ملاصقا لسليطن، وهو أمر له دلالته. وغيَّرْنا الأماكن في الحال.
تم لي ما أردت، ففي هذا اللقاء، احترم الجميع آداب الحوار، واستمعوا إلى بعضهم جيدا، ولم أتدخل كثيرا في حواراتهم، فقد كنت متمتعا بالكرسي الجديد.
في اليوم التالي، تعمدت أن أذهب إلى المقهى مبكرا قبل موعد وصول الزملاء، وتوجهت مباشرة إلى الحاج شُكْرًا صاحب المقهى، وسلمتُ عليه، وانتحيت به جانبا، وقلت له:
– أريد آلحاج أن أطلب منك طلبا خاصا، وأرجو أن لا أثقل به عليك.
– “ياك لا باس”؟
– لا باس.
– إذا كان في استطاعتي فلا مانع عندي.
– هل يمكنني أن أجلس على كرسيك
– تفضل.
نهض الحاج شُكرا، وأفسح لي المجال للجلوس على كرسيه الجميل الذي كان يحتل مكانا استراتيجيا في المقهى، يُمَكِّنُه من الإشراف على المقهى بأكمله ومراقبة سير العمل. جلست على المقعد الذي كان مقعدا مريحا ومتميزا. ثم نهضت وطلبت منه العودة إلى كرسيه المفضل وقلت له:
– أنا أعاني من آلام في الظهر بسبب كثرة الجلوس أمام المكتب في العمل. وجلوسي هنا على الكراسي العادية في المقهى يزيد من هذه الآلام، وقد جربت الجلوس على كرسيك فوجدته مريحا، وأرجو أن تعيرني إياه للجلوس عليه، فقط في الفترة التي أحضر فيها إلى المقهى.
– لو شئتَ لجلبتُ واحدا آخر من أجلك
– لا.. لا.. لا يحتاج الأمر إلى شراء كرسي جديد. يمكن أن توصي بّا المعطي بأن يُحول الكرسي إلى مكاني بالطاولة كل يوم، لحظات قبل وصولي، ثم يعيده إليك بعد مغادرتنا للمقهى.
فكّر الحاج شُكرا قليلا ، ثم قال لي :
– لا بأس، “ما يكون غير خاطرك”. ونادى على بّا المعطي، لكنني رجوته أن يدع ذلك للغد، ويرتاح اليوم في مقعده.
كان الحاج شكرا رجلا طيبا فعلا، ولذلك اكتسب لقبه “شكرا” لأنه يردد كلمة شكرا للزبناء عند خروجهم، فلقبوه بالحاج شكرا. ولم أنس أن أشدد على بّا المعطي كي لا ينسى وأن يضع الكرسي في المكان الذي أجلس عليه، بجوار كرسي “سليطن” الذي كان أصغر وأقل قيمة منه.
كرسي الزعامة لا يقبل القسمة -9-
في اليوم التالي، تعمدت أن أتأخر قليلا لغرض في نفسي، وكان حدسي في محله، وحين دخلت إلى المقهى وجدت “سليطن” متسلطنا فعلا فوق الكرسي الجديد، جالسا بكل زهو واعتداد، وترك كرسيه القديم في مكاني، فسلمت على الجميع، ووقفت على رأسه، وناديت على بّا المعطي الذي حضر مسرعا، وقلت له: ألم تخبرهم بأن هذا الكرسي لي؟ فأجاب لقد أخبرت “السي سليطن” بذلك، ولكنه أصر على الجلوس عليه.
وجهت كلامي لهذا الأخير:
– لا يليق بك أن تجلس على كرسي ليس لك، هذا الكرسي خاص بي، لأنني أعاني من آلام في الظهر. وحتى لو لم يكن هناك سبب، كان عليك أن تتركه حين أخبرك بّا المعطي بأنه لي.
بدا الإحراج جليا على وجه سليطن، وقال:
– إنه كرسي مثل باقي الكراسي.
– لا بل هو كرسي جميل ومريح، وقد أعلمك بّا المعطي أنه لي. هل كنت لتسمح لي بالجلوس على كرسيك؟
– يمكنك أن تجلس على كرسيي، ولا مانع لدي
– لم يكن هذا رأيك من قبل. والآن خذ كرسيك ودع لي كرسيي.
قام “سليطن” عن الكرسي شبه مرغم، وجلست عليه، وأعاد كرسيه إلى مكانه، ولنقل إلى حيز أصغر من مكانه السابق. لم أعد فقط أجلس بجواره، ولكنني احتللت حيزا أكبر، وصار لي مقعد جميل متميز، أفضل من كرسيه القديم. ولم تعد الأمور كما كانت من قبل، وأحسست بأن الهوة بينه وبين باقي الزملاء بدأت تتسع، وأن زمام السيطرة عليهم بدأ يفلت منه، وأنهم باتوا أقرب إليّ منه.
أصبحت من موقعي الجديد، أكثر قدرة على شد الانتباه، وكنت خلال الفترة السابقة كلها قد وضعت لائحة بالمواضيع التي تحظى باهتمام المجموعة كلها، وتلك التي تستأثر باهتمام كل واحد منهم: الرياضة والنكت والنوادر والطرب الشعبي والأخبار السياسية والمواضيع الدينية والنصائح الطبية وأخبار المشاهير وغيرها. فأصبحت أعد لهم كل يوم كشكولا متنوعا منها، أبحث عنه في المواقع الإلكترونية البعيدة عن متناولهم، مستغلا أنني كنت الوحيد بينهم الذي يتقن اللغة الإنجليزية، مما يسمح لي بالاطلاع على أكبر المواقع العالمية في شتى المجالات، وإتحافهم دائما بالجديد، وشيئا فشيئا أصبحتُ أكثر قدرة على الحكي واستمالة من يحضر اجتماعاتنا التي كان ينضم إليها أحيانا بعض الرواد الدائمين للمقهى والحاج شكرا حين يكون لديه متسع من الوقت.
-10-
ومع هذا التطور الإيجابي، لم أنس “سليطن”، فالحكمة وخلاصة النصائح التي اطلعت عليها تقضي بأن أترك له مجالا للحركة، حتى لا أفقد أهم عنصر يمكنه أن يعارضني، ويُبقيَ جذوة المنافسة قائمة، وخاصة أن الزملاء تعودوا على مستملحاته، ولكنني جعلته دائما تحت مراقبتي. وبين الفينة والأخرى كنت أسقيه جرعات من التخذيل والتثبيط، حتى لا يتمادى ويتجاوز السقف الذي حددته له. كنت أحيانا أقول له : لو كنت تتقن اللغة الإنجليزية، أو حتى اللغة الفرنسية، لدللتك على العديد من المواقع المفيدة، أو أوصيه بقراءة بعض الكتب التي أعرف مسبقا أن مستواه التعليمي لا يسمح له بفهمها ولا حتى بقراءتها، أو أرسل له في الواتساب أشرطة فيديو وثائقية باللغة الإنجليزية، أو تتطرق لمواضيع علمية معقدة. وفي مرات أخرى كنت أقترح عليه، بعض الاقتراحات التي أعرف أنه لا يستطيع العمل بها، نظرا لظروفه المادية، فأخبره مثلا أن البنك الفلاني يقدم قروضا بتسهيلات هامة، أو أقترح عليه وأنا أتقمص دور الناصحين المخلصين، أن يأخذ قرضا لشراء سيارة مستعملة أو شقة بدل تلك التي يسكنها بالكراء، وأحيانا أخرى أسأله عن أحوال ابنه الذي علمت أنه هاجر قديما إلى أوربا، وقطع صلته به، أو أسأله لماذا لا يذهب للبقاع المقدسة ولو للعمرة؟ وأقسى ما كنت ألمزه به بشكل غير مباشر هو حديثي عن المقدمين وسلوكاتهم، وكيف أنهم كانوا في فترة الاستعمار مخبرين للفرنسيين، وأصبحوا بعد الاستقلال مخبرين للداخلية في سنوات الرصاص. كان هذا التقاسم ضروريا لاستمرار المجموعة، فحين أحس بملل أو تعب الأعضاء من المواضيع الجادة ذات المستوى العالي، أستحثه على تقديم ما في جعبته، بدون أن أضايقه. ويظهر أنه ارتاح مع الوقت لدور الرديف، لدرجة أنه استبدل مكانه بمكان المذكوري، ولكنني طلبت من هذا الأخير أن يترك مكانه لصديقي مجيدو، فقبل عن طيب خاطر.
استهوتني لعبة الرئاسة، بعد أن سلم لي الجميع أعنتهم، أسيرهم كما أشاء، وأصبح لاجتماعاتنا طابع خاص، وأصبحت مقسمة بين مباريات كرة القدم حين يتم بثها بالتلفزيون، والحوارات المنظمة، التي تتخللها فترات استراحة، يسيطر فيها “سليطن” والمذكوري.
أصبحت أبذل مجهودا مضاعفا لإبهار الجميع، ولشغلهم بالمواضيع التي تشغلنا وتأخذ باهتمامنا لعدة أيام. تحدثت لهم عن التطور الكبير الذي يشهده العالم، وكيف أن الحاسوب سيحل قريبا مكان الإنسان، وأن الإنسان الآلي قادر على الحلول محل الإنسان وإنجاز أعقد العمليات الحسابية بسرعة خيالية، وأنه يحل محل الأطباء والمهندسين والمحامين وحتى الأدباء والباحثين في مختلف المجالات العلمية والإبداع. وأن ما كان مقتصرا على النخبة أصبح متاحا للعامة، فالحاسوب يرسم وينجز الأبحاث والمقالات ويترجم ويقوم بدور السكرتير والمستشار وغير ذلك، وظل هذا الموضوع مسيطرا بتفاصيله على اجتماعاتنا لما يزيد عن ثلاثة أسابيع، وكان المذكوري مهتما جدا به، وقال الحمد لله أن هذا اللعين لا يمكنه منافسة الجزارين، فأخبرته بأن هناك تجارب أجريت ونجحت وأن بعض الدول تنتج لحما من خلايا الأبقار، التي تنميها وتتعهدها بالرعاية والمواد الضرورية لتصبح لحما طريا حسب الطلب، وأن مذاقه مثل مذاق اللحم تماما، وهو ما لم يصدقه، ولم يدخل دماغه، حتى أنه وصف من يقولون هذا الكلام بالكفار.
كرسي الزعامة لا يقبل القسمة -11-
وفي مرة أخرى، قلت لهم إن بعض الباحثين يرى أن الإنسان شبيه بالحاسوب، فهو مبرمج سلفا بمعلومات كثيرة، ويسير وفقها. ومن الممكن أن يتم تحيين المعلومات خلال فترات النوم. فحين نستيقظ، نتصرف بما تمت برمجته. هل يمكن للحاسوب أن يجيب على سؤال لا يوجد في برنامجه؟ كذلك الإنسان. يستيقظ، فيتصرف على أن اسمه كذا وأن سنه كذا وأن له أولادا بأسمائهم وأنه يتكلم العربية أو الإنجليزية، وكل ذاكرته، إما محينة أو متغيرة بالمرة. فأنا قد لا أكون أنا بالأمس، وأسرتي أيضا، وكذلك عملي وما أتذكره قد يكون حقيقة أو وقائع مبرمجة. أثار هذا الموضوع أيضا أحاديث لا حصر لها، وقد تأثر به “سليطن” والمذكوري كثيرا، فأما سليطن فقد تمنى أن يستيقظ يوما فيجد نفسه في بحبوحة من العيش، وأما المذكوري فقد كان على العكس يخشى أن يستيقظ فيجد نفسه فاقدا لأمواله وضيعته، وبلغ به الحال أن كان يسهر كثيرا، معتقدا أنه بذلك سيمنع عملية البرمجة. كنت أجد الكثير من هذه المواضيع في الأنترنيت، وأضيف إليها من عندي بعض التوابل والإضافات لتقريبها من مستوى الرفاق.
أحسست أن هذه المواضيع تستهوي الجميع على الرغم من عدم قدرتهم جميعا على مسايرتها وفهمها، والواقع أنني أنا نفسي لم أكن أفهمها جيدا، وكنت أكمل ما ينقص من عندي، مطمئنا إلى أنه لا يوجد من بينهم من لديه القدرة على مجاراتي في هذا المجال. وكلما فتر نقاشهم حول موضوع أفتح موضوعا غيره، وقد استأثر موضوع الألوان باهتمام لم يفتر على الرغم من مرور شهر على تطرقي إليه، وملخص الموضوع، أنني سمعت (أستاذ الرياضيات) يطلب من النادل قهوة سوداء، فقلت له : هل أنت متأكد من أنها سوداء؟ فأجابني: طبعا. فسألته: هل هذا القميص أزرق؟ وهل تلك السيارة بالباب حمراء؟ فأجاب نعم. فتوجهت للجميع بالكلام:
– ما نراه أزرق، ليس هو كذلك بالنسبة للجميع.
أنكر الجميع كلامي، ولم يصدقوا ما أقول. فوجدتها مناسبة لأشرح لهم المسألة، بالتبسيط:
– هل تعرفون مرض عمى الألوان؟
– (ذ االمسفيوي) نعم. إن المصاب بهذا المرض لا يرى من الألوان إلا الأبيض والأسود.
– طيب. هذا المريض سيجيبك حين تسأله عن لون السماء بأنها زرقاء.
– جائز
– ولكنه لا يراها زرقاء مثلما تراها أنت، أليس كذلك؟
– نعم.
– فهو علم من محيطه أنها زرقاء، وكذلك الأعمى. فالصفة عنده مبنية على تصور الآخرين.
– ولكنني لست أعمى ولا مريضا بعمى الألوان.
– صبرا. لكل واحد منا قدرته على النظر والتمييز بين الألوان، ولكن بعض العلماء يقولون بأن ما أراه أنا أخضر وأسميه أخضر، قد يكون أصفر عند شخص آخر ولكنه يسميه أخضر. فكلنا نرى نفس الشيء بألوان تختلف حسب قدرات إبصارنا وتأثر أعيننا بالأضواء والمحيط، لكننا تعلمنا أن نسميه بناء على ما أخذناه من محيطنا.
– (المذكوري) هذا يعني أن “بنادم كحل الراس” قد يكون أشيب الراس؟
– نعم
– “العجاب هذا”