شهادة الاستاذ خالد ميدة في حق الفقيد المقاوم لحسن زغلول

عندما كنت أقضي وقتًا مع الفقيد لحسن زغلول، كنت دائماً أتمنى أن أراه مرة أخرى. كان حديثه عن التاريخ العميق منذ بدايات الصراع بين قوى الحركة الوطنية في المغرب يثير اهتمامي. تاريخنا الذي أصبح مهملًا لدى فرنسا، ومجردًا بقوة من تلك الأيام التي ما زالت غامضة حتى اليوم، رغم حكايات التاريخ المنشورة في الكتب. هذا التاريخ الذي تعلمته الأجيال عن نكسة المغرب عام 1912 وطبيعة الحماية الفرنسية. ولكن بخصوص أسئلة مثل: كيف؟ ومن؟ وماذا دفع المغرب إلى تلك الحماية؟ لا نملك حقًا الجواب، مع كثرة التفاسير والشروحات، لأن التاريخ يصنعه المنتصر. وبما أن فرنسا كانت تسيطر، فهي تملك في قصورها الأرشيف السري لذلك الزمن الذي حطت فيه رحالها بالمغرب في يوم كان مليئًا بالجوع والمصاعب، وأجهزت على المغرب من البوغاز إلى ما شاء القدر أن يتوقف.
الغوص في تاريخ المغرب بالأبيض والأسود عميق جدًا. كانت لقاءاتي ايضا بمنطقة بوشان مع لحسن زغلول، صديق جدي المقاوم محمد العربي ميدة، فرصة لسماع روايات من رجل جال وصال بعقله وجسده في حدود لا متناهية من المغرب وبعدها الجزائر. وبالخصوص تدخلاتهم وعملياتهم الفدائية بالأرض التي تربينا فيها جميعا رغم بساطتها، أرض بوشان الغالية كانت منطقة بوشان معقلا و نواة لتصريف وخز المقاومة وإطلاق شرارة الانتفاضة الشعبية وفي زمن الخوف المزمن والارتماء في أحضان القائد العيادي وهرولة الخونة والعملاء، أنجبت بوشان بالرحامنة ولد الكابران وصالح العصامي وميدة وأحمد ياسين ودليل بن عبد القادر وابراهيم جعواق.. الذين توفرت لديهم شجاعة نشر قيم المقاومة والروح الوطنية في وسط يتغلغل فيه الفقر والجهل والهشاشة الاجتماعية والثقافية، كانت لهم جرأة قطع الأسلاك التليفونية وترويع القائمين بأعمال الإقامة العامة للحماية بالرحامنة بتوجيه وإشراف سخي من القائد العيادي وخلفائه على أرض خمس خماس. وبفضل ما توفر لديهم من رجولة وتشبع بأفكار التحرر والانعتاق، جمعوا المال خلسة واقتنوا المسدسات من الجنود العائدين من الحرب العالمية الثانية، وتمكنوا من تعلم صناعة قنابل المولوتوف والتدريب على تنفيذ العمليات الفدائية التي من خلالها تمكن هؤلاء من قلب بوشان تنظيم انتفاضتين عارمتين بسبت لبريكيين وبوشان أربكتا كل الحسابات وبسببهما تجرعوا مرارة الملاحقات والاستنطاق والتعذيب والسجن في ظروف مخزنية، وكيف كان لطلبة بوشان وفقيه الدوار ومحمد العربي ميدة وصالح العصامي دور ريادي في تقوية جبهة المقاومة بالجنوب. أصبح زغلول أحد تلك الشخصيات الذين تجرأوا يومًا على مقاومة الاستعمار والخونة وكل من حاول أن يجعل المغربي خانعًا مستسلمًا في النور والظلام.
عندما قمت بالبحث عن زغلول لأول مرة لزيارته، لم أجده في قصر أو في فيلا فخمة، بل وجدته جالسًا على جانب الطريق في مدينة تامنصورت بمراكش، بعيدًا عن الأضواء ورفاهية الحياة. كان في بساطته نموذجًا للإخلاص والنزاهة. في عمر تجاوز التسعين عامًا، ما زال قلبه وصوته يتناغمان مع بعضهما البعض بقوة كأنه في ريعان شبابه. تذكرت ملايين الشباب اليوم الذين يخنقهم الصمت ويثقلهم العبء،
في ذلك اليوم، كان لحسن زغلول فرحاً بقدومي. كانت حياته مليئة بالأحداث والمشاهدات، وكنت أشتاق للعودة إليه لسماع المزيد. عشت معه لحظات من التواضع والبساطة،. كان زغلول يعيش بعيدًا عن الثراء والرفاهية، ولم يسعَ لنيل المال أو المكانة بنضاله.
لحسن زغلول قضى 36 سنة في الجزائر بعدما أصبح مطلوبًا من قبل النظام المغربي. تلك السنوات كانت مليئة بالذكريات والمذكرات. وبعد مرور بعض الزمن، عفا النظام المغربي عن معارضيه، وعاد زغلول وأمثاله إلى أرض الوطن. عاد العديد من الشخصيات الوطنية التي ناضلت في الخارج إلى حضن الوطن.
لحسن زغلول لم يكن مجرد شخصية تاريخية، بل كان رمزًا للإنسان الذي يحب وطنه بصدق. عاش حياة مليئة بالنضال والتضحيات، بعيدًا عن المصالح الشخصية. لم يسعَ وراء الثروة أو المنصب، بل كان يهدف إلى رؤية المغرب حرًا ومستقلًا ومتقدمًا. في زمن نرى فيه الكثير من الأبطال المزيفين الذين يبيعون كرامتهم ومبادءهم بثمن بخس، كان زغلول نموذجًا للرجل الوطني الأصيل.
الأسئلة حول حياة زغلول واختياراته ستظل معلقة، لكنني وجدت بعض الأجوبة في سلوكياته وصوته وحركاته. عاش زغلول محبًا لوطنه، متحملًا مشاق النضال والاغتراب، ورافضًا بيع كرامته. كان رجلاً يعشق هواء المغرب واستقراره، ناسه ورياحه، ويكره بيعه بدراهم لا تساوي شيئًا أمام الكرامة والشرف. للأسف، في زمننا الحالي، يبيع الكثيرون كرامتهم بلا خجل، لكن زغلول كان دائمًا استثناءً لهذه القاعدة.
من خلال لقاءاتي مع لحسن زغلول، أدركت كم كان هذا الرجل فريدًا ونبيلًا. كان يجسد القيم التي نفتقدها اليوم، وكان يعيش حياة بسيطة بعيدة عن الأضواء والزخرف. كان نموذجًا للوطني الحقيقي الذي قدم كل شيء من أجل بلاده، دون أن ينتظر شيئًا في المقابل. كان صديقًا حقيقيًا لجدي المقاوم محمد العربي ميدة، وكان مثله رمزًا للتضحية والإخلاص.
سيبقى لحسن زغلول في ذاكرتي رمزًا للكرامة والشجاعة، وسيظل مثله الأعلى يلهمني ويذكرني بأن النضال من أجل الوطن يتطلب تضحيات كبيرة، وأن الوطنية الحقيقية لا تُقدر بثمن.