وجهة نظر

دور العوامل غير القانونية في ترسيخ  منظومة حقوق الإنسان-ذ المحامي جدي عبدالرحيم

نص المداخلة التي ساهم بها الاستاذ المحامي جدي عبدالرحيم من هيئة الدفاع بمراكش في الندوة التي نظمتها التنسيقية المحلية للدفاع عن الحريات والحق في التنظيم

أكثر من   نصف قرن من النضال الحقوقي المنظم  – على اعتبار أن العصبة أسست سنة 1972 – والكثيف حتى أنه أصبح يغطي أو في الأقل يرافق كل أصناف النضال الأخرى – نقابية ، سياسية . فئوية …الخ – إلا أنه لا يمكن التأكيد أن عملنا الحقوقي تخطّى نقطة اللارجوع .. صحيح تحققت مكتسبات ليس فقط على مستوى التشريع الذي يهم حقوق الإنسان مباشرة كالمسطرة الجنائية ، ومدونة الأسرة والدستور .. الخ بل أيضا في ضمان حماية تلك الحقوق على ما يلاحظ من تفاعل القضاء المغربي مع مبادئ المواثيق الدولية وتبني عللها في بعض قراراته ..إلا محاكمات في السنوات  الأخيرة – وقدمت عينات عنها في المداخلات السابقة – طالت أشكالا من التعبير عن الرأي – خاصة المدونين والمؤثرين –  تبعث على القلق وتحفز على تنويع مقارباتنا لإشكالية ترسيخ منظومة حقوق الانسان ، ليس فقط في أداء أجهزة الدولة االعنفية والأيديولوجية بل أيضا في الوعي الجمعي العام ..

وكما سبقت الإشارة ، فإن تحقيق مكتسبات حقوقية على مستوى التشريع لم يتمخض عن تحول نوعي أو على درجة من الأهمية في الوعي الحقوقي العام للمجتمع – التجوال بالطرق العمومية مثلا  كمؤشر على مدى الالتزام بسيادة القانون ، وطرق التصويت وهو مؤشر عن  مدى الوعي بأن الناخب مصدر السلطة ..  ومتابعة قضايا هدر المال العام باعتباره ملكية جماعية ..هذه الأوضاع تنم عن وعي حقوقي متواضع ولا يرقى إلى مستوى التحديات التي تجابهنا للمساهمة في بناء دولة المواطنة .. ومن هنا تفرض هذه الإشكالية نفسها : ما هي العوائق التي تمنع ترسيخ وتوطين منظومة حقوق الإنسان في الوعي الجمعي .. والذي إن تحقق   سيفرض نفسه على من يتولى تنفيذ القانون  والمخاطب به ؟

عرف علم القانون – وأخص بالذكر المدرسة الفرنسية – تحولات عميقة على مستوى المناهج التي يعتمدها لمقاربة الظاهرة القانونية .. لقد تجاوز حدود الرؤية المعيارية للقانون – approche normative – وهي بطبيعتها رؤية شكلية  وانفتح على مناهج العلوم الانسانية القريبة كعلم الاجتماع وعلم النفس ..وعلم السياسة مما أفضى إلى تبلور علم الاجتماع القانوني ، والقانون الدستوري والمؤسسات السياسية  وفلسفة القانون  .. الخ . لنكتفي بهذه الخلاصة  المنهجية من كل هذا التراكم والتحول في علم  القانون: لم يعد يفسر القانون بالقانون كالبحث مثلا في الوثيقة الدستورية عن مدى استقلال السلطة القضائية ..بل أصبح يبحث عن هذا الاستقلال في الممارسة القضائية نفسها وما يحيط بها من ملابسات

هذا السياق المنهجي / المعرفي يفرض أسئلة جديدة في التعاطي مع ظاهرة تشكل الوعي الحقوقي الحديث في المجتمع : ماهي العوامل غير القانونية التي من شأن توفرها تسريع توطين الوعي الحقوقي الحديث  ؟ 

 وهي نفس الطريقة/ الرؤية التي كان عالج بها المرحوم عزيز بلال  موضوع  التنمية  إذ بحث في مدى  تأثير “العوامل غير الاقتصادية  في التنمية ”  سلبا وإيجابا ،  و يمكن كذلك البحث أو استشراف حجم  تأثير  العوامل غير القانونية (أو ما بعد قانونية Métajuridiques   ) كالعامل الثقافي ، أو السياسي  أو الاجتماعي على تعزيز وتكريس منظومة حقوق الإنسان  أو بالعكس تركها مهلهلة وغير فاعلة بالقدر  الذي يضمن تحقيق العدالة المواطنة  ، وهي حالة التطابق بين المعيار /القاعدة وممارسته الفعلية  .

وللتذكير ، يقصد بمنظومة حقوق الإنسان مجموع الإعلانات والعهود والاتفاقيات  التي أصدرتها الهيئة الأممية أو أحد المنظمات الدولية والمصادق عليها كليا أو مع تحفظ من قبل الدول الأعضاء بالمنتظم الدولي ، أي ما يعرف بالمواثيق الدولية  التي تحدد   الحد الأدنى الذي يجب على الدول الأعضاء  والمؤسسات التابعة لها  ملاحظته أو تجنبه في تعاملها مع مواطنيها سواء كأفراد أو جماعات  ..تحت طائلة اعتبار التعامل أو الوضعية غير عادلة ومخلة بقواعد الشرعية المذكورة   والمساءلة  أمام اللجنة الأممية لحقوق الإنسان  المنظمة بمقتضى البرتوكول الاختياري الأول .

     قواعد الشرعية الدولية هذه تجد طريقها إلى التنفيذ  في التشريع الوطني من خلال التنصيص عليها صراحة بالدساتير كما هو شأن دستور 2011 بالمغرب إذ جاء بديباجته  أن الدولة المغربية  تتعهد  “بحماية  منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما ، والإسهام في تطويرهما ، مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق وعدم قابليتها للتجزئ ” أو بمجرد المصادقة عليها ونشرها بالجريدة الرسمية ، كما هو الشأن بالنسبة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان  والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وغيرهما من الاتفاقات الدولية  كالوثيقة الأممية لمكافحة الفساد والاتفاقية الدولية للشغل ..

غير انه عند تفحص القواعد أو المعايير المضمنة بالمواثيق والنظر في مضمونها سيتأكد أنها ليست  مجرد معارف تقنية تهم مجالا معينا وتفرض على الدول والمؤسسات العمومية طرقا و أساليب معينة  في التعامل مع مواطنيها

بل إن تلك القواعد /المعايير تكتنز وتنطوي على رؤية معينة للعالم ( أي ذات بعد فلسفي ) فضلا عن أنها تجر وراءها تاريخا سياسيا ومؤسساتيا لا يتوافر لأغلب الدول الموقعة على المواثيق .. كما أن تطبيق بعضها والالتزام به يقتضي توفر نصابا اقتصاديا بمواصفات معينة لا تتمتع به أغلب الدول المخاطبة بأحكام الشرعية الدولية ..  وقبل البحث في تداعيات هذه العوامل وأثرها على التمتع الفعلي بالضمانات المنصوص عليها بالمواثيق الدولية بله وعيها  ، سأعرج على تقديم عينيات ملموسة عن المفارقات بين قواعد الميثاق الدولي والظروف –الشروط الواقعية التي “ستطبق” فيها بطريقة ما .

أولا : حول المضمون الفلسفي المؤسس للمواثيق الدولية :

سبق للكاتب لوسيان كولدمان أن برهن من خلال تطبيقات  همت  النصوص الأدبية الكلاسيكية الفرنسية  – مسرحيات راسين وموليير ..الخ – أن العمل الفكري / الفني  تسنده بالضرورة  رؤية عامة للكون – كالرؤية المأساوية للعالم بالنسبة للأديبين المذكورين   – و هي التي تحدد دلالته العامة  وأنه يجب على الباحث استخلاصها من العمل نفسه .. ثم إعادة ربطها بحاملها الاجتماعي  للوقوف على دلالته  ،  كما هو الحال بالنسبة للرؤية المأساوية التي عبرت وعكست بداية تآكل وانهيار الأرستقراطية …( يراجع كتابه Le dieu caché – ed minuit 1962)  ..

و بنفس الطريقة ، وعند الفحص الدقيق في معايير المواثيق   المؤسسة للشرعية الدولية سيتأكد أنها مبنية على مجموعة افتراضات ومبادئ لا يستقيم فهمها إلا بعد إعادة موضعتها ضمن نظريات العقد الاجتماعي و فلسفات الحقوق الطبيعية التي واكبتها …

وقبل استعراض التفاصيل للبرهنة على الملاحظة المذكورة ، أذّكر ابتداء أن فكرة منتظم دولي يؤمّن السلم والأمن العالميين  تعود إلى الفيلسوف إيمانويل كانت في دراسة مقتضبة له بعنوان ” من أجل سلم دائم ” وهي تستحضر تجربة حرب الثلاثين سنة التي توجت باتفاقية ويستفاليا سنة 1668 .. الاتفاقية التي كرست الدولة-الأمة و حرية التدين ..الخ  وكانت عصبة الأمم أول محاولة لتفعيلها .

تطالعنا ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الانسان بمقدمة كبرى تقول : ” لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم ” وهي تقريبا نفس العبارة التي افتتح بها العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية بقوله ” وإقرارا منها بانبثاق الحقوق من الكرامة المتأصلة في الإنسان ” .. واضح أن مشرع  المواثيق الدولية يستند إلى فلسفة سياسية كانت تبلورت معالمها منذ الرسالة في اللاهوت والسياسة  لسبينوزا مرورا بما بات يعرف بمدرسة العقد الاجتماعي بجناحيها الملكي والجمهوري ( هوبز ، لوك ، روسو ) .. هذه المدرسة على اختلاف رموزها تؤمن بأن الحرية الفردية ليست هبة من السماء وإنما هي متأصلة في الطبيعة الإنسانية وأن خروج الانسان من الحالة الطبيعية – التي قوامها الإنسان ذئب لأخيه الإنسان كما عند هوبز –  اقتضت أن يتنازل عن جزء من هذه الحرية وتفويضه إلى هيئة عامة تتولى الإشراف على فرض سيادة القانون ..هيئة عامة تفرزها عملية الانتخاب  ومن حق المنتخبين مقاومتها إن حادت عن التزاماتها الأساسية ( روسو وحق مقاومة الطغيان ) – أو التنازل عن كل الحرية لفائدة السلطة العامة كما عند هوبز – ..

لعل هذا الاختزال لمدرسة العقد الاجتماعي ، التي شكلت القاعدة الفلسفية للحداثة السياسية ، كاف للبرهنة على أن المواثيق الدولية الأساسية تستلهم رؤية فلسفية بخصوص  تنظيم السلطة العامة ..وهي رؤية تتميز بدهريتها أي انتزعت مصدر السلطة من السماء  والسلف إلى التعاقد الاجتماعي مع ما يترتب عن ذلك من حريات وحقوق ..وهنا يطرح الإشكال : هل هذه المواثيق – بخلفيتها الفلسفية المذكورة – محايدة ويمكنها أن تكون فاعلة ومؤثرة عندما تؤطر فضاءات مجتمعية محكومة بلاشعور سياسي ( ريجيس ديبري )  مختلف  قوامه ” العقيدة والقبيلة والغنيمة ” كما شرّح ذلك الراحل عابد الجابري في ” نقد العقل السياسي العربي ” أو الآداب السلطانية – العلام – وكذلك ” في الاستبداد ” لكمال عبداللطيف ؟  وإلى أي حد يمكن فهم الاختلالات التي ترافق محاولات توطين معايير المواثيق الدولية على أنها ناتجة عن هذا التمايز في الرؤية الفلسفية التي تؤطر الفاعل السياسي حتى ولو كان معارضا للوضع القائم  بهذه المجتمعات ؟

والحق أن مشرع الاعلان العالمي لحقوق الانسان كان واعيا بهذا التحدي لتعميم أحكامه ودعى إلى ” توطيد احترام هذه الحقوق والحريات عن طريق التعليم والتربية واتخاذ إجراءات مطردة .. لضمان الاعتراف بها ومراعاتها …” ( الديباجة )  .

نحن إذن بصدد عامل ثان غير قانوني ، عامل اجتماعي قوامه التربية والتعليم لتوطين ثقافة حقوق الانسان.. هل المدرسة العمومية المغربية تنهض بهذا التحدي 

تنص  المادة الأولى من القسم الثاني  من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على “أن تتعهد كل دولة طرف في العهد الحالي  بأن تقوم منفردة ومن خلال المساعدة والتعاون الدوليين باتخاذ الخطوات ، خاصة الاقتصادية والفنية ، ولأقصى ما تسمح به مواردها المتوافرة من أجل التوصل تدريجيا للتحقيق الكامل للحقوق المعترف بها في العهد الحالي بكافة الطرق المناسبة بما في ذلك على وجه الخصوص تبني الإجراءات التشريعية ..” 

واضح من النص المذكور ان مشرع العهد مدرك أن التوصل تدريجيا للتحقيق الكامل للحقوق المعترف بها بمقتضاه – اق وثق – تقتضي اتخاذ خطوات اقتصادية وفنية أي عمليا السعي إلى التصنيع  باقصى ما تسمح به الموارد المتوفرة .. و التصنيع  هذا ينبغي أن يعتمد خاصة الإجراءات التشريعية أي بمبادرة من المؤسسات العمومية   وليس الخضوع لإملاءات صندوق النقد الدولي وخرافة المبادرة الحرة  في وضعية التخلف ..

وبالنتيجة  يمكن الاستنتاج أن العامل الاقتصادي  المناسب  شرط حاسم وضروري  لتعميم الحقوق الاقتصادية والثقافية ..الخ البؤس الاقتصادي  لا تتحقق معه تلك الحقوق ممارسة ووعيا.

أتمنى أن أكون وفقت في البرهنة على الدور الحاسم والفعال للعوامل غير القانونية  – فلسفية ، اجتماعية ، اقتصادية -في توطين وترسيخ ثقافة حقوق الانسان .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى