ثقافة و فن

التجارب المسرحية الشبابية، من الهواية نحو الاحتراف.. الرهانات والتحديات تجربة فرقة فوانيس ورزازات المسرحية

إسماعيل الوعرابي

ورقة ضمن فعاليات مهرجان عشاق المسرح ببرشيد  من 10 إلى 13 يوليوز 2024 تحت شعار: نحو مسرح متجدد عنوان للمائدة المستديرةالتجارب المسرحية الشبابية، من الهواية نحو الاحتراف.. الرهانات والتحديات تجربة فرقة فوانيس ورزازات المسرحية  

جزيل الشكر والامتنان للأصدقاء المناضلين، عشاق المسرح هنا في برشيد

  • أولا: شكرا على الدعوة الكريمة للحضور والمشاركة ضمن هذه المائدة المستديرة، التي تناقش موضوع التجارب المسرحية الشبابية من الهواية نحو الاحتراف.
  • ثانيا: أنقل لكم شكر الفوانيس على اختيار التجربة موضوعا للنقاش والتمحيص والافتحاص، وللمقاربة والمساءلة، فالنموذج هنا ليس من باب الاستثناء ولا المثالية، لكم من باب القدرة على التواجد الفني في الساحة المسرحية المغربية.
  • ثالثا: نقدر جهود العشاق في برشيد على الاستمرار فس النضال، ومواصلة هذا الجنون، لا شيء يضمن الصبر على هذا الاحتراق بالقاف، إلا الجنون، سعيا للوصول إلى الاحتراف بالفاء، وهو موضوع جلستنا هذه الصبيحة.

سأتناول هذه الورقة من خلال المحاور التالية:

  • الهواية والاحتراف… مفارقات المسمى والوسائل والأهداف
  • فوانيس المسرحية، مشروع الالتزام بالمسار، ومسار الالتزام بالمشروع
  • فوانيس المسرحية: فرجات درعة تافيلالت علامة فنية قابلة للتسويق الفني والمسرحي
  • فوانيس المسرحية: تݣنزة قصة تودة، حكاية جواز سفر مسرحي مفتوح الآفاق
  • فوانيس المسرحية: ورزازات أرض الفرجات أماناي واحة المشاهد.

 ? —   الهواية والاحتراف… مفارقات المسمى والوسائل والأهداف  —

لا يمكننا في الوقت الراهن أن نستعمل كلمتي الهواية والاحتراف هكذا دون تدقيق مبني على دراسات وإحصائيات دقيقة، والكلمتين في أصلهما تحملان من الجوامع المشتركة، أكثر مما تحملان من القواسم والتمفصلات، إذا لا يمكن أن تكون محترفا بالشيء، دون هواية بالغة الأثر في النفس والاشتغال، لكن في مجال المسرح تستعمل كفصل إجرائي، لتكيبز الإطارات المشتغلة في المسرح، ونقصد ونلح على تمييز الإطارات، لا تمييز الإنتاج والإبداع المسرح، وإلا فنحن كجمهور متلق للإبداعات المسرحية، نجد تجارب محسوبة على “الاحتراف” لا تملك من هذا المقوم إلا الاسم، وكم كن تجربة توصف بأنها “هاوية” ارتقت بإبداعها فوق ما يتصور العمل الفني المسمى “محترفا“.

فنحن إزاء موضوع حافل بالتناقضات، وثنائية الهواية والاحتراف، ظلت منذ سنين وإلى عهدنا مثار نقاشات غير محسومة، وينظر إليها من ثلاث زوايا مختلفة ومنفردة عن بعضها البعض، وهذا التفريق هو ما يجعل من الأمر أكثر تناقضا:

  • الزاوية الأولى: المسمى

هناك تجارب استفادت في فترة من الفراغ الفني، أو من قربها كن المركز، أو من علاقاتها الإدارية، أو بحكم واجهتها وشهرتها، أو من قربها من صناع القرار، حظيت بموارد مادية، ساهمت وسهلت في انتشار وترويج نوع من المسرح، واستمرت في ذلك لسنوات، هذا الترسيخ والحضور مقابل ذلك الغياب الممنهج لفرق أخرى مشتغلة، جعل من الفرق الحاضرة المستفيدة، محترفة، والفرق الغائبة هاوية، وإن كان التصنيف الأنسب هنا هو فرق محظوظة وأخرى محرومة بفعل غياب البنية التحتية والجغرافيا والبعد عن المركز، وغياب مراكز التكوين، وغيرها من الحواجز الرهيبة التي لا يمكن لفرقة محلية أن تتجاوزها.

  • الزاوية الثانية: الوسائل

هذه الزاوية، تنظر إلى العمل من خلال ظروف إعداده، وسبل ترويجه، على وسائل الإعلام، أو في مختلف المحافل الوطنية والدولية، أو على خشبات المسارح، وهذه الزاوية كفيلة بأن تحدد الفوارق، والحاسم مرة أخرى هو الغلاف المالي المرصود، لكن لا يمكن أن نبخس اجتهاد إطارات فنية في ترويج إنتاجهم وتنويع وسائلهم، وتبدو زاوية الوسائل مهمة جدا في تقييم العمل والإنتاج الفني، واعتباره محترفا من زاوية الوسائل وآليات الاشتغال.

  • الزاوية الثالثة: الأهداف

وهي حجر الزاوية في كل الزوايا، فما يجعل من العمل المسرحي او الفني محترفا، هو استناده إلى مرجعيات في الفكر والثقافة والآداب والمسرح والفنون والتنشيط الثقافي، والتنظيم.

سؤال الغاية والأهداف سؤال حاسم في المسرح، خاصة عند مقاربته بقضايا السوسيولوجا:

أي مسرح نريد لأي مجتمع؟

واي مجتمع نريد بأي مسرح

أسئلة القضية زالراهنية والغاية والتوجهات، محورية وهي جوهر الأهداف المنشودة، متى نضجت هذه الأهداف واتضحت تيسرت الوسائل واتضح المسمى، ومتى تضاربت الأهداف ارتبكت الوسائل وتناقض المسمى، ولا يهم حينها إن كنت هاويا أو محترفا، الأهم من هذا وذاك أنك تتنتج ما تعتبره مسرحا دون بوصلة، وعمره الفني الافتراضي لن يكون له أثر في الجمهور فكيف له أن يسهم في إنتاج  “رؤية العالم” بمفهوم لوسيان ݣولدمان، أو بمفاهيم رؤى العالم عند إيمانويل كانط، أو غيرها من المقاربات في علم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا.

 

? — فوانيس المسرحية، مشروع الالتزام بالمسار، ومسار الالتزام بالمشروع —

تحمل رسالة جمعية فوانيس الفنية شعار الفن والثقافة كجسر للاتصال والتواصل الحضاري الفعال، الذي تنشده الإنسانية. فوانيس تجربة جمعوية تأسست سنة 2005 بمدينة ورزازات بالجنوب الشرقي للمملكة المغربية، وهذه المدينة التي نتشرف بالانتماء إليها، أسعفتنا في تجربتنا الفنية بإرثها السينمائي العالمي الغني، وهو تراث فني غني انطلق منذ سنة 1897 بفيلم راعي الماعز المغربي، ثم فيلم موروكو 1930 وفيلم عطيل 1949 وتوالت الإنتاجات العالمية الكبيرة:

–  “الرجل الذي يعرف أكثر” عام 1955 لجيمس ستيوارت

– “لورانس العرب” 1962 لعمر الشريف،

– “باتون” عام 1970 لجورج سي سكوت.

–  “الرجل الذي سيصبح ملكا” 1975 لشون كونري،

– “جوهرة النيل” عام 1985 لمايكل دوغلاس

– “المصارع”، والذي قام ببطولته الممثل النيوزيلندي راسل كرو عام 2000

–  “عودة المومياء” عام 2001،

– “لعبة تجسس” لروبرت ريدفورد وبراد بيت سنة 2001

– “مباشر من بغداد” لمايكل كيتون 2002،

– “هيدالغو” لعمر الشريف 2004،

– “الإسكندر” لكولن فاريل وأنجلينا جولي 2004

– “مملكة الجنة” لأورلاندو بلوم 2005 وعدد كبير من روائع الفن السينمائي العالمي.

 

 ومن جهة أخرى فمنطقة ورزازات وجهة درعة تافيلالت عموما والجنوب الشرقي المغربي يزخر بتنوع اجتماعي وغنى ثقافي وموروث شعبي وفرجوي، تتعانق فيه بتناغم منقطع النظير، الجذور الأمازيغية والروافد العربية الإسلامية والأبعاد الإفريقية، في تجسيد مبهر للقابلية الإنسانية في التواصل والتلاقح، ما أكسب هذه الموروث قدرة على الصمود الفاعل وقوة في الفعل والتفاعل والتأثير والتأثر على مدى عصور طويلة.

هذا الغنى يلزمنا كمهتمين بالمجال المسرحي إلى ضرورة البحث في آليات توظيف هذا الإرث المتنوع توظيفا يحترم خصوصياته ومقوماته الاجتماعية ويليق بما راكمه من زخم فني، وكذا تجريب كل ممكنات مسرحته وتمسرحه ومدى إمكانية تحقيق فرجة مسرحية رصينة.

 

إذن فلا غرابة ان  تطل فوانيس بكل أريحية  على كل الواجهات الثقافية، وتنفتح على كل الاتجاهات الفنية والمسرحية التي من شأنها تعميق الاشتغال الفني والجمعوي والمدني للجمعية، وهذه جوهر أهدافها التي تسعى من خلالها إلى تحقيق التنمية عبر الثقافة والوعي الفني، وجعل الواجهة  الفنية والثقافية لورزازات هي العلامة المسجلة.

ولتحقيق ذلك تعمل فوانيس على تكثيف جوانب اشتغالها الفني عبر البحث والتكوين والملازمة على حضور مختلف الأنشطة المسرحية محليا وجهويا ووطنيا ودوليا، والعمل على تنظيم وتأطير ملتقيات وتظاهرات دولية كبرى تخدم بالدرجة الأولى ترسيخ ثقافة الفن وفن الثقافة، والنهوض بالسياحة الثقافية.

 

?— فوانيس المسرحية: فرجات درعة تافيلالت علامة فنية قابلة للتسويق الفني والمسرحي

تعد الفرجات التراثية مقوما أساسيا من مقومات البنية الثقافية والفكرية للمجتمعات، وتعد ركيزة أساسية من ركائز هويتها، وهو ما يتضح جليا  من مكانة هذه الفنون في الحياة العامة للمجتمع قديما، ومع تطور المجتمعات حديثا فإنها لازالت تنتزع مكانتها الاعتبارية ضمن خريطة الفنون رغم التهميش الذي تعانيه والإقصاء الذي لا زال يطالها. وفي غفلة عن الأدوار التي يمكن أن تضطلع بها هذه الفنون، خاصة الجوانب ذات الصلة بتنويع الطرح الثقافي، وترقية الذوق الفني والجمالي، وتضمينه ما يوازن بين ثقافة الجمهور وتراثه،وتكثيف المشاركة الثقافية العامة، وتأصيل الفنون ومغربتها، وما يمكن أن تسهم به من ترسيخ لمفهوم المواطنة، وبناء شخصية المواطن التي تعد في حد ذاتها جزءا  من الشخصية الوطنية نفسها.

إن هدف الارتقاء بهذه الفرجات، وإبراز عمقها الفني والفكري، عصب هذا المشروع الفني الذي يسعى إلى إيلاء هذه الفنون المكانة اللائقة بها، لما لها من فاعلية في التنشئة الاجتماعية القويمة في الوقت الذي كان لا بد أن تتبوأ فيه مكانة مرموقة ،فإنها عانت تقزيما ممنهجا، فظلت مرتبطة بمواسم أو مناسبات معينة، بل حتى على مستوى استثمارها وتوظيفها، فإن التصور الفكري غالبا ما ينتابه طابع التضارب فلا هي تظل فرجات أصيلة ولا هي فنون معاصرة. ومحاولات التوظيف هذه، تحتاج في الكثير من الأحيان إلى روية وفهم عميق لعمليات توظيف التراث وملاءمته، وإعمال المقاربتين التي صاغها محمد عبد الجابري في شكل سؤال يستبطن سؤالين:

كيف نعيش عصرنا؟، كيف نتعامل مع تراثنا؟

كيف نحقق ثورتنا؟ … كيف نعيد بناء تراثنا؟

فمتى ترسخ الاعتقاد بقدرة المقومات التراثية على تنمية الوعي والمساهمة في النهضة والتقدم، كلما اكتشفنا ممكنات عدة لتوظيفها في مجلات عدة، وهذا لن يتحقق بطبيعة الحال، إلا في حال صياغة هذه العمليات في أبحاث ودراسات وضمن مشاريع فنية مدققة وممتدة ولها فرصتها الكاملة لاختبار نجاعتها وممكنات استثمارها، ومع ما يمكن أن تشكله كواجهة أنيقة للسويق الكوني لفننا وهويتنا.

 لكن ما يجعلنا مطمئنين لهذا الاختيار ومدى تحقق مكاسبه، هو توفر مادة الاختبار، فجهة درعة تافيلالت تزخر بتنوع اجتماعي وغنى ثقافي وموروث شعبي وفرجوي، تتعانق فيه بتناغم منقطع النظير، الجذور الأمازيغية والروافد العربية والأبعاد الإفريقية، في تجسيد مبهر للقابلية الإنسانية في التواصل والتلاقح، ما أكسب هذه الموروث قدرة على الصمود الفاعل وقوة في الفعل والتفاعل والتأثير والتأثر على مدى عصور طويلة.

    استنادا على هذه المعطيات تقوم رسالتنا ، وتلزمنا كمهتمين بالمجال المسرحي إلى ضرورة البحث في آليات توظيف هذا الإرث المتنوع توظيفا يحترم خصوصياته ومقوماته الاجتماعية ويليق بما راكمه من زخم فني، وكذا تجريب كل ممكنات مسرحته وتمسرحه ومدى إمكانية تحقيق فرجة مسرحية رصينة، خاصة مع تفاقم خطاب “أزمة المسرح” و”مسرح الأزمة” يبقى الموروث الفرجوي ملاذا آمنا في ظل عصر التكنولوجيات المتوحشة،  ومتنفسا نقيا لاستنشاق واستلهام نفحات  إبداعية صافية.

من هنا جاء اختيارنا لصياغة مشروع كانت خطوته الأولى التوقف عند هذه الفرجات والتعرف عليها، ثم أن نقترح فيما بعد الخطوة الثانية خطوة استثمار هذه الفرجات فنيا وثقافيا، وان ننتقل من مستوى دراستها إلى تطبيقها وأدائها، إنها مغامرة أكيدة، خاصة في ظل نزوح الجميع نحو التجارب الفنية المعاصرة.

لكنها تظل مغامرة مضمونة المكاسب، فالقضايا التي تحف بالفرجات مختلفة ومتشعبة، ومجالات النقاش فيها متعددة كما أن مجموعة أمور تأخذ مأخذ التسليم تحتاج إلى إعادة ترميم وبناء، من خلال إبراز أهمية البحث والدراسة في مواضيع تهم الفرجات والفنون الشعبية، وما سيترتب عن ذلك من فوائد نظرية وتطبيقية.

 

ويمكننا أن نجمل الدوافع وراء هذا الاختيار فيما يلي:

  • الرغبة في بناء نظرة شمولية حول موضوع الفرجات والفنون الشعبية بدرعة تافيلالت، وصلتها بالثقافة والفن وآفاق تثمينها وسبل استثمارها.
  • السعي إلى استثمار خلاصات هذا المشروع في اقتراح وصياغة مشاريع فنية وأنشطة ثقافية بخلفية فكرية رصينة، تهم الفرجات بدرعة تافيلالت.
  • البحث في مواضيع من هذا القبيل يحتم ضرورة الاطلاع على كم كبير من الأبحاث المختلفة والمتنوعة تنظيرا وتطبيقا، والاستعانة بنماذج عملية وهذا إغناء للرصيد الشخصي للمكونين والمستفيدين،وتوسيع معارفهم المتعلقة بهذا الشأن.
  • أن يكون هذا المشروع منطلقا لدراسات محكمة ومعمقة تهم مقاربة المشروع الفني والمجال.
  • تطوير آليات الاشتغال على مستوى المشاريع الفنية وخاصة المسرحية منها، وبحث صلات التقارب بينها وبين فرجاتنا التراثية

  ومن شأن هذا المشروع أن يكسب  اشتغالنا نوعا من العلمية، وأن يمهد لأعمال فنية تستثمر التراث الفني الفرجوي في علاقته مع مجاله السوسيوثقافي، ولا شك سيكسبه ذلك صيتا وانتشارا.

 ? — فوانيس المسرحية: تݣنزة قصة تودة، حكاية جواز سفر مسرحي مفتوح الآفاق 

تعد هذه التجربة لجمعية فوانيس، وهي الإطار المنظم لمهرجان أماناي الدولي للمسرح بورزازات، وحاملة مشروع توطين الفرجات التراثية بالمركز الثقافي بزاݣورة، امتدادا لهذا المسار، وخطوة أخرى نحو استثمار المكون التراثي والفرجوي، والانتقال من مستوى تثمينه إلى مستوى استثماره، كانت مغامرة أكيدة.

كان الإعداد للعمل مختبرا حقيقيا وورشا مفتوحا للخلق امتد زهاء سنتين ونصف من اللقاءات والإقامات الفنية المغلقة، بين الرباط وورزازات، “تَݣْنْزَة قِصَّةُ تُودَة”، عمل أنتج بدعم من مسرح محمد الخامس،

تَݣْنْزَة قِصَّةُ تُودَة” دراماتورجيا وإخراج الفنان أمين ناسور ومن توقيع إسماعيل الوعرابي وطارق الربح  وأمين ناسور تأليفا وإعدادا.

 « وُضُوحُ الْعِبَارَةِ لَا يَعْنِي دَائِماً وُضُوحَ الْفِكْرَةِ » كانت هذه المقولة للمفكر المغربي العلَّامة الدكتور محمد عابد الجابري رحمة الله عليه، فكرة محورية واستراتيجية اشتغال في العمل المسرحي #تݣنزة_قصة-تودة، فكل مشتغل على التراث لا شك سيصطدم بالحيرة في الاختيار، فالتعدد والتنوع والغنى تيمة تطبع الموروث اللامادي المغربي، والمُقبِل على ملاءمة الموروث الشفاهي والغنائي لجهة درعة تافيلالت، وتوظيفه فنيا لن يحظى بذلك اليسر الذي يتيحه عامل الوفرة، فنحن إزاء معطيات فنية محضة، لكن دوافع إنتاجها وإبداعها تتداخل فيها مقومات سوسيو ثقافية ومجالية، وتحكمها متغيرات تاريخية وسياسية واجتماعية، وتتعمق مضامينها حد الشساعة بالرموز والعلامات التي فرضتها وتفرضها بإلحاح عوامل المثاقفة عبر الأزمنة بين الهويات الأصيلة الأمازيغية والإفريقية، وبين الروافد الثقافية الوافدة العربية والإسلامية واليهودية، وغيرها من المقومات الناتجة عن هذا التلاقح والتلاقي.

وسط كل هذا الغنى، قد لا تشكل العبارات والألفاظ الهاجس الفني الأكبر لصياغة عمل فني مسرحي يحترم كل هذه الانتماءات ويوظفها جماليا مع ما تقتضيه الفرجة المسرحية المعاصرة من ممكنات محدودة في الزمان ومحكومة بالمكان ومنضبطة لإمكانيات الإنتاج الفني.

 هي قصة بنفحات جبال الأطلس الكبير، الفاصلة بين سهول الحوز، وواحة درعة الْخَيْرِ، تحكي تجربة سيدة مهووسة بأحواش، وهو فن تراثي غنائي، لكن! زوجها لم يكن راضيا عن هذا الحضور، استفزه، اشمأز منه، استشاط غضبا، فسجنها ذات ليلة في غرفة صغيرة مظلمة بنافذة صغيرة لا يكاد يتسرب منها وإليها إلا مقدار يسير من الهواء. وصادف في ليلة أن أُقيم حفل زفاف في قرية بعيدة، فصدحت أنغام أحواش، وتسللت أهازيجه عبر المنفذ إلى فؤادها، يغنون فترد عليهم من نافذتها منفذها إلى الحياة، حمي وطيس أحواش، فتعالت أنغامها من الغرفة-السجن، تعالت، تعالت… تعالت… انفجرت فتحرر صوتها من الغرفة واصلا إلى ساحة أَسَايْسْ، أدهشهم، شدهم، فسكنهم، فجاؤوا أفواجا وفرادى حتى تحلقوا حول البيت.. الغرفة السجن… هل حرروها؟ أم استمتعوا فقط بنغمها وغادروا؟

 هنا نهاية الأسطورة، وينطلق طقسنا المسرحي، الذي يحكي تجربة تُودَة، فتاة من أسرة تنحدر من إحدى قرى ورزازات، وللقرى وقع خاص في القلب والروح، ثمة الهدوء والسكينة، وإيقاعات حياة متموجة تشكلها صرخات تَݣْنْزَا نْوَمَّاسْ (بندير الوسط)، وبهجة تَݣْنْزَ نْطَّرْفْ (بندير الجنبات)، ووجاهة الدّْنْدُومْ (الطبل الكبير)، حكايات يلفها أَحْوَاشْ بنغمات تتراءى بَادِيَّةً وَلَا تَكَادُ تُسْمَع… فتُودَة قصة من هذه الحكايات… حيث إن تُودَة تلخص ملامح كل نساء القرية، تحمل أحلامهن وآلامهن وآمالهن، ونظرتهن للعالم التي تحجبها سلطة متقنعةٌ بجبال شامخة عصماءَ، لا صمَّاءَ ولا جوفاءَ.. إنها لعنة الجغرافيا..

تُودة .. مرجعية للذاكرة ولكل ذكرى في القرية، استحالت هذه العوالم ثقافةً وتاريخاً وأحداثا، فتشكلت وقائِعُها سفرا بالمسرح إلى معانقة هذا الجنوب، معانقة بريئة مخلصة تبحث عن سبل فنية لإعادة تشكيل بعض المعاني الهاربة، وصياغة مفاهيم ممكنة لمداعبة هذا الزخم من التراث وإيصاله في شكل صور بصرية مرنة تحمل بطاقة تعريف مغربية أصيلة، وتحمل جواز سفر مسرحي مفتوح الآفاق

قْصَّة سْمْعْنَاهَا..

دْخْلْنَهاَ دْخُولْ رْزِينْ..

بْقَاتْ لْعْقُولْ لِيهَا مْشْدُودَة

أَحْوَاشْ رْبْطْنَا فِيَها رَبْطَة حْنِيَنة.

هَكْذَا سْمْعْنَاهَا…

وَلَّا هَكْذَا شْفْنَاهَا قْصَّة بْنِينَة مَمْدُودَة..

وْلَّا إِمْكْنْ هَكْذَا فْهْمْنَاهَا..

تَكْنْزَا .. قْصَّة تُودَة

هكذا كانت الفكرة مبدئيا، فانكب البحث عن النبش في مواطن الظِّل في هذه الحكايات، والجنوب كما لا يخفى عن الجميع، ظَلَّ منذ زمن في الظِّل حتى خفي عن الجميع، والمرأة في الجنوب، بنضالها وجهادها عبر العصور، ظَلَّت صانعة الأضواء ومنبع الأنوار ضدا في كل ظلام دامس،متوارية لكنها شجرة سحرية باسقة استظل بها مجتمعها البسيط، وتضحياتها لا يمكن أن تحصيها الكلمات، وتكريمها لا يمكن أن توفيه العبارات، سيدة فوق العادة وكل العادات، المرأة في الجنوب فكرة، ورقية في تراثنا فكرة، وتودة في عرضنا المسرحي فكرة، ولن تعوز العبارات مادامت الأفكار لا تموت.

فِي الْجَنُوبِ

كُلُّ النِّسَاءِ بِقَلْبَيْنِ

وَكِتَابٌ يَمْشِي عَلَى قَدَمَيْنِ

مَمْدُودٌ

مَفْتُوحٌ …

بِلَا دفَّتَيْنِ

وَلَا حُدُود..

 

فِي الْجَنُوبِ

لَوْ تَأَمَّلْتَ سُحْنَةَ سَيِّدَةٍ

اِعْلْمْ أَنَّهَا ثَرْوَةٌ

مِنَ الذَّهَبِ

نَفِيسٌ…

وَمِنَ الْحَفْرِيَّاتِ،

خَلْقٌ عَجِيبٌ

صَامِدٌ عَبْرَ الْعُهُود…

 

فِي الْجَنُوبِ

كُلُّ النِّسَاءِ بِكُرَيَّاتٍ بَيْضَاءَ

وَمَا بَقِيَ مِنَ الْحَمْرَاءِ

يَخْضَرُّ ..

وَأَحْيَاناً بِأَلْوَانٍ زَاهَيَّاتٍ

مُسْتَبْشِرَاتٍ بِهَذَا الْوُجُود.

 

 ? — فوانيس المسرحية: ورزازات أرض الفرجات أماناي واحة المشاهد

فوانيس هي الإطار المنظم لهذا المهرجان، ومهرجان أَمَانَّاي لهذه السنة يبلغ سنته 14، كل المشتغلين في حقل الثقافة المغربية، وخاصة منظمي التظاهرات الفنية يعلمون صعوبة تنظيم هذه اللقاءات والمهرجانات، وما تستوجبه من موارد مادية مهمة وبشرية متخصصة، ولعل سؤال الدعم يظل الهاجس الأكبر أمام أَمَانَّاي، وغيره من التظاهرات، الأفكار لا تعوزنا، لكن العنصر المادي يظل حاسما، الآن أكثر من أي وقت مضى، خاصة مع السعي إلى إرساء ممارسة فنية احترافية، فالمجال أضحى سوقا اقتصادية، والبحث فيه عن الجودة والإنتاجات الرفيعة يستدعي استثمارا ماديا كبيرا.

أَمَانَّاي نهضته الفنية والفكرية بادية للجميع، لكنه يحتاج إلى نهضة مادية مماثلة، وهذه مناسبة لتقديم الشكر لكل الشركاء والفاعلين في هذا المشروع الفني الذي يشكل واجهة مشرقة لمدينة ورزازات.

 أماناي وخلال عقد ونصف من الزمن  راكم  خلالها زخما كبيرا من المعارف والمدارك، والعلاقات، وأسس لحدث ثقافي سنوي بمدينة ورزازات أضحى له موقعا ضمن خريطة المهرجانات المسرحية الوطنية، واستثمارا لكل هذه التراكمات، واستشرافا لمستقبل المهرجان في العشرية القادمة، والتي يسعى خلالها أماناي إلى ترسيخ أقدامه الفنية، وتثبيتها من أجل تحقيق إشعاع محلي وجهوي ووطني ودولي يليق بما تسعى إليه ورزازات من إشعاع وانتشار كوني، بناء على هذه الطموحات المشروعة، نقترح تصورا شموليا لمشروع المهرجان يحمل عنوان: وَرْزَازَاتُ أَرْضُ الْفُرْجَاتِ.. أَمَانَّايْ وَاحَةُ المُشَاهِدِ

 ويستند التصور العام إلى تقسيم فعاليات أماناي إلى ست واحات:

 واحة أماناي الفنية للمسابقة المسرحية

واحة أماناي التكوينية لتنمية المهارات الفنية

واحة أماناي الفكرية للثقافة المسرحية

واحة أماناي الإشعاعية للأنشطة الفنية الموازية

واحة أماناي العلمية للبحث في الفرجات التراثية

واحة أماناي التكريمية لأعلام ورواد الممارسة المسرحية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى