بين جان جينيه ومحمد شكري -ذ.عبد الكريم الرطابي

لم يكن يخطر ببال احد أن يلتقي جان جينيه بمحمد شكري لو سار كل منهما وفق الأقدار التي حكمت عليهما. فكلاهما طفلان منحرفان عاشا في الهوامش. جينيه ولد في الشارع بعدما تخلصت منه أمه . تبنته أسرة باريسية .. بعد خمس سنوات بدأت بوادر الانحراف تنمو في سلوك الطفل . أصبح عدوانيا مع اقرانه ,مثيرا للشغب في المدرسة وفي الشارع .. لم يعد يلتحق ببيت الأسرة التي تبنته .. وهو يتقدم في سن الشباب تعاطى للسرقة واللواط .. حكم عليه بالإعدام وعمره بين (15 و 20 سنة ).. تشكلت نخبة من المثقفين الفرنسيين وعلى رأسهم جان بول سارتر للمطالبة بإطلاق سراحه ..
لعل دخوله عالم السجون ومعاشرته لفئات اجتماعية مختلفة جعلته يشق لنفسه مسارا استثنائيا جديدا في الحياة .. في السجن سيكتشف لذة القراءة مدعوما من طرف اللجنة التي دافعت عن إطلاق سراحه … بعد خروجه من السجن سيظل وفيا لعالم الثقافة والقراءة .. انصبت اهتماماته الأدبية لاحقا بالشخوص الواقعية المهمشة . ولعله يسترجع من خلالها جزءا من معاناته . في هذه الفترة كتب سيرته الذاتية (مذكرات لص ) ,ثم مسرحيته الشهيرة ( الخادمات ) التي شكلت قمة العطاء في المسرح الفرنسي نظرا للنجاح الذي حققته .. كانت سنة 1968 حاسمة في حياة جان جينيه . لقد اكتشف مهمشين جددا وعانق ماساتهم عندما قضى سنتين في مخيمات الثورة الفلسطينية بعجلون (الأردن) ومخيمات لبنان في ضيافة الثورة الفلسطينية بجميع فصائلها .. كان من نتائج هذه الإقامة انه اكتشف شعبا عريقا له تاريخه . طرد من أرضه بعدما تواطأت القوى الاستعمارية بعد الحرب العالمية الثانية وعصابات صهيونية أصولها أوربية تبحث عن مكان لتجميع يهود العالم . توجت هذه الفترة بإصداره كتابا بعنوان (أسير عاشق ) فيه اكتشف ودون عوالم شعب المهمشين والمنفيين مثله . روى في الكتاب معاناة الشعب الفلسطيني المطرود من أرضه , كما تناول فيه قضية (الفهود السود ) . كانت هناك حركتان تحملان نفس الاسم . الحركة الأولى أمريكية ناضلت ضد الميز العنصري في أمريكا . والحركة الثانية ظهرت في إسرائيل تكونت من المهاجرين اليهود من البلدان العربية . ولعل أشهر قادتها ومؤسسيها من اليهود المغاربة و على رأسهم رؤوفين افرجيل من مواليد المغرب .
هذه الحركة اكتشفت بالملموس اضطهاد وعنصرية اليهود الشرقيين (الاشكيناز).فهم محرومون من حقوق كثيرة يتمتع بها يهود الغرب (السفا رديم ).. الوعي الأوربي الشقي والحركة الصهيونية المتغلغلة في أوربا وعقدة الشعور بالذنب لم تسمح بمرور الكتاب … اكتشف جان جينيه أنه تجاوز الخطوط الحمراء وتنكر له المثقفون الذين ساندوه في السجن (جان بول سارتر) . لقد نفر منه أصدقاء الأمس . فإسرائيل هي كفارة الوعي الشقي الأوربي , وهي فوق النقد .وكل من انتقدها فهو معاد للسامية . فلا مجال لنقدها أو الطعن في خرافة أفران الغاز المبالغ فيها . أما فلسطين ( فكانت أرضا بدون شعب ، واليهود شعب بدون ارض ) . بقي إلى جانبه نفر قليل من الأصدقاء الأوفياء .. وفي بحثه المتواصل لتأصيل الهامش وثقافة الهامش اكتشف جينيه طنجة .
فهي مدينة عالمية تحتضن جميع الجنسيات .. اشتهرت بكونها مأوى لأدباء ورسامين (اوجين دو لاكروا) من أوربا وأمريكا اختاروا الانزواء بعيدا عن الأضواء . كانت أفكارهم تصل إلى القراء بدون مقص الرقابة . ففي طنجة عاشت الممثلة الأمريكية ( اليزابيت تايلور) أواخر حياتها بعدما اختارت أن تهجر عالم السينما . في طنجة وفي مقاهيها الشعبية التي تعج بسحر الشرق الممزوج بكؤوس الشاي المنعنع تعرف جينيه على الكاتب الأمريكي الشهير(بول بولز ) صاحب كتاب (شاي في الصحراء الذي حوله المخرج الايطالي برتولوتشي إلى تحفة سينمائية ساحرة). كما تعرف على محمد شكري فتوطدت العلاقة بين الأدباء الثلاثة . وهم بعيدون عن الأضواء أصبحوا يحيون وسط ساكنة شعبية تحترم الأجانب وتكن لهم كامل الحب ولا تضايقهم. أصبح جينيه يتردد على المقهى كلما حل بطنجة . فالمدينة سلبته وله فيها أصدقاء بسطاء لم يخذلوه ..كانت إيرادات كتبه مرتفعة فاقترح عليه احد الأصدقاء أن يقتني شقة في باريس..لم يقم بها طويلا وقرر العودة إلى حياة الترحال . فحياته لم تكن تعرف الاستقرار ( ولدت في الشارع وسأظل في الشارع وسأموت في الشارع ) كما كان يردد دائما أمام أصدقائه .. مرحلة طنجة كانت خصبة في حياة ج جينيه . قبل وفاته ترك وصيتين اثنتين .الأولى أن يدفن في المقبرة المسيحية بمدينة العرائش . الوصية الثانية أن يحول رصيده من مبيعات كتبه إلى أحمد بالمدينة نفسها . لا زالت صورة احمد ابن الخمس عشرة سنة تداعب مخيلته ووجدانه . ما الفرق بين طفل صغير يتسكع في شوارع باريس أو في شوارع طنجة ؟ لقد رأى فيه طفولته البريئة المغتصبة والمشردة التي قادته إلى السجن . لا يريد أن يتكرر نفس السيناريو لأحمد . اتفق جينيه مع والد احمد أن يعتني بابنه ويلحقه بالمدرسة ليتابع دراسته . في المقابل تعهد جينيه أن يبعث مبلغا ماليا كل شهر إلى والد أحمد ليخفف عنه تكاليف الدراسة .. بعد وفاته نعاه صديقه ادمون عمران المالح بمقالة صحفية ملخصها جان جينيه هو الأسير العاشق حقا ..
محمد شكري
أما الشخصية المتمردة الثانية فهي شخصية محمد شكري (1935- 2003) . إنها شخصية لا تبتعد كثيرا عن مسار جان جينيه .لقد جمعهما التشرد والانحراف منذ طفولتهما المبكرة .. لم يعش شكري طفولة عادية كباقي الأطفال . فتح عينيه على أب قاس (جندي سابق في الجيش الاسباني ) يقضي نهاره مع أمثاله من العاطلين والمدمنين بمقاهي طنجة يلعب النرد ويدخن الكيف . أمه هي رجل البيت وامرأته . تستيقظ باكرا لتحمل أكياس الخضر وتبيعها في أزقة طنجة وكان شكري يساعدها .
تعود إلى البيت لتهيئ الطعام للأسرة . يأتي الأب إلى البيت فيشعلها حربا مع والدته .. يريد منها المال لشراء الكيف وتناول الشاي في المقهى ..مسلسل العراك اليومي بين الأب والأم لم يعد شكري قادرا على تحمله وهو طفل صغير . أصبح كثير الغياب عن البيت. يتناول بقايا الأطعمة والفواكه المرمية في القمامات ينافس القطط والكلاب الضالة .. مرة بات في اصطبل للحيوانات الأليفة .. استيقظ ليلا ليجد نفسه ملطخا ببول بغل نام بجانبه ..لم تطأ قدماه المدرسة . في بداية مراهقته أصبح يتعاطى للتهريب بين مدن الشمال . انه ورقة رابحة عند المهربين . فشكري الطفل لا زال صغيرا ولا يثير انتباه رجال الأمن والجمارك الاسبان . في هذه الفترة ذاق جميع الممنوعات (الكيف السجائر المهربة والخمور..) في سن العشرين وجد نفسه في السجن .. لعلها صدفة قلبت حياة شكري رأسا على عقب .. قضى محمد شكري ثلاثة أيام في السجن تعلم خلالها ثلاثة أحرف .. ومن هناك قرر أن يلج عالم القراءة والكتابة . فكون نفسه بنفسه مثل جان جينيه .. شكل السجن عندهما مدرسة أنقذتهما من الضياع والانحراف والإجرام .. (الخبز الحافي ) سيرته الذاتية التي رفعته إلى عالم الشهرة هي التي طوحت به أرضا .
هي ذبحته أدبيا .. كتب شكري سيرته الذاتية وعرضها على دور النشر المغربية والعربية . لكن لم يجرؤ ناشر عربي على طبعها . اتفقت ردودهم على أنها تتكلم عن مواضيع جنسية تخدش الحياء العام .. اتفق شكري وبول بولز على ترجمة السيرة إلى اللغة الانجليزية وطبعها دون أن يتحمل شكري تكاليف الطبع . فبول بولز كاتب مشهور وله علاقات غنية مع الناشرين . خرج (الخبز الحافي ) في نسخته الانجليزية بأمريكا فحقق مبيعات خيالية سنة 1978 وحقق لصاحبها شهرة تجاوزت الآفاق .. في سنة 1980 بمساعدة الطاهر بنجلون صدرت نسخة الكتاب بالفرنسية عن دار النشر ( فرانسوا ماسبيرو) .
هاهو محمد شكري يغزو العالم الفرانكفوني بعدما غزا العالم الانجلوساكسوني .توالت الطبعات وتوالت الترجمات وتوالت النجاحات .. صار نجما تلفزيا مطلوبا عند قنوات تلفزية كثيرة . ولعل أشهرها القناة الفرنسية 2عندما استضافه (بيرنار بيفو) في برنامجه الشهير ( ابوستروف ) . في اليوم الموالي للحوار التلفزي أصبح الناس ينادونه ب(موسيو أبوستروف) وهو يتجول في شوارع باريس .
من الحكايات المنسية أن الزعيم علال الفاسي كان يحرص على البحث عن محمد شكري لمجالسته كلما حل بطنجة .. في المقهى المفضلة لشكري كان كل منهما يرتشف ما يشتهيه ..
ذ.عبد الكريم الرطابي