ثقافة و فن

الجنريك بين الإبداع والابتذال -ذ.الرطابي عبد الكريم    

         تخلصنا هذه السنة من عبء أثقل صدورنا وأفسد فرحتنا أثناء الفطور هو برنامج  (مشيتي فيها ). لكن المكنسة لا ينبغي لها أن تتوقف عند هذا الحد. هذه المرة سنناقش مسألة الجنيريك بمكونيه (الموسيقى والغناء ) في بعض الا نتاجات التلفزية .فالجنيريك هو بوابة نستشرف من خلالها مضامين المنتوج الفني، سواء كان شريطا سينمائيا أو تلفزيا أو مسلسلا أو سيتكوم. والمفروض في  جهاز التلفزيون أن يعكس تصور المسؤولين للبرامج السياسية والثقافية والترفيهية التي تستجيب لتطلعات الرأي العام الوطني وتجيب عن تساؤلاته ،انطلاقا من رؤية تحترم الحدود الدنيا للقيم الجمالية والفنية والأخلاقية.

فعبر هذه البرامج – رغم تنوعها واختلافها – فإننا نمرر مجموعة من القيم الجمالية والفنية إلى المشاهد (المتعدد) لنرتقي بذوقه وبأحاسيسه فتسمو مشاعره ويبتعد عن الكلام السوقي عندما نوظف أمامه ألفاظا مهذبة وراقية تحترم الذوق العام .ومناسبة القول هو أغنية الجنريك وموسيقاها في السيتكوم (الفاميلا) .

 ا- الموسيقى هنا خردة من الأنغام  بدون أفق جمالي وظفت قسرا ،ولا تثير أي انفعال عند المتلقي باستثناء فئة لا علم لها بأصول الموسيقى ،ولا ذوق لها لتميز بين الغث والسمين في هذا المجال . هي إيقاع موسيقي محدود يخدش الأذن ويسيء إلى الذوق السليم .هي موسيقى بدون معنى وبدون هدف .هي رقصات بهلوانية خارج حلبة الفن . إنها مثيرة للاشمئزاز .

ب- والشيء بالشيء يذكر ،فما دامت هذه الموسيقى ( وأنا أستحيي أن أسميهاموسيقى ) لا تتوفر فيها معايير الجمال ،فإنها وردت منسجمة – في انحطاطها – مع كلمات ( أغنية الفاميلا ) .إنها لغو بدون معنى .لكأني بالموسيقى مستوحاة من مزبلة ترعى فيها الحيوانات الضالة،وتلك الألفاظ مستمدة من معجم حثالة تعيش على الهامش.

أنا لا أطعن في مضمون السيتكوم ،ولا أنتقد الممثلين الذين شخصوا أدواره بكل احترافية ومسؤولية .فلا أحد يشك في مصداقية وكفاءة أبطال السلسلة (فدوى الطالب وسعيد  باي والممثل القدير إبراهيم خاي والسيدة المحترمة سعاد النجار…) فمن الأشياء الجميلة والايجابية داخل السلسلة تدخلت الممثلة (آمال) أمام عابر سبيل وقد ألقى بقمامة في الشارع .فبعدما رفض احترام البيئة قامت البطلة (آمال ) بحمل القمامة بيدها ورمتها في الصندوق المعد لذلك .انه درس بليغ وبيداغوجي ،درس للكبار والصغار.انه سلوك حضاري يدفع المتلقي /المتفرج كي يراجع ذاته أمام تنامي ظاهرة الأزبال في شوارعنا  وهي تسيء إلينا جميعا.                                                           

  بالعودة إلى موضوعنا الرئيسي وهو الجنيريك فإنني أتساءل – مثل غيري- عن جدوى الرقابة الفنية والتقنية داخل مؤسسة التلفزيون.ألا توجد هيئة تشرف على مراجعة وانجاز هذه المشاريع  ؟ ألا توجد معايير فنية وجمالية تضبط هذه الأعمال ويتم الاحتكام إليها؟ فالمفروض في هذه المؤسسة (التلفزيون) أن تحسن انتقاء هذه المشاريع . فهي مؤسسة مسؤولة – شاءت أم أبت – عن نشر مجموعة من القيم .فإما أن تكون القيم ذات بعد جمالي يسعى إلى تربية أذواق الجماهير ،أو يسعى إلى إفساد أذواقهم . والواقع أن الجنريك هنا أساء إلى السلسلة ،ولم يقدم لها الإضافة المنتظرة.لست أدري كيف تأتى للمخرج أن يقبل بهذه التفاهة التي أثرت بشكل سلبي على السلسلة؟  مرة أخرى نقول إن الإعلام المرئي مطالب بأن يقوم بوظيفته الاجتماعية والثقافية والفنية والترفيهية الهادفة .عليه أن يكون بالمرصاد لجميع الطفيليات التي تسيء إلى الذوق العام ولا تحترم الجمهور. 

   فالفنون (آداب وشعر وموسيقى ومسرح وغناء وسينما ونحت …)هي فنون أبدعتها  البشرية خلال مسارها الطويل ،وكانت الجمالية هي الغاية القصوى من  الإبداع .والفنون هي التي تميزنا عن باقي الكائنات .فالجمال خاصية إنسانية تغذيها الفنون .وعن طريق الفنون انتقل الإنسان من مرحلته الحيوانية المتوحشة والعدوانية إلى مرحلة التصالح مع الذات ، والتصالح مع الآخرين.فخلد لمساته الفنية والجمالية عن طريق حضارات لا زالت صروحها قائمة وصامدة ،ولا زالت آثار الفنون تكسو جدرانها ،وموسيقاها يتردد صداها بين مسارح أثينا وروما ، وبين معابد الفراعنة  والبابليين.   

 ليس عيبا أن يلجأ المخرج إلى تراثنا الموسيقي الخالد (كلمة ولحن ) لتوظيفه في الجنريك. فلا زالت أغاني حميد الزاهر وإسماعيل أحمد وإبراهيم العلمي تسحرنا بجمالية موسيقاها البسيطة والراقصة فنزداد تعلقا بها بكل فخر . كما يمكن للمخرج أن يستفيد من الموسيقى العالمية فهي ملك للإنسانية جمعاء . (في فيلم ذهب مع الريح وظف المخرج موسيقى البوليرو لموريس رافل …)  وحتى لا يسقط السيتكوم في التهريج والإسفاف و الرتابة المملة أقترح أن تتضمن كل  حلقة من حلقاته تيمة مستوحاة من قيمنا الإنسانية النبيلة كالصدق والإيثار والإخاء  والتضامن والإخلاص في العمل وإبراز ايجابياتها على الأفراد والمجتع … كما ينبغي إثارة النواقص الإنسانية كالمكر والخداع والنصب والكذب والتواكل وعرضها في قالب هزلي قصد إبراز مساوئها على الفرد والجماعة، مع إبراز طرق التصدي لها. فهذه القيم لا تنحصر في مجتمع  دون آخر وقديما سئل الشاعر العباسي أبو تمام (لم تكتب ما لا تفهم الناس ؟) فأجابهم (ولم لا تفهم الناس ما أكتب ؟)  

                     برشيد 16/04 / 2024

                      

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى