تقويض سلطة الاحتجاج لدى الطبقة العاملة..“مشروع القانون التنظيمي للإضراب بالمغرب” نموذجا بقلم: النقابي محمد الملاخ(الجزءالاول)

مقدمة:
من خلال المحاولات المتكررة للحكومات المتعاقبة، منذ سنة 2001، من أجل تمرير مشاريع مختلفة للقانون التنظيمي للإضراب، والتي تم تقديمها في فترات زمنية متعددة، وما تضمنته من فصول ومواد، تشكل انتصارا سافرا لأرباب العمل ،على حساب الطبقة العاملة، ومحاولة مكشوفة من أجل تقديمها فريسة، في طابق من ذهب، لأصحاب رؤوس الأموال، كي يعيثوا فيها استعبادا واستغلالا وتحكما، ووضع مستقبلها المهني في يد بعض المسؤولين المستبدين الفاسدين، الذين يغيب عنهم حس المواطنة والمصلحة العامة للبلاد ومصلحة الرأسمال البشري، دون مراعاة لحقها الإنساني البشري في الاحتجاج ورفع الصوت من أجل تنبيه أصحاب القرار والرأي العام الوطني لما قد تتعرض إليه من ظلم وحيف وتهميش لملفاتها المطلبية وحقوقها المادية والمعنوية.. من خلال كل ذلك بات جليا لدى الجميع الرغبة القوية لهذه الحكومات، والحكومة الحالية بالخصوص، من أجل تقويض حق الإضراب والإجهاز عليه ومن تم الإمعان في إضعاف الطبقة العاملة وممثليها من المركزيات النقابية والجامعات والفدراليات الوطنية والنقابات القطاعية التابعة لها.
فماهي إذن، الأبعاد والأهداف المتوخاة من إصرار السلطة المتكرر على تقويض حق الإضراب وجميع الأشكال الاحتجاجية؟ وهل حقا تؤثر ممارسة هذا الحق على الاقتصاد الوطني ومكوناته سواء تعلق الأمر بقطبيه العمومي أو الخصوصي؟ هل حقا يمكن اعتبار أن المشاكل التي تتخبط فيها القطاعات الحيوية وضعف الخدمات الأساسية سببها بالأساس تنامي الأشكال الاحتجاجية المشروعة التي تشكل السبيل الوحيد للطبقة العاملة كي تعبر عن مطالبها وطموحاتها وآمالها، أم أن هناك خلل ما في منظومة تدبير السياسات العمومية ؟
لقد تعاملت سلطات ما بعد الاستقلال مع الاحتجاجات بأشكال مختلفة تنوعت ما بين تطبيق مقاربة أمنية صارمة وبيد من حديد في العديد من المراحل الزمنية، سعت بواسطتها إلى تطويق سلطة الاحتجاج من كل النواحي، وبين استعمال السبل القانونية التي تكبل هذا الحق وتضع العراقيل والعقوبات المبالغ فيها على ممارسيه، فجعلت من تكييف القانون وتغييره وسيلة للحد من حجم وتداعيات الاحتجاجات التي تعبر عنها الفئات الشعبية، حيث قامت بتعديل ظهير الحريات العامة سنة 1973 في اتجاه تشديد العقوبات وتفخيمها محاولة بذلك الحد من حجم الاحتجاجات خصوصا تلك التي عرفتها البلاد سنة 1965، إلا أن ذلك لم يضعف الاحتجاجات أو يمنعها من التفاقم، لتتجدد بشكل أكبر سنوات 1981، 1984، 1990، ويثبت بما لا شك فيه أن سياسة التطويق وتكييف القوانين من أجل تكبيل حرية الاحتجاج لا يمكن أن تحد منه، بل قد تكون عاملا مستفزا لمضاعفته بأشكال أكثر قوة قد تتخذ منحنيات عشوائية وغير منظمة في أحيان كثيرة.
- الإضراب والاحتجاج ثقافة مغربية أصيلة..
إن حق الإضراب والاحتجاج بشتى أنواعه، لازال لحد الآن يشكل الشمعة الوحيدة التي تستطيع من خلالها الطبقة العاملة والشعب المغربي بشكل عام أن يضيء بها المناخ الاجتماعي والسياسي الذي يعيش انتكاسة غير مسبوقة في تاريخ المغرب المعاصر بعد أن تم إضعاف صوت المعارضة والنقابات والأحزاب وتشتيت الكثير من مكوناتها والتنكيل بما تبقى حيا منها. وهو أيضا السبيل الذي تستطيع به تحقيق مطالبها المنصفة والعادلة وتحقيق مكتسبات تخول لها الحفاظ على حقوقها المادية والمعنوية والبحث عن الحد الأدنى من العيش الكريم من أجل مواجهة الارتفاعات المتتالية للأسعار وضعف القدرة الشرائية لديها، في ظل عدم وجود آذان صاغية تستطيع أن تنصت لآلامها ومعاناتها مع التدبير العشوائي للموارد البشرية وعدم وجود مسؤولين يؤمنون حقا بمبادئ الحريات النقابية، مما يدفعها إلى الخروج للاحتجاج وممارسة حقها في الإضراب.
لقد ارتبط هذا الحق بالشعب المغربي والفئات الكادحة بالخصوص أيما ارتباط، باعتباره شعبا حيا متحركا غير جامد تدفعه في ذلك التفاعلات النفسية والاجتماعية وتراكم التجارب التاريخية التي تطبع هذا البلد العريق، ويكفي أن نذكر باحتجاجات الحرفيين والإضرابات العامة في كل من فاس، مراكش، الرباط وسلا ومدن أخرى في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين (ثورة الدباغين بفاس سنة 1873- ثورة الإسكافيين والحرفيين بمراكش سنة 1904- وانتفاضات بمدن أخرى) احتجاجا على المحاولات المتكررة من أجل الرفع من الضرائب والجبايات والزيادة في أسعار المواد الأساسية وعلى الفساد الذي كان يتخبط فيه آنذاك الباشوات وأعوان المخزن، وكذا الاحتجاجات والإضرابات التي قادها مناضلو الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي والتي توجت بتأسيس أول ممثل للطبقة العاملة في المغرب يوم 20 مارس 1955 المتمثل في منظمة ”الاتحاد المغربي للشغل”، والتاريخ المغربي القديم والمعاصر يعج بالكثير من الأمثلة في هذا الإطار.
وبالتالي فإن الاحتجاج كسلوك طبيعي بشري يعيش في وجدان المغاربة وهو مكون أساسي من مكونات ثقافتهم ويعبر بشكل كبير عن مستوى وعيهم الاجتماعي والسياسي وقراءتهم الصحيحة لأوضاع البلاد بصفة عامة وإدراكهم العميق بالمعادلات الاقتصادية التي تشكل التوازنات بين الحقوق والواجبات أثناء قيامهم بعملهم ومساهمتهم في سلاسل الإنتاج، وأي محاولة لإضعاف هذا السلوك أو رغبة في القضاء عليه بشكل من الأشكال، ستؤدي لا محالة إلى ما لا تحمد عقباه، وإلى الإضرار بشكل كبير بشتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
- الإضراب باعتباره شكلا من أشكال الاحتجاج المشروع..
يمكن القول في هذا الصدد إن الإضراب كفعل احتجاجي منضبط يشكل ضرورة مجتمعية لا تلجأ إليها الطبقة العاملة إلا بعد استنفاذ جميع المراحل الأولية للمطالبة بحقوقها العادلة، وبعد القيام بالعديد من المحاولات من أجل الاستجابة لملفاتها المطلبية، حيث يتم مواجهتها بأنواع شتى من المناورات والتكتيكات التي تنتهي بعدم تمكينها مما تصبو إليه من حقوق مادية ومعنوية، سواء تعلق الأمر بتطبيق سياسة الحوار المغشوش للحكومات المتعاقبة وأرباب العمل، أو بالتنفيذ الجزئي للاتفاقات الموقعة دون استكمال باقي المطالب بهدف امتصاص الغضب بشكل مرحلي، ليبقى تنفيذ الإضرابات والأشكال الأخرى من الاحتجاج ما هو إلا تحصيل حاصل في ظل واقع اجتماعي وسياسي هش ووجود خلل في منظومة تدبير مناخ العمل والموارد البشرية بصفة عامة، وغياب الآليات الناجعة الكفيلة بالاستجابة للحقوق ورد المظالم وبمحاسبة كل من تهاون في الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والنفسي للطبقة العاملة.
يورد الباحث المغربي د.الحبيب أستاتي زين الدين في كتابه (الحركات الاحتجاجية في المغرب ودينامية التغيير ضمن الاستمرارية) تعريفا للاحتجاج على أنه ”وسيلة للتعبير عن موقف أو قضية معينة في إطار حركة جماعية.. من خلال تبني أشكال تعبيرية متعددة كالوقفة أو الاعتصام أو المسيرة أو الإضراب عن العمل أو عن الطعام.. توجه فئة أو فئات مجتمعية من خلال هذه الأشكال من التحرك على مرأى ممن حضر ومسمعه رسالة أو رسائل إلى جهة أو جهات مسؤولة تقع على عاتقها التزامات وواجبات” (ص27.
ويعرف ذ. محمد الأمين الفشتالي حق الإضراب في كتابه (حقوق الإنسان والحقوق النقابية) بأنه: “هو الامتناع عن العمل كوسيلة يلجأ إليها العمال للضغط على أصحاب العمل إذا فشلت المفاوضة الجماعية” ويستطرد في نفس السياق ”وهو نوع من التوازن بين صاحب العمل والعمال بسبب عدم المساواة الاقتصادية بينهما وذلك للدفاع عن مطالبهم ومصالحهم” (ص35).
انطلاقا من هذين التعريفين يمكن أن نستخلص الهدف الذي يدفع الشغيلة بصفة عامة إلى خوض الإضراب أو أي شكل آخر من أشكال الاحتجاج، كما يمكننا أن نتساءل: ما الذي يدفع المحتجين إلى البحث عن هذه الأشكال من أجل إيصال رسالة احتجاجهم إلى الجهات المسؤولة والرأي العام الوطني، ألا توجد أشكال أخرى ”غير احتجاجية” أو قنوات رسمية تجعلهم يحققون ما يصبون إليه ويرفعون شكواهم إليها دون اللجوء إلى هذا الحق في الاحتجاج؟
إن الجواب على هذا السؤال يقتضي منا قراءة واقع السياسات العمومية التي تتبناها الحكومات المتعاقبة، سواء في القطاع العام أو الخاص، في تعاملها مع مطالب الطبقة العاملة والفئات المجتمعية عموما وفي منظومة إصلاح الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية عبر مراحل زمنية متعددة في مغرب ما بعد الاستقلال، والحلول المقترحة للخروج منها التي لا تنفك أن تكون ترقيعية بامتياز وعلى حساب الفئات الهشة.
فلا يمكن لأي فئة متضررة مهما كان موقعها داخل المجتمع، سواء كانت من الفئات المهنية التي تمثل الطبقة العاملة في القطاعين العام والخاص أو من باقي الفئات الشعبية، أن تلجأ إلى خوض الأشكال الاحتجاجية الواردة في التعريف أعلاه دون أن تمر من مرحلة الأنين الذي يسبق الصراخ، والشكوى بالهمس والصبر والاحتساب وانتظار من ينصفها ويستجيب لما تطرحه من مطالب مشروعة أو ما ترنو إليه من رفع للحيف الذي يطالها أو تغيير لواقع مرير تعيشه نظرا لتردي أوضاعها المادية والمعنوية وعدم توفرها على ما يضمن لها الحد الأدنى من العيش الكريم ومن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
ولا يمكن أن نغفل هنا عاملا آخر يتعلق في أحيان كثيرة بضعف الوساطة التي تعاني منها هاته الفئات وبمستويات مختلفة، حيث يشير الباحث المغربي في علم الاجتماع الحضري د.عبد الرحمان رشيق في كتاب (الحركات الاحتجاجية في تونس والجزائر والمغرب) ”غير أن مجتمعاتنا، في مقابل ذلك كله، لا تزال تعاني من ضعف المؤسسات السياسية والنقابية والجمعوية التي من مهمتها ممارسة دور الوساطة الاجتماعية بين السكان وأجهزة الدولة، ومن تم دور هذه المؤسسات في تخفيف حدة تطرف النزاعات الاجتماعية أو تساعد في تجنبه. وتشير البحوث الاجتماعية إلى ارتفاع درجة عدم الثقة بهذه المؤسسات التي تؤدي دور الوسيط” ص60.
من هنا يقع على عاتق الحركات الاجتماعية، باختلاف أشكالها وألوانها وبتنوع التعريفات التي أسندت إليها وتصنيفاتها، أن تعمل على تقوية تنظيماتها وتخليقها وتطوير آليات عملها وتجديدها والرفع من مستوى الملفات المطلبية التي تطرحها وتعزيز قدراتها التفاوضية الحجاجية ودمقرطة مؤسساتها وتشبيبها، حتى تستطيع أن تمثل الفئات المجتمعية أحسن تمثيل وأن تقف سدا منيعا أمام كل السياسات الترقيعية التي نهجتها الحكومات المتعاقبة والتي أثبتت فشلها ولم تستطع تحقيق أي شيء إلا الرفع من حالة الإحباط لدى الطبقة العاملة والفئات الشعبية وأدت بها في مراحل زمنية عديدة إلى الخروج للشارع والاحتجاج بكافة الوسائل والأشكال.
- في عدم التزام مشروع قانون 97.15 بالترسانة القانونية المغربية والمواثيق الدولية..
لقد تضمنت جميع دساتير البلاد هذا الحق في الاحتجاج منذ دستور 1962، إلى غاية دستور 2011 الذي عرف بانخراطه في ما سمي بـ “دساتير الحقوق”، وإن مشروع القانون التنظيمي للإضراب رقم 97.15 الذي تم سحبه سنة 2016 ولازالت العديد من مقتضياته تناقش في جلسات الحوار الاجتماعي بين الحكومة والمركزيات النقابية، يشكل صفعة قوية لهذه الدساتير كلها وخاصة الأخير منها، باعتبار أن واضعيه في مسطرة المصادقة التشريعية من أرباب العمل والمقاولات قد أجهزوا بواسطته على مقتضيات عديدة ومضامين تضمنها الفصل 29 من دستور 2011، حيث ينص على أن: ”حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي مضمونة. ويحدد القانون شروط ممارسة هذه الحريات. حق الإضراب مضمون. ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته”.
وبالتالي فإن الحصار الذي تحاول الحكومة فرضه على الطبقة العاملة بمحاولة فرضها هذه الصيغة القانونية للإضراب، يجهز على ميزة الضمان والحرية النقابية التي كفلها دستور المملكة وجعل بذلك قيودا على كل من يفكر في ضرب الحقوق النقابية، لنجد أنفسنا الآن أمام تمرد غير مسبوق للمسؤولين داخل هذه الحكومة على أسمى قانون بالبلاد، محاولين كسر القيود التي فرضها عليهم من أجل عدم المساس بما صادق عليه المغرب من اتفاقات وعهود دولية تكفل ممارسة هذه الحقوق بدون قيود أو شروط إلا ما تعلق بالمساس بالسلم والأمان أو اتخذ أشكالا غير سليمة تشكل خطورة حقيقية على سلامة المواطنين.
إنه تمرد واضح على التشريع المغربي وعلى المواثيق الدولية التي جعلها دستور 2011 تسمو على القوانين الوطنية بل أكثر من ذلك فقد دعا إلى ملاءمة هذه القوانين مع ما التزم به المغرب من عهود دولية صادق ووقع عليها، حيث جاء في تصدير الدستور “وإدراكا منها لضرورة تقوية الدور الذي تضطلع به على الصعيد الدولي، فإن المملكة المغربية، العضو العامل النشيط في المنظمات الدولية، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا. كما تؤكد عزمها على مواصلة العمل للمحافظة على السلام والأمن في العالم”
كما أكد على أن المملكة المغربية تلتزم بـ “- حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما؛ مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء- جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة”.
بالتاليستجد الحكومة نفسها في مواجهة التزامات المغرب المتعلقة بتوقيعه على الاتفاقات والعهود الدولية التي تسعى أكثر ما تسعى إليه إلى ضمان تحقيق الدول الموقعة والمصادقة عليها لما تضمنته من حفاظ على حقوق العمال في ممارسة العمل النقابي دون قيود مكبلة له أو مقيدة لأشكاله المتعارف عليها بين المنظمات النقابية.
وإنه حري بنا أن نشير إلى مسألة أخرى ذات أهمية كبيرة وهي التقدير خاطئ الذي قد يقع فيه العديد من الدارسين لهذا المشروع ويتعلق الأمر بقبول مبدإ “الأجر مقابل العمل” الذي أسس له بشكل صريح، بحجة اتفاق مجموعة من الدول عليه، حيث يعد ذلك كبوة لا تغتفر وانتكاسة حقيقية ويعبر عن عدم القدرة على قراءة الفوارق الموجودة بين البلدان والمجتمعات، باعتبار أن هناك اختلاف كبير في الوضعية الاجتماعية للعمال داخل الدول المصنفة في خانة “المتقدمة” واستفادتهم من أغلبية حقوقهم الأساسية المادية والمعنوية إذا ما قورنت بمثيلتها في الدول التي يعتبر العمال فيها من ذوي الدخل المتدني، وباعتبار قوة التنظيمات النقابية هيكليا ولوجيستيكيا في الصنف الأول، ما يخول لها في كثير من الأحيان إمكانية تعويض المضربين عن الاقتطاعات التي قد تطالهم، وبالتالي فلا قياس مع وجود الفارق، ومن شأن القبول بهذه المسألة بالذات في بلادنا أن يشكل إذعانا لأرباب المقاولات الذين يدفعون في اتجاه إضعاف قوة الطبقة العاملة وأن يضرب معارضة هذا المشروع في مقتل ويساهم في كسر شوكة الأجراء وممثليهم من النقابات المركزية والقطاعية، كما من شأنه أن يعطي المصداقية لترهيب الشغيلة بسلاح الاقتطاع من أجل ثنيهم عن ممارسة حق الإضراب دفاعا عن مطالبهم العادلة والمشروعة، وذلك ما يعارض عنصر الضمان والاطمئنان الذي كفله الدستور لهم ويخالفه مخالفة واضحة لا غبار عليها.
ومن جهة أخرى فإن مشروع القانون التنظيمي المذكور يدلل على هذا السلوك المتمرد للحكومة بعدم التزامه بالمادة 396 من مدونة الشغل التي تنص على ما يلي: ” تهدف النقابات المهنية.. إلى الدفاع عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية والمعنوية والمهنية، الفردية منها والجماعية، للفئات التي تؤطرها، وإلى دراسة وتنمية هذه المصالح وتطوير المستوى الثقافي للمنخرطين بها. كما تساهم في التحضير للسياسة الوطنية في الميدانين الاقتصادي والاجتماعي. وتستشار في جميع الخلافات، والقضايا التي لها ارتباط بمجال تخصصها”. حيث إن مشروع القانون أغفل عمدا ذكر عنصر الدفاع عن المصالح المعنوية للأجراء بشكل واضح وجلي، واقتصر في مادته الثانية على ذكر المطالب الاجتماعية والاقتصادية لها سواء في القطاع العام أو الخاص، مع العلم أن أغلب الشعارات المرفوعة أثناء الاحتجاجات تضع مطالبها المعنوية على رأس القائمة وأهمها تحقيق كرامة العمال وحريتهم وضمان العدالة الاجتماعية لهم.
كما نص المشروع بشكل صريح على عدم مشروعية الإضراب التضامني، وهو ما يمكن اعتباره استهدافا واضحا لوحدة الطبقة العاملة وتطبيقا سافرا لسياسة “فرق تسد” التي تضعف العمال والتي كانت تقتصر في تنزيلها فيما سبق على سياسة التشجيع على “التفريخ النقابي” لتنتقل بفضل مشروع القانون هذا إلى تقنين تفريق الطبقة العاملة وتشتيت وحدتها.
يتبع