تقويض سلطة الاحتجاج لدى الطبقة العاملة..“مشروع القانون التنظيمي للإضراب بالمغرب” نموذجا بقلم: النقابي محمد الملاخ(الجزءالثاني)

4-حكومة أكتوبر 2021 والاختيارات المتناقضة المقصودة..
تبنت الحكومة الحالية التي أسندت إليها المسؤولية في أكتوبر 2021 خطابا وهميا يقضي باهتمامها بالفئات الشعبية والطبقات المقهورة، فسخرت آلتها الإعلامية لتشنف آذاننا في كل محطة مسموعة ومرئية ومكتوبة بما أطلقت عليه مشروع “الدولة الاجتماعية” التي تعتني بالفقراء والأجراء والفئات المعوزة، وبغض النظر عما آلت إليه المشاريع المتعلقة بذلك سواء بإقرار نظام الحماية الاجتماعية أو غيره، وسواء نجحت في ذلك أم لا، فنحن هنا لسنا بصدد إجراء تقييم شامل لكل ذلك ولكل ما سعت إليه من سياسة الإصلاح في اتجاه إعادة التوزيع الأفقي للمساهمات والضرائب دون تطبيق العدالة الجبائية، بل يمكننا القول إنها ناقضت نفسها بشكل كبير في محاولتها إضعاف فئات العمال وممثليها باعتبارها مكونا أساسيا من مكونات المجتمع وذلك عبر تبني مشروع القانون الذي نحن بصدد الحديث عنه.
إن من مقومات الدولة الاجتماعية تقوية دور النقابات في تدبير الشأن العام والحفاظ على مكانتها وهويتها، وليس السعي الحثيث من أجل كتم صوتها وتطويقها والقضاء على عوامل القوة التي تستطيع بواسطتها فرض نفسها، وتحقيق مطالب فئات الأجراء التي تمثلها: فالدولة بذلك تثبت بما لا مجال للشك فيه غياب أي إرادة سياسية لديها، من أجل إقرار مشروع الدولة الاجتماعية، ما يجعلها تصطف وراء تيار الليبرالية الجديدة الذي يجرد الإنسان من بعده الاجتماعي وقيمته الإنسانية.
وفي نفس السياق يشير ذ. علال بنلعرابي في مقال بعنوان (في مفهوم الدولة الاجتماعية) نشر بمجلة الربيع العدد 15 سنة 2023 على أن “الترجمة العملية لمضامين الدولة الاجتماعية تقتضي.. الاحترام التام للحريات النقابية والتأسيس لثقافة الحوار داخل المقاولات والشركات بما يزرع ويرسخ ثقافة الثقة بين العمال وأرباب العمل ووضع حد نهائي لحرمان الطبقة العاملة من التنظيم النقابي، إن عدم الاعتراف بحق الممارسة النقابية لدى العديد من المؤسسات الصناعية والفلاحية والخدماتية يتنافى مع الثقافة الديموقراطية ويدخلنا في مسالك أخرى لا تخلو من استبداد وتعسف”.
بالتالي فإن سياسة إخضاع قوى العمال وممثليهم لا يمكن أن تنسجم مع هذا المشروع الذي تدعي الحكومة رغبتها في تبنيه وتحقيق أهدافه، بل هي سياسة تكشف عن جذور إيديولوجية غربية تطبق الفكر التيربوليبرالي الذي يعتبر مرحلة جد متقدمة وصورة أكثر وحشية من الليبرالية الجديدة، وفي هذا الإطار يكشف الأستاذ الباحث عبد الواحد حمزة في نفس المصدر السابق على أن “من الملاحظ كذلك أنها –أي التيربوليبرالية- لا تأبه بالمراقبة السياسية، وأنها أشرت غير ما مرة على نهاية النقابات والدول، بازدراء الشغيلة وممثليها، وبعملها على تشجيع تبخر الرأسمال وتوسيع الخصخصة، من الجامعات إلى السجون، ومن المدارس إلى دور التقاعد، هاجسها الوحيد في ذلك، تعظيم الربح، دون أن تطرح البتة إشكالية إعادة التوزيع العادل والمنصف للثروة والنفوذ والسلطة في البلاد والعالم”. ذلك إذن هو نهج هذه الحكومة وديدنها وفي هذا التيار تتجلى أهدافها وتنجلي مضامين برامجهاوأبعاد سياساتها، وإن الأمر لا يتعلق بعشوائية في التدبير أو عدم إدراك من جانبها لمآلات الأمور أو خطورتها بل إن ما يتم الإعداد له في المرحلة المقبلة واضح وجلي وعن سبق إصرار وترصد ولا يتعلق إلا بالقضاء على كل ما من شأنه أن يقف في وجه سياساتها اللاإجتماعية التي تنهجها وعلى رأسه “ثقافة الاحتجاج” بجميع أشكالها، وباستعمال سلطة القانون الذي يتم صياغته عنوة ودون موافقة من يمثل الفئات الشعبية بغية ترهيب الطبقة العاملة وثنيها عن ممارسة حقوقها الإنسانية في الاعتراض على كل ما من شأنه أن يجهز على حقوقها ومكتسباتها المادية والمعنوية.
هو تناقض مقصود غايته ذر الرماد في العيون عبر تسخير البروباغاندا الإعلامية والخطابات الرنانة والإعلان المتكرر كذبا عن الرغبة في إقامة الدولة الاجتماعية، وفي نفس الوقت تنزيل قوانين وبرامج تضعف الفئات المجتمعية أو قد تستفيد جزئيا ومرحليا عبر إقرار برامج وإجراءات تقنية وتدابير ضعيفة لا تستطيع أن تحقق ما نحن بصدد الحديث عنه من نموذج الدولة الاجتماعية الحقيقية.
فهل ستستطيع الحكومة حقا تقويض سلطة الاحتجاج؟ أم ستجد نفسها عرضة لمواجهة الحركات الاحتجاجية بشكل مباشر ودون وسيط؟ إن كل محاولة للالتفاف على ما ينبغي القيام به من أجل النجاح في تحقيق الاستقرار والأمن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لا يمكن أن يسلك طريقا آخر، بدليل التجارب التاريخية التي مر بها المغرب، إلا سبيل الحوار الحقيقي وتبني سياسة اجتماعية ناجعة لا يتم إقرارها على حساب الفئات المقهورة، وأي شكل آخر من أشكال الإصلاح لن يؤدي إلا إلى رفع منسوب الاحتجاج بشكل عشوائي وغير منظم وزيادة السخط الاجتماعي حولها، ولن تستطيع بعد ذلك إيقاف زحف المحتجين الذين يحركهم الإحساس بالقهر والظلم..
- إلى أي حد يؤثر تقويض حق الاحتجاج على الاقتصاد الوطني ؟
إن من بين الأهداف التي تسعى إليها الدولة هي تشجيع الاستثمارات الوطنية وجلب مثيلاتها الأجنبية إلى البلاد من أجل تنمية الاقتصاد الوطني وتطويره وتقويته والنهوض به كي يكون منافسا حقيقيا في الأسواق الدولية، وحتى إذا سلمنا بنجاعة هذا الاختيار فإن تنزيل قانون تنظيمي للإضراب بهذا الشكل المقترح سيشكل عقبة حقيقية لتحقيق ذلك، وهو ما أكده أستاذ القانون بجامعة محمد الخامس بالرباط ورئيس المحكمة الدولية للوساطة والتحكيم د.عبد السلام الإدريسي حيث يقول في استجواب لجريدة « L’opinion » بتاريخ 11 يوليوز 2024: “أولا إن غياب إصلاحات مناسبة قد تؤدي إلى عدم الاستقرار في سوق الشغل. وإن تشريع قانون للإضراب بشكل غير سليم أو رجعي يمكن أن يفاقم من النزاعات بين العمال وأرباب العمل”.
ويستطرد الباحث بأن انتظارات الشغيلة من القانون التنظيمي للإضراب تتركز أساسا على أربعة أوجه حاسمة: الاعتراف بالحقوق النقابية، الحماية من التعسف الذي قد يطال المضربين، عدم تجريم جميع أشكال الإضراب، تنظيم النزاعات الاجتماعية.
وإن ما يؤكد هذا الكلام أن تقرير الخمسينية “المغرب الممكن” المنجز من طرف شبكة من الباحثين والخبراء الوطنيين جاء فيه “يظهر أن العائق الأساسي لاقتصادنا يكمن في غياب محيط مشجع للاستثمار الخاص ولخلق المقاولات والثروات، كما يبدو أن مناخ المعاملات لا يسمح لا بالتوقع والاستباق ولا بإيجاد حل سريع للنزاعات” ص177. ولم يتضمن هذا التقرير، الذي شكل دراسة معمقة لخمسين سنة من تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال، أي إشارة إلى تأثير الاحتجاج بشكل عام على الاقتصاد الوطني أو رصد مؤشرات وأرقام تتضمن إضرار إضرابات العمال وعموم الأجراء به، وبالتالي فيمكننا اعتبار أن من بين عوامل صحة مناخ العمل بصفة عامة هي إقرار حقوق الطبقة العاملة كاملة غير منقوصة فيما يتعلق بالحريات النقابية والحق في التنظيم والانتماء وممارسة الإضراب، ما قد يبرهن على تمكينهم من التعبير عن احتياجاتهم المتعلقة بالحقوق المادية والمعنوية ويحفزهم بشكل كبير على الرفع من المردودية وتنمية سوق الشغل ومن ثم الاقتصاد الوطني.
- ماذا بعد؟ أو كيف تستطيع الحركات الاجتماعية مواجهة تداعيات تقويض سلطة الاحتجاج ؟
إلى حدود كتابة هذه السطور، لا تزال المفاوضات جارية بين الحكومة والمركزيات النقابية بشأن مشروع القانون التنظيمي للإضراب، ما يفرض علينا خلال هذه المرحلة الدعوة وبقوة إلى ضرورة التصدي له وللمقتضيات المجحفة التي تضمنها مع المطالبة بمضامين تجسد انتظارات الشغيلة التي ذكرناها سابقا، وكذا رفض المصادقة عليه بشتى الطرق الاحتجاجية وأولها الاصطفاف في جبهة وطنية قوية تضم كافة الأحزاب والنقابات والهيئات المدنية والحقوقية من أجل إسقاط هذا المشروع وفرض صوت الطبقة العاملة وإقرار مشروع بديل شامل عادل ومنصف يضمن الحق في الإضراب مع إقرار موازنة بين مصلحة العمال وأرباب العمل والمقاولات عبر سن مقتضيات تفضي إلى فض النزاعات بشكل يقر الحقوق ويحمي الحلقة الأضعف في المعادلة من جميع أشكال التعسف كالطرد أو سلب الحرية أو المس بالحقوق المادية والمعنوية.
من جهة أخرى يمكن أن تطرح سؤالا عميقا ومؤطرا: أي مستقبل للعمل النقابي في المغرب في ظل توالي المخططات المتعاقبة من أجل تقويضه وإضعاف صوت الطبقة العاملة ؟
إن هذا السؤال يدفعنا إلى التأكيد على أن المسؤولية تقع على هذه الهيئات النقابية من أجل تقوية أدائها وفرض وجودها بشكل أكبر من أجل مواجهة أعداء الطبقة العاملة وذلك عبر:
- العمل على تشكيل جبهة وطنية موحدة تجمع النقابات والأحزاب والهيئات المدنية من أجل مواجهة كل أشكال الترامي على حقوق الطبقة العاملة، وتعميم مبدإ الوحدة والعمل الوحدوي في شتى المجالات التي تمثل الأجراء سواء على المستوى المركزي أو القطاعي.
- تقوية التنظيمات النقابية عبر توسيع تمثيليتها ودمقرطتها وتخليقها وتثبيت الخط الكفاحي النضالي لدى مناضلاتها ومناضليها والعمل بشكل جاد على تجديد دمائها وإسناد المسؤوليات للشباب فيها.
- الرفع من مستوى الملفات المطلبية لتشمل السياسات العامة والاستراتيجية للبلاد خصوصا ما كان له علاقة مباشرة بالطبقة العاملة وتشكيل قوة اقتراحية مبادرة عبر إعداد مشاريع بدائل للسياسات الفاشلة التي يتم فرضها، وذلك بالاعتماد على الكفاءات المتخصصة المناضلة وتشجيعها على القيام بالدراسات والأبحاث في هذا المجال.
- تجديد آليات العمل وتحديثها وفتح المجال للطاقات البشرية المتنوعة والانفتاح عليها.
- الاهتمام بالتكوين النقابي والعمل على الرفع من مستوى الوعي لدى ممثلي الطبقة العاملة من أجل تمكينهم من ممارسة العمل النضالي بفاعلية أكبر ومعرفة دقيقة بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي التي تعيشه البلاد.
- إعداد مختلف الدراسات والأبحاث عبر إحداث مراكز متخصصة في ذلك تستطيع بها المنظمات النقابية إحراج لوبي الفساد داخل البلاد وفضحه على المستوى الإعلامي والمؤسساتي مما يشكل حماية وقائية للمصلحة العامة للأجراء.
- تقوية الإعلام النقابي وتنويعه وتحديثه ليواكب مستجدات وآليات التواصل الاجتماعي وإعداد سياسة تواصلية مستمرة مع الأجراء بهدف إعادة الثقة لهم في العمل النقابي.
خاتمة:
وأخيرا يمكن القول إن الادعاء الرامي إلى تبرير ضرورة الحد من سلطة الإضراب وضبطه، كونه يؤثر على استمرارية تقديم القطاعات الحيوية لخدماتها ويؤثر على الاقتصاد الوطني، هو ادعاء باطل لا أساس له من الصحة، ونقول في هذا الصدد إن ما يؤثر حقيقة على تنمية القطاعات الحيوية ويعرقل أداءها لمهامها بالشكل المطلوب، هو غياب ربط المسؤولية بالمحاسبة، وعدم توفير الإمكانيات المادية واللوجيستيكية لها، وفشل السياسات العمومية في تدبيرها والإهمال لآليات التدقيق والرقابة الإدارية، والتغاضي عن ملفات الفساد المالي التي تنخر الميزانيات الهائلة المرصودة لها، والصفقات الكبرى التي لا تراعي المقتضيات والمساطر القانونية، أو تلتف عليها بطرق ملتوية في اتجاه إسنادها لجهات معينة بمقتضى المحسوبية والزبونية، وعدم التزام المسؤولين عنها بمضامين دفاتر التحملات، إلى غير ذلك مما يمكن تصنيفه في خانة المشاكل الحقيقية التي تعاني منها هذه القطاعات الحيوية، وفشل البرامج المتعددة التي ترمي إلى إصلاحها خصوصا ما تعلق ببرنامج النموذج التنموي الجديد ومشروع الدولة الاجتماعية وعدم التمكن من تنزيل توصيات تقرير الخمسينية الذي تم إعداده سنة 2005 وحدد آليات لتجاوز الأزمة التي تعيشها هذه القطاعات، ضمن مشروع “المغرب الممكن” الذي من المنتظر أن تكتمل نتائجه بحلول سنة 2025، والتي لا نرى لها للأسف لحد الآن، أثرا ولا حسا، ونحن على بعد شهور قليلة من اقتراب الموعد المحدد لها.