إنكار الآخر سرطان يفتك بالمجتمع، فكيف السبيل إلى علاجه؟

أحمد رباص
لست أدري لماذا يستمرئ المدبرون لشأننا العام، حكامنا، والمهتمون به من المحكومين تجاهل ما تزخر به بلادنا من طاقات تعمل بمبادرات شخصية وذاتية على ملء ولو جزء من الفراغ، فتراهم يوهمون دائما الناس بأن لا جديد تحت الشمس، ويدعونهم إلى التشمير عن سواعد الجد للانطلاق من جديد، ومن فراغ يبرعون في الإلحاح على وجوده ورسم شبحه بكل الألوان. وإذا تأملنا جيدا في هذه الإشكالية أملا في تطويرها، لا بد لنا وأن نتساءل عن دواعي هذا التجاهل والإنكار، فنجد أن الحكام منهم يعون جيدا أن طمس وتهمبش مظاهر التقدم واستبعاد المثقفين الأحرار أنفع لهم وأجدى من مسايرة مشاريعهم الهادفة لبناء المواطن المتحرر من الأوهام والخرافات، المطالب بحقوقه، وهو ما يشكل خطرا مباشرا على الماسكين زمام السلطة بيد من حديد.
أما القطاع الأخر، المهتمون بالشأن العالم، المحكومون، فتتعدد الأسباب التي تدفعهم إلى رؤية الكأس فارغا ولو أن جزء كبيرا أو صغيرا منه قد امتلأ، وأهمها الإنتهازية. عادة ما تستعمل هذه الكلمة لانتقاد سلوك مناضل جانح إلى أعطاء الأسبقية لمصلحته الشخصية الخاصة على المصلحة العامة. وهذا ما نراه رأي العين في واقعنا مجسدا في تحول أشخاص بسطاء إلى رجال أعمال وملاك كبار بفضل نجاحهم في الانتخابات. على هذا المستوى، يمكن اختصار لعبة الانتهازي في ارتداء قناع لتغطية وجه قتلته الأقنعة منذ مجيئه إلى هذا العالم.
وهنا يقفز إلى أذهاننا الشبه بين المنافق والانتهازي. وما دمنا وصلنا إلى هذه النقطة، فيجب توضيح أمر هام وهو أن كلمة “منافق” من الناحية الجدلية تنتمي إلى قاموس الحرب الكلامية بين طرفين متضادين على الأقل. فعلا، لكل واحد منهما الحق في استعمال الكلمة وفق معيشه اليومي ومنظوره الخاص؛ بحيث ليكون هذا الفرد من هذا الطرف منافقا يكفيه أن يخترق صفوف الطرف المضاد بإخفاء انتمائه الأصلي وادعاء الوفاء للطرف الذي اصبح يأويه.
ولكنك، مع ذلك، تجد الإنتهازية بين رفاق في حزب واحد ٱلية خفية تكاد لا تبين، ولكنها تشتغل في الخفاء وتعتمل في النفوس. في هذا الإطار، تهمش دينامية الجماعة، وتغيب ثقافة الاعتراف، وتحضر الأنانية بكل صلفها، وتنتحر المبادئ على مذبح المؤامرة التي تسوغ لمرضى النفوس اقتراح أسماء قطر بها السقف مؤخرا دون استحضار أسماء راكمت تجربة نضالية ولا ترضى بغير البراكسيس معيارا للحكم على مدى كفاءة الأشخاص وأهليتهم دون غيرهم للقيام بهذه المهمة أو تلك.
وما دمت قد أوحيت في صدارة هذا المقال برغبتي في تطوير هذه الإشكالية التي عنوانها “إنكار الٱخر”، ارتأيت النظر إليها من الجانب الفلسفي والنفسي. ولهذا الغرض، أقترح قراءة مقال لكاتب اسمه مستعار ، منشور على موقع monnet.blog/20 منذ 2012 بعنوان “إنكار الٱخر، هذا السرطان الذي يفتك بالمجتمع” *.
بصفته شكلاً من أشكال المضايقة غير المرئية، يتم ملاحظة إنكار الآخر خاصةً عندما يتكرر التعبير عن الازدراء. ونجد هذا النفي للآخر في كثير من المجالات على مستوى المجتمع عندما يتفشى عدم احترام الٱخر ورفض سماع حجته، وفي العالم المهني حيث يكون التحرش الأخلاقي أو التعبير عن النفي العاطفي أو الخوف من الآخر، وبين الزوجين أو في الأسرة عندما يتسبب الإنكار في انقطاع التواصل بسبب رفض الاستماع.
وبالتالي فإن إنكار الآخر يتكون من التجاهل الطوعي والمتكرر لشخص ما، أو زميل عمل أو رفيق سابق (حبيب أو زوج سابق، ابن أو والد)، أولمجموعة من الأشخاص، أو لفكرة، أو لمشروع جماعي، من خلال الانغماس في موقف عاطفي دفاعي خاطئ غالبا ما يكون خارج نطاق السيطرة.
يمثل إنكار الٱخر مضايقة سلبية مؤلمة نفرضها على أنفسنا وتشغل مساحة كبيرة في أفكارنا. إن إنكار الآخر يجعلنا سلبيين. ويمكن أيضا أن يثير قلق العديد من الأشخاص من خلال العدوى المنعكسة للازدراء الذي يسكننا بشكل جماعي: تجاه السياسة والسلطة ومن هم في السلطة، مما يتحول إلى سرطان يفسد نوعية الحياة بأكملها لمجتمع بأكمله.
إذا كان إنكار الذات يؤدي إلى الاكتئاب وأحيانا الانتحار، فإن إنكار الآخر في مجتمع ما يؤدي إلى إلقاء اللوم على الآخرين بسبب فشلنا، وإلى ممارسة الاستبعاد عندما لا يكون الأمر أسوأ، والقتل والإبادة الجماعية، أو بشكل أكثر خفية يصبح إنكارا للذات وللأسس الأساسية والمعقولة لمجموعة البشر الذين يحيطون بنا. يمكننا أيضا صياغة ذلك على أنه دعوة غير واعية لوضع حد لحضارتنا التي أصبحت قمعية للغاية.
إن إنكار الآخر لا ينشأ من العدم، بل هو استجابة سيئة للمعاناة الناجمة عن الخوف من المستقبل. إنه شكل من أشكال الانسحاب الذي نفرضه على أنفسنا عندما نواجه عدم فهم ما يحدث لنا أو عندما نخاف من الآخرين. ويصبح أحيانا رد فعل آليا سيئا ناتجا عن التعليم الذي يدفعنا إلى رفض ما يهاجمنا بالأمل غير المؤكد في إنكار الواقع من أجل حماية أنفسنا منه. ربما يكون هذا المنعكس موروثا من العصور القديمة جدا، عندما كان البشر وحيدين وكائنات هشة تواجه طبيعة غير مضيافة.
لكن، كيف نحارب هذا السرطان؟ العلاج الرئيسي هو أن نسمح، داخل أنفسنا، بالتعبير عن حاجتنا الطبيعية إلى الانفتاح على الآخرين، واستعادة الثقة فيهم وفي أنفسنا، وأن نسمح بالتعبير عن هذه الرغبة التي لا يمكن كبتها في الفضول الطبيعي والغريزي الذي يسمح لنا برؤية أبعد من مجرد رؤية مغلقة بسيطة بدون أفق. ثم نكتشف بعد ذلك أن العديد من البشر يعانون من نفس الضيق وأن العديد من الحضارات التي واجهت هذا الألم الجماعي عرفت كيف تعيد اكتشاف ما يمنح القوة للتقدم معا، أي هذا القول المأثور القديم المنسي وهو “الاتحاد قوة”.
من خلال التضامن مع الآخر نتدعم وننمو، وإذا بقينا متوحدين نعاني ونشك في أنفسنا وندمرها. يبدو هذا العلاج كالسهل الممتنع لدرجة أنه قد يكون في بعض الأحيان بعيدا عن متناولنا. ومع ذلك، فهو المفتاح الذي يفتح نوعية أفضل للحياة الفردية ويسمح بإعادة اكتشاف السعادة الجماعية.
من خلال تغيير الرؤية وزاوية الرؤية، يشبه الأمر تغيير النظارات، وغالبا ما يجد الإنسان ببساطة رؤية أوضح للواقع.
(*) https://monnet.blog/2011/07/17/la-negation-de-l%E2%80%99autre-ce-cancer-de-la-societe/