ثقافة و فن

نظرة جديدة إلى علاقة هايدجر بالنازية – أحمد رباص

 ماذا عن التزام هايدجر القومي الاشتراكي في ضوء إصرار فكره على العلاقة بين وجود-حقيقة-حرية؟ هذا السؤال يقتضي الآن سؤالا آخر حقيقيا، يطرحه كل إنسان يحركه، في هذه الحالة، الاهتمام بالتفكير: ما الذي حدث لهايدجر عام 1933-1934، حتى ينقاد إلى دعم النظام الذي تم تأسيسه للتو دون تحفظ من خلال الوعد بـ “ثورة قومية اشتراكية”؟ قبل أن نتناول هذا السؤال الحارق، نود أن نوضح ما يلي: (1) رغم أن هايدجر لم يسحب بطاقة عضويته لمدة خمس سنوات تقريبا، فهناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن قناعات هايدجر في ما يتعلق بالأيديولوجيا القومية الاشتراكية لم تدم أكثر من سنة توليه رئاسة الجامعة، وهي السنة التي استقال في نهايتها. (2) تم إدراك الالتزام القومي الاشتراكي نفسه – بسذاجة دون شك – كالتزام بالهيمنة السياسية والثقافية لألمانيا في أوروبا، الهيمنة التي من خلالها كان على الأمة الألمانية أن تحقق حريتها وحقيقتها. ولكن هذا لا يصل إلى العلاقة الأساسية التي يقيمها الفيلسوف بين الحقيقة والحرية. وفي ما يلي شرح هاتين
القصيتين.
(1) لفهم انخراط مارتن هايدجر في الاشتراكية القومية وأنشطتها في ظل نظام هتلر، سيكون من الضروري الاهتمام بتحليل الحركة الطلابية في الجامعات الألمانية. وهذا قد يسمح لنا بالمشاركة بشكل أفضل في النقاش حول إصلاح الجامعة والمواجهات التي أطلقها. إنما في علاقة بهذين المشكلين، يؤكد فيكتور فارياس، سيتخذ مارتن هايدجر قرار الانخراط بوضوح في المعركة السياسية. وقد لاحظ هتلر التوجه السياسي لحركة الشباب، ولا سيما الحركة الطلابية، وقدرتها على التوسع منذ عام 1930. وأشار إلى اختراق حزبه صفوف الطلاب: تجاوز عدد مناضليه بكثير عدد المجموعات الجامعية المنظمة الأخرى مثل المنظمات القومية الإشتراكية غير الطلابية. ومن المؤكد أن أساتذة الفلسفة والتاريخ والاقتصاد كان معظمهم مقتنعين بأن الشعب الألماني هو “شعب ميتافيزيقي في معارضة عنيفة لسطحية الغرب الديمقراطي.” كما يشير فرانسوا فيدييه في: “هايدجر، تشريح الفضيحة”، بعد حرب عام 1946 مباشرة، كتب جان بوفريه رسالة إلى هايدجر، سأله فيها هذا السؤال: “كيف نعيد إعطاء معنى لكلمة إنسانية”؟ إذا لم يُفهم هذا السؤال على حقيقته، أي كسؤال يطرحه التاريخ الحديث، وعلى وجه الخصوص، الرؤية التي كانت لنظام هتلر وأتباعه، تعظم المجازفة بعدم الاستماع إلى جواب هايدجر. ذلك أن “رسالة في النزعة الإنسانية” تجيب على هذا السؤال. هذه الرسالة، وفقا لفرانسوا فيدييه، ليست على الإطلاق رسالة ضد الإنسانية (مثلما أن فكر هيدجر الأخير ليس ضد الميتافيزيقا، ولا ضد التكنولوجيا). الجواب نجده في الصفحة 345 من المجلد التاسع من الطبعة الكاملة، ننقله حرفيا كما يلي:
“إعادة إعطاء معنى بكلمة [الإنسانية] لا يمكن أن يعني إلا ما يأتي: إعادة تحديد معناه. هذا يتطلب، من ناحية، القيام بتجربة نمط وجود خاص بالإنسان بطريقة أكثر أصالة؛ الشيء الذي يعني، من ناحية أخرى، إظهار إلى أي مدى هذا النمط من الوجود، على طريقته، مرتبط بمصير”.
ماذا تعني تجربة نمط الوجود التي تحقق الإنسانية في الإنسان؟ هل يمكننا القيام بهذه التجربة دون أن نكون، بهذا المعنى الأصلي، ملزمين بالوجود؟ هل ما زال من الممكن، هناك، التمييز بين الممارسة والنظرية، مثلا؟ في نفس الكتاب، يقول هايدجر: “الفكر يفعل في هذا الذي يفكر فيه”. ومن الواضح أنه في عام 1933، مع الأخذ في الاعتبار توليه رئاسة الجامعة، أراد هايدجر التفكير أكثر من مجرد الفعل. أراد أن ينقل الفكر إلى الواقع، ليس كما يمكننا أن نقرأ هنا وهناك، من خلال الرغبة في ممارسة سلطة؛ أو حتى وفقًا لصيغة أوتو بوجيلر، من خلال الرغبة في “توجيه هتلر”. من الضروري أن نفهم ما أراده هايدجر نفسه، حتى لو كان ذلك يعني التساؤل في ما بعد عما إذا كان من المشروع بالنسبة إليه أن يريد ذلك في عام 1933.
لكن ما كان يريده هو ثورة في الجامعة الألمانية لجعلها قادرة على تربية “قادة المستقبل والأوصياء على مصير الشعب الألماني”. نعثر هنا مرة أخرى على كلمة المصير. في عام 1946، أعلن هايدجر أنه من أجل إعادة إعطاء معنى للإنسانية وفق تحديد جديد تماما لجوهره، ذلك الذي يقدمه تحت اسم الدازاين (الوجود-هنا) (على اعتبار أن الأساسي على وجه التحديد هو تجربة وجود هذا هنا – تجربة يمكن بل يجب أن تقال بكل اللغات)، ما يعني في نفس الوقت إظهار العلاقة الضرورية للدازاين بمصير. إذا كان لدينا أدنى تردد تجاه هذه الكلمة (المصير)، فلنستبدلها بالتاريخ، بشرط أن ندركه أكثر من مجرد تسلسل زمني بسيط: كبعد محدد نكون فيه (جميع البشر)، إذا كان حاضرنا الحقيقي مؤهلا بالفعل لجعل المستقبل ممكنًا بما يتناسب مع ما ورثناه. إن اختيار تسمية هذا البعد مصيرا وليس تاريخا، وفقا لما قاله فرانسوا فيدييه، هو طريقة هايدجر لتوضيح حقيقة أننا لسنا “في” التاريخ، بل إن لنا بعدا، أي أننا نقف في “الزمان” على قدر محدد ما نكون قادرين، وقد صرنا متلقين للمصير، على معرفة الذي يصير. ونعلم أيضًا أن مارتن هايدجر ألقى يوم 13 نونبر 1935 في فريبورغ محاضرة بعنوان: “في أصل العمل الفني”. في الفقرة 30 من الجزء الثاني من المحاضرة نقرأ: “الإثنيات والأعراق، تزداد قوتها بالاتحاد، عندما تعي جيدا ما يعود إلى مهمتها؛ بمعنى تصبح تاريخية وهي تنظر نحو المستقبل”.
ذلك ما قاله هايدجر بعد عام ونصف من استقالته من رئاسة الجامعة، وبالضبط بعد ثمانية أسابيع من صدور قوانين نورمبرغ، التي تقوم على مبدإ الفصل المنصوص عليه في القانون، بين كامل المواطنين على حدة؛ أي المواطنين الذين يجري في عروقهم الدم الألماني أو ذوي القربى، والمواطنين من الدرجة الثانية الذين لا يتمتعون يحقوق سياسية.
لإنهاء هذا الجزء الأول، يبدو من الضروري أن نستشهد بتصريح آخر لهايدجر عن الأيديولوجيا النازية. آلان بولوك في كتابه “هتلر” (ر. ص. 394) يخبرنا بأن: “ما سعى هتلر إلى التعبير عنه بكلمة “العرق” هو ​​إيمانه بعدم المساواة – بين الشعوب والأفراد – كقانون طبيعي لا يرحم”. إن مفهوم العرق، عند النازيين، طبيعي، وجسدي بحت. الدم هو أولا الدعامة المادية. بهذا المعنى، هناك في النازية تماما اختزال للأيديولوجيا: كل كنوز الحضارة والفن ليست في نظر النازيين إلا تعبيرا عن العرق المتفوق.
ما موقف هايدجر من هذه الأيديولوجيا؟ نلاحظ منذ عام 1934، في محاضراته، أن مؤلف كتاب “الوجود والزمان” يعارض عمدا مثل هذا الاختزال البيولوجي. ما قاله وردده هو أن تأسيس الحركة الثورية على مفهوم العرق نصف إجراء. وطالما لا نعرف إلى أي مدى كان هايدجر مفكرا ثوريا براديكالية نادرة، لن نكون قادرين على فهم أي شيء عن التزامه السياسي. راديكاليته ليست سياسية في المقام الأول. ومن المحتمل جدا أن هايدجر عرف في وقت مبكر جدا ما في تداعيات اكتشفاته مع تقدمه في عمله من أمور مزعجة تماما: أولاً، الحدس حول الرابطة الوثقى التي تربط وفق إيقاع البشر ب”الحقيقة” بالمعنى اليوناني لكلمة alèthèia – بحيث يعني الوجود بالنسبة إلى لإنسان الوجود في علاقة بالحقيقة – (alètheuein)، وذلك الوجود بفضل الحقيقة يصبح هو نفس تعريف الفكر. وهذا يقودنا إلى شرح النقطة الثانية.
قلنا في البداية أن التزام هايدجر السياسي لم يؤثر على العلاقة الأساسية التي يقيمها بين الحقيقة والحرية. وان نقول ليس هناك مجال لمعاداة السامية في فكر هايدجر فذلك ما يتضح عندما نبدأ في الكشف عن مقتضيات التعريف الجديد للإنسان: أن تكون إنسانا، في نهاية التحليل، يشكل شيئا واحدا مع الاهتمام بالتفكير. ليس بطريقة ميتافيزيقية – وهي واحدة من طرق التفكير الممكنة، ولكنها ليست الوحيدة. هذه الطريقة في الوجود، يسميها هايدجر الدازاين. كل الكائنات البشرية تتقاسمها دون غيرها من الكائنات الحية.
ذلك يعني: كل الناس، من كل الشعوب، في كل العصور وفي كل الأمكنة تشترك في حقيقة أنهم لا يمكن أن يوجدوا إلا إذا كانوا مرتبطين بالآخر كليا، الحاضر بوجهه، حالياً ودائماً، في مواجهة كل إنسان، دون أدنى تراتبية. هذا الاهتمام بالتفكير، بطبيعة الحال، ليس شيئا آخر غير الجهة الفريدة التي ميزها مصطلح “الدازاين” الذي طوره هايدجر منذ بداية عشرينيات القرن العشرين، إنما بدون شك للمرة الأولى بأهمية كافية وصلت إلى حيث يبرز بشكل حاسم التمييز بين الوجود بصفة عامة والوجود إنسانا.
وللتعبير عن هذا الاختلاف نستخدم عبارة مثل “فسح المكان”. إن الإنسان، الذي يجب أن يوجد دائما، لا يكون إنسانا حقا إلا إذا أفسح المكان، بطريقة أو بأخرى. لا شيء موجودا بكيفية مختلفة (كائن حي، كائن إلهي، كائن هنا-أمام)، لديه إمكانية فسح المكان. فسح المكان، فتح بُعد الظاهرية، أبقاؤها مفتوحة، (بكل حقيقة) في حالة مفتوحة. هذا ما أشار إليه هايدجر في رسالته الأولى إلى جان بوفريه: بعيدا عن قدرة الإنسان على فهم ذاته ك”وجود-هنا”، يجب أن نفهم هذا الوجود بشكل متعد ونقول “وجود-ال-هنا”، أي بسط الهنا – فسح المكان. لندرك أن الأمر لا يتعلق بفسح المكان لشيء ما، ولكنه يتعلق أولا وقبل كل شيء بترك المكان ينبسط، المكان الذي يمكن أن يحدث فيه أي شيء. أعجوبة العجائب هي في الواقع هذا المكان (topos)، الذي ينبغي أن يسمى بمعنى ما لامكانا، لأنه بالمعنى الأكثر صرامة ميتافيزيقيا غير موجود. لا “عرق”، وفقا لفرانسوا فيدييه، لا شعب، لا لسان يمكنه أن يحقق “أفضل من غيره” جوهر الإنسانية. فكرة الدازاين لا تتوافق مع أي عنصرية.
إن رهانات هايدجر مدرجة أولا، إن لم يكن حصريا، في المجال الفلسفي، يتعلق الأمر بالنسبة إليه، قبل كل شيء، بإحداث موقف فلسفي جديد. أولئك الذين يتساءلون حول نازية هايدجر يمنحون الكثير أو القليل جدا من الاستقلالية للخطاب الفلسفي: انخرط هايدجر في الحزب النازي، تلك حقيقة؛ لكن لا هايدجر الأول ولا هايدجر الثاني شكلا إيديولوجيتين نازيتين. ليس انطلاقا من حسن نية، كما يقول فرانسوا فيدييه، أن يعتقد المرء أن هايدجر كان يفكر في توفير الجهاز الإيديولوجي الضروري لثورة حقيقية. مثل هذا التصور النفعي، أو الوظيفي، أو الذرائعي للفكر مثل له دائما علامة لا تخطئها العين على اللاحقيقة.
في العلاقة الميتافيزيقية بين الوجود والحقيقة، يُنظر إلى الوجود على أنه حضور ثابت، الحقيقة نفسها التي تكون موجودة باستمرار لأجل المعرفة أو، من وجهة نظر المعرفة، باعتبارها مطابقة لما هو حاضر دوما. كان لا بد من دافع حاسم حتى يتمكن هايدجر من العودة إلى الطريق الذي يقوده إلى الذهاب في تساؤلاته إلى ما بعد هذا التوصيف لـ “ماهية” الوجود والحقيقة. هذا الدافع انبثق قبل كل شيء من اللاهوت المسيحي. رغم فكر ميتافيزيقي يجعل هذا الأخير غريبا عن ذاته، يستمر فيه فعل فهم الحقيقة وهو ما نجده حقا في العقيدة اليهودية.
على سبيل الختم، أعلن عن انتهائي من عرض أطروحة روبنس بيليدور وأقترح، لزيادة توضيح موقف هايدجر من النازية، تقديم ما جاء في خاتمة مقال منشور في جريدة “الخليج” الرقمية عن نفس الموضوع. وهذا المقال عبارة عن تلخيص لكتاب ألفه عبده كساب بعنوان “هايدجر والنازية”.
يقول كاتب المقال إن فيلسوفنا عاش في بيئة اتسمت بالعنف والنزاع المستمر بين الكاثوليك الجدد والكاثوليك القدامى، وكان هذا أول مكون أيديولوجي يتعلق بالمناخ الروحي والسياسي، الذي تشبعت به طفولته، فقد جنى هذا الصراع ثماره تلك من التجارب المؤلمة التي تحملها الأطفال في تلك الفترة، عندما نظر أطفال الكاثوليك الجدد بسخرية إلى الفارق بينهم وبين زملائهم من الكاثوليك القدامي، الذين كانوا أكثر غنى ورفاهية.
ويضيف أن ذلك كان أول الموضوعات التي أثارت اهتمام هايدجر، إذ كان ينتمي إلى أسرة كاثوليكية، ووالده كان خادماً في الكنيسة، ووالدته بنت مزارع فقير، وكانت دراسته باستمرار قائمة على منحة من أحد الأمراء، وكانت النتيجة المحتومة لهذا النزاع الديني، العداوة الاجتماعية.
واهم ما قاله كاتب المقال إن تحولات حدثت في تفكير هايدجر تغيرت بناء عليها نظرته إلى النازية، حيث كان يرى أن أجهزة الدعاية التابعة للدولة النازية أشبه بميتافيزيقا بديلة عن ميتافيزيقا الوجود، لكنها ميتافيزيقا صاخبة تعبر عن العدمية الكبرى، وحتى الدعاية التي يقوم بها الشعب تقع في ذلك السياق. من هذه الزاوية فإن النازية تعبير عن خراب العالم وتدمير الأرض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى