وجهة نظر

روتين “الصفارات” و “إسرائيل غير الآمنة”:

استأثرت معركة طوفان الأقصى بأكثر الأسئلة التباسا، لأنها المعركة التي رافقتها ضجة إعلامية كبيرة طرحت “البديهيات” محل الشك، وعلى رأسها بديهية “المقاومة” في مقابل “الاحتلال”. وإذا تمكّنت من تفادي الضرب في البديهيات تتم مواجهتك بالخسائر في الأرواح. وهي خسائر ثقيلة بدون شك. تم ينتقلون إلى الموازنة بين قوة “المقاومة” وقوة “الاحتلال”، حتى أنه ظهر حديث عن عدم امتلاك المقاومة لمضادات جوية للطيران. وهذا شأن الدول لا حركات تكافح من أجل الحرية والكرامة.
لبنان مفروض عليه الضعف من قبل واشنطن وقوى إقليمية، لكن يتهمون الآخرين باحتلاله، والسفيرة الأمريكية تعطي الأوامر لزعماء سياسيين في العلن لا في السر.
المعروف تاريخيا أن المقاومات تمتلك سلاح إيلام العدو وليس بالضرورة أن تكون مثله ولو كانت تملك ما يملك لما كان هو أصلا.
خلف السابع من أكتوبر حالة رعب لن يتم محوها نهائيا، بمعنى أنه في أي لحظة يمكن تكرار سيناريو من هذا النوع، وقد يكون مختلفا. لكن الأزمة التي خلقتها جبهة الإسناد في جنوب لبنان قبل أن تتحول إلى جبهة حرب، بعد أن خرق العدو قواعد الاشتباك، أصبحت لا تطاق.
روتين يومي لصفارات الإنذار، في الوقت الذي أكتب فيه هذه الكلمات (الساعة الخامسة مساء من يوم 24 نونبر 2024) ذكرت وسائل إعلام العدو أن صفارات الإنذار دوت 250 مرة.
جحيم لا يتحمله الإسرائليون، الذين يضطر أغلبهم للهروب إلى الملاجيء. في الوقت نفسه كان الحزب قد أطلق 400 صاروخ من تصنيفات مختلفة، من ضمنها نوعا ثقيلا ودقيقا في إطار معادلة بيروت / تل أبيب.
حيث قالت جيروزاليم بوست، لقد “أدى إلى إصابة العديد من الإسرائيليين وتسبب في أضرار جسيمة”. وقالت هاريتس، على موقعها باللغة الإنجليزية “تم إطلاق وابل متواصل من الصواريخ من لبنان على إسرائيل يوم الأحد، مما أدى إلى اشتعال النيران في عدة سيارات في وسط إسرائيل وتعريض مبنى سكني في حيفا شمال إسرائيل لخطر الانهيار”.
الصحيفة نفسها تسأل إسرائيليا “لماذا ترفض الخدمة في الجيش الإسرائيلي؟”، حيث تحدثت صحيفة هآرتس مع عيدو إيلام، وهو شاب يبلغ من العمر 18 عامًا يحتج على الحكومة باختيار السجن العسكري على أن يكون جنديًا، قائلًا إنها مسألة حياة بشرية. “هذه الحكومة ليست منزعجة من عدد الجنود الذين يموتون أو عدد الفلسطينيين الذين يموتون”.
جنود يموتون يوميا. وما تعترف به الصحافة الإسرائيلية هو الحد الأدنى المسموح به من قبل الرقابة العسكرية. إسرائيل اليوم تعتبر منطقة عسكرية من الشمال إلى الجنوب ولا يسمح فيها بالعمل الإعلامي والصحفي.
وأنا أكتب، كانت بيانات حزب الله قد وصلت إلى 42 وما زال الحبل على الجرار واليد على الزناد. هذا هو الحزب الذي يقول كثير من خصومه إنه انتهى وقد تم تفكيك بنيته.
نتخذ اليوم فقط نموذجا، وهو يوم أظهر فيه الحزب تنويعا في عملياته وتكثيفا:
قصف الحزب قاعدة بلماخيم، وهي قاعدة أساسية لسلاح الجوّ الإسرائيلي، تحتوي على أسراب من الطائرات غير المأهولة والمروحيات العسكرية، ومركز أبحاث عسكري، ومنظومة حيتس للدفاع الجويّ والصاروخي، تبعد عن الحدود اللبنانيّة الفلسطينيّة 140 كلم، جنوبي مدينة تل أبيب، بصليةٍ من الصواريخ النوعيّة.
استهدفت المقاومة بعمليّة مركّبة، صباح اليوم هدفاً عسكريّاً في مدينة تل أبيب. وعرض اعلام العدو، في الحد الأدنى المسموح به من قبل الرقابة العسكرية، مشاهد من الدمار الحاصل في مناطق الكيان جراء صواريخ المقاومة النوعية.
وللمرّة الأولى، شنّت المقاومة ايضاً صباح اليوم هجومًا جويّا بسربٍ من المُسيّرات الانقضاضيّة على قاعدة أشدود البحريّة، قصف قاعدة غليلوت مقر وحدة الاستخبارات العسكرية 8200، قصف قاعدة بيريا القاعدة الأساسية للدفاع الجويّ والصاروخي التابع ‏لقيادة المنطقة الشمالية، قصف مستوطنات “حتسور هاجليليت” و”معالوت ترشيحا” و”كفار بلوم” و”كريات شمونه”، و”ثكنة دوفيف” و”عمير” و”سعسع” و”ميرون” و”يسود هامعلاه” بصليات صاروخية، وتجمعًا لقوات العدو في مستوطنتي “المنارة” و”كِرم بن زِمرا”، ومرابض مدفعية العدو ‏في مستوطنة “ديشون” و شمالي شرق مستوطنة “جعتون”، وعمليات أخرى كثيرة وردت في بيانات فاقت لأول مرة الأربعين، واليوم القتالي في منتصفه.
وقد أرغمت الصواريخ نحو 4 ملايين إسرائيلي على الهروب إلى الملاجئ، في حين أدى القصف إلى إصابة نحو 40 سيارةً بأضرار بالغة من جراء صاروخ سقط في “بتاح تكفا” في شرقي “تل أبيب”، حيث تمّ تسجيل إصابة عدد من المستوطنين، وفق إعلام العدو.
ما وقع اليوم هو تحول في المعركة، التي تستمر منذ الثامن من أكتوبر. يوم واحد بعد طوفان الأقصى شرع الحزب في الإسناد، ولم يكن مناوشات كما زعم أنصار المقاومة “نص نص”. هذا الوضع الناري جعل مستوطني الشمال يركبهم الرعب والقلق، فتم إفراغ مدن وقرى شمال فلسطين المحتلة. مستوطنو الشمال هاربون إلى تل أبيب، ومستوطنو تل أبيب بدؤوا يضيقون بهم درعا وشرعوا في طردهم.
لم تعد هناك حياة في شمال فلسطين المحتلة. تتحدث وسائل إعلام إسرائيلية إلى مستوطنين فيقولون جزءا من الحقيقة. زوهر يسرائيل، مستوطن من نهاريا يقول “نحن لا نستطيع الخروج، ونحاول مؤخرا التوقيع على عريضة من أجل أن يتوفر التعليم عن بعد لابنائنا، وأن لا يذهبوا الى المدارس، وقد سقطت مرات عدة بقايا الصواريخ الاعتراضية، وهذا أمر مؤلم، فنحن نسمع اصوات الانفجارات. ونحن متوترون كلما ذهبنا الى العمل وعدنا، نحن مضطرون للعمل لأننا ان لم نعمل فلن يدفع لنا احد، وليس لدينا أي تعويض. واذا تأخرت عن العمل بسبب طائرة مسيرة صباحا، فلن يدفع لي أحد بدل الغياب. وهذا الأمر حصل مرات كثيرة، فنحن نخسر يوميا، وهناك أشخاص تمت إقالتهم من أعمالهم نتيجة هذا الوضع”.
وقد انتشر فيديو لرئيس بلدية عكا المحتلة، كان اليوم في المباشر على القناة 14 الصهيونية، وهرب على المباشر بعد سماعه لصفارات الإنذار.
استطلاع للرأي، أشار إلى أن ثلثي الإسرائيليين، لا يثقون بطريقة إدارة حكومة بنيامين نتنياهو للكيان، في ظلّ الحرب، وأن أغلبية إسرائيلية ساحقة، تؤيّد تشكيل لجنة تحقيق مستقلّة في فشل السابع من أكتوبر 2023. الاستطلاع، الذي نشرت نتائجه القناة الإسرائيلية 12، الجمعة، ذكر أن 54% من الإسرائيليين يؤيدون التوصّل لاتفاق ينهي الحرب في لبنان، فيما عارض 24% فقط ذلك، بينما قال 22% من المشاركين في الاستطلاع إنهم “لا يعرفون”، كما أكد 64% أنهم لا يثقون بالحكومة، فيما قال 30% إنهم يثقون بالطريقة التي تدار بها إسرائيل خلال الحرب.
سكان المستوطنات لم يعودوا يثقون في شيء. الإسرائيلي يختلف عن باقي الشعوب. اللبناني ابن الأرض يموت فيها ومن أجلها وإذا اضطرته ظروف الحرب للمغادرة يعود مباشرة بعد نهايتها ويبني حياته من جديد. أما المستوطن فهو غريب عن الأرض ولا يأتي إليها إلا بمغريات وبوعود ضمان الأمن.
فقد الإسرائيلي مفهوم الأمن. وعده نتنياهو بإعادته إلى منزله، وحشد من أجل ذلك خمسة فرق عسكرية من ضمن سبعة تتوفر عليها إسرائيل، يتقدمها لواء جولاني المخيف والمرعب، الذي تم إعطابه، وقوام هذا الجيش أكثر من 60 ألف جندي، مدججا بكافة الأسلحة. وتتعرض المنطقة الجنوبية لكثافة نارية مدفعية ومن الطيران على امتداد الساعة، وهي عسكريا تعتبر ساقطة ناريا. ومع ذلك ما زالت الصواريخ تنطلق من هذه المنطقة على مدار الساعة، وبعد مرور قرابة الشهرين لم يتمكن جيش العدو من تثبيت نقطة واحدة، وهلّل أمس إلى احتلال مدينة الخيام، وارتفعت أصوات “السياديين اللبنانيين” مبتهجة بذلك، غير أنه دارت فيها معارك عنيفة ومقتلة للعدو. وتجمعت آلياته على أطراف البلدة، ونقل صحفيون مقاومون صورا حية من المدينة التي تظهر أنه لا توجد سيطرة كما يزعمون.
إذن لا أحد بمقدوره توفير الأمن لسكان الشمال، بعد أن فرض الحزب حزاما ناريا على كل إسرائيل، وأدخل أغلبية المستوطنين إلى الملاجئ.
هذا هو مفهوم “إسرائيل غير الآمنة”، والمحافظة عليه انتصار كبير للمقاومة الفلسطينية واللبنانية وللجبهات الأخرى من محور المقاومة. وحتى لو انتهت الحرب لن يعود إلا قليلون إلى مدن الشمال، وهناك من غادر إلى الأبد. تثبيت “إسرائيل غير الآمنة” بداية لنهايتها وزوالها من الوجود.

إدريس عدار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى