النسوية، ريد بيل (red pill) وأشياء أخرى-أجدور عبد اللطيف

بهرجة المواقع والواقع:
راج على مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا، شريط فيديو قصير يظهر شخصا يدلي برأيه في مسألة تعلم المرأة وارتيادها سوق الشغل، وبعيدا عن الطابع الساخر للمقطع، وبهرجة استقاء آراء من هب ودب بخصوص موضوعات مجتمعية ذات حساسية بالغة، تسولا للمشاهدات، إلا أن إصرار المستجوب على وجوب توقف مسار المرأة الدراسي عند المرحلة الابتدائية صادم بشكل أو بآخر.
يمكن النظر إلى الشريط بشكل مبسط وتبني منظور متساهل إزاءه، كما يمكن استقباله بحس كوميدي على مضض، لكن المسألة تتخذ أبعادا اجتماعية خطيرة، عندما يتم الاستشهاد به في لقاءات نخبوية، وعندما يتناقله الأكاديميون والمفكرون، بغرض تصفية حسابات شائكة سنعرج عليها لاحقا، مع الجنس الآخر، وهو ما يمنحنا فكرة واضحة عن الشرخ الكبير في العلاقة الوجودية بين الرجل والمرأة التي يجب أن تنبني، عادة، على الود والانجذاب والتكامل، أو يفترض أن تكون كذلك.
يجب التوقف للحظة عندما تطفو سجالات عنيفة، افتراضيا وواقعيا، لا تتورع عن استعمال أقذر الوسائل للنيل من الجنس الآخر، أما عندما تصبح الظاهرة شيئا شائعا عاما لا يقتصر على أقلية أو فئة، وعندما يأخذ المجتمع في التطبيع معها، فآنئذ ينبغي التساؤل باستعجال:
ما الذي يحدث أو بالأصح ما الذي حدث؟
النسوية، استلاب المرأة وأشياء أخرى.
لم تخلف الحرب العالمية الثانية مع كل ما خلفته من مآس، أفظع من إخراج المرأة لسوق الشغل، لأن ذلك كان ممنهجا وذا مقاصد اقتصادية صرفة أولا. ولأنه لم يكن باختيار المرأة الواعي الحر ثانيا، وكما لا تصح في القانون والفقه المعاملات الأكيدِ إبرامهما تحت كل ما يقع تحت مسمى الإكراه بمختلف الطرق المؤدية لهذا المعنى، فإن تشغيل المرأة كان استلابا واضحا لدورها الهام في تكوين بناء الأسرة الذي تم نسفه، بنسف المرأة، مكانتها، وقدسيتها، إذ فقدت تحت طائلة الحريات الفردية (التي توقفت حتى اليوم عند تمثيلية صورية في المؤسسات، والتدخين، وحرية ممارسة الجنس)، الحق في عدم الاطلاع على حميمية جسدها، وخصوصيتها وفرادتها في خضم العلاقات الجنسية العابرة التي حولتها لمنديل ورقي رخيص، وفقدت كذلك وقتها الفارغ الخاص، الذي لم تكن تكن تقتطع منه سوى ساعات يسيرة لأشغال البيت، مقابل ساعات العمل الطويلة داخل المصانع والمكاتب والورشات التي تتطلب جهدا نفسيا وبدنيا رهيبا، أُعد له الرجال، لكن بنيات النساء الفيزيولوجية والسيكولوجية غير قادرة على مسايرة إيقاعه أبدا، خاصة على المدى الطويل.
الذكورية: شيطنة المرأة وأشياء أخرى.
من الطبيعي أن يبدر عن كل تطرف، رد فعل مقابل أكثر تطرفا. كما ظهر الإرهاب فقد ظهر اليمين المتطرف، وعندما استقوى اليسار كان سببا في ظهور الأصوليين المحافظين، لذلك فإن استفحال النسوية المتطرفة، التي حاولت مسخ المرأة إلى رجل، كانت سببا مباشرا في ظهور حركة red pill الذكورية المتطرفة. التي تحيل إلى المنظمات المناهضة للسياسات الحكومية عامة، والفكرة مقتبسة من فيلم The Matrix الشهير حين يخير البطل نيو Neo بين الحبة الزرقاء والتي تحيل على الجهل والطمأنينة، والحبة الحمراء red pill التي تمثل المعرفة ثم المواجهة. حيث يعتبرون النسوية طريقة لتفكيك المجتمعات لتسهيل مسألة السيطرة عليها، إذ يؤمنون بنظرية المؤامرة بشكل بالغ، وما المنظمات المنادية بالنسوية، حسبهم، سوى أذرع خفية للمتحكمين بمصائر الشعوب، لكن شيطنة المرأة تحت أية ذريعة أمر مرفوض، واختزالها في القيام بالوظائف الفكرية العادية، وفي الاكتفاء بالأشغال المنزلية والإنجاب يعتريه قصور واضح، لأن العقل والفطرة، يقرران لها الحق في التفكير والإدلاء بالرأي في حدود اختصاصاتها التي لا تتقاطع مع المهام الأساسية للرجل. ولا يمنعها من أخذ المبادرة داخل ما يمتاز بكونه مجالا خصبا لخيالها وطاقاتها الفكرية.
أشياء أخرى:
إن الطبيعة في كل ثناياها المبهرة، لا تنفك تؤكد بأن علاقة الذكر والأنثى لم تكن قط سوى علاقة تكامل، ورابطة جمالية مبهرة، لذا فالرجل كما المرأة يحتاج كل منهما للجنس الآخر، الذي يحقق له الإشباع على كل المستويات، وكل طرح يصر على إقصاء الآخر مدعيا الاكتفاء بالذات، هو تصور فيه ما فيه من شذوذ، ونحن هنا لا نختزله في الناحية الجنسية، بل هو شذوذ نفسي وفكري واجتماعي، وكل تصور يقوم على شيطنة الرجل أو المرأة، ويتغذى على هذه النزعات المريضة محكوم بالأفول، لأنه يتنافى ببساطة مع نواميس الطبيعة، وأحكام التاريخ، وقواعد المنطق.
من الجاد، والمُلح، والمستعجل، العودة إلى إعادة ترتيب أولويات العلاقة بين الرجل والمرأة، وضبط المفاهيم التي تحكمها، مع استحضار الشروط الموضوعية اليوم التي تحتم النظر إليهما وإلى أدوارهما بطريقة مختلفة، دون المساس بجوهر كل منهما، وذلك على ضوء إنتاجات المفكرين السوسيولوجيين، بعيدا عن غوغاء المواقع وبهرجة مهرجي الواقع، التي لا قدر الله، ستقودنا، جميعا، إلى انتحار وجودي واجتماعي محتوم.