الجينوسايد اللغوي: قراءة في حالة الأمازيغية في المغرب استنادًا إلى إحصاء 2024-ذ.حسن تزوضى

حسن تزوضى:أستاذ باحث
تمثل الأمازيغية في المغرب ليس فقط لغة قومية أصيلة، بل جزءًا لا يتجزأ من الهوية الثقافية والجغرافية للبلاد. ومع ذلك، تشير معطيات الإحصاء العام للسكان والسكنى لعام 2024 إلى أن نسبة المتحدثين بالأمازيغية لا تتجاوز 25% من مجموع السكان. هذا الرقم يحمل في طياته دلالات عميقة حول الوضع الراهن للأمازيغية في ظل التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
الجينوسايد اللغوي: المصطلح والواقع
يشير مفهوم “الجينوسايد اللغوي” إلى تآكل لغة ما نتيجة عوامل داخلية وخارجية تؤدي إلى فقدان متحدثيها بمرور الوقت، حتى تصل إلى مرحلة الانقراض. في حالة الأمازيغية، يظهر هذا التآكل من خلال انخفاض نسبة المتحدثين، وهو ما رصدته تقارير مثل Ethnologue التي توقعت فقدان الأمازيغية لمتحدث واحد يوميًا.
لكن الإحصاءات الرسمية لعام 2024 تعكس واقعًا أشد تعقيدًا؛ إذ تشير إلى أن نسبة 25% تتعلق بمن “يتحدثون” الأمازيغية، وليس بالضرورة بمن “يتقنونها”. هذا التفريق بين “التحدث” و”الإتقان” يعكس خللًا في المنهجية التي تقيس التفاعل اللغوي في المجتمع، ويبرز خطر تحويل الأمازيغية إلى لغة “مدرسية” غير مرتبطة بالاستخدام اليومي.
يشكل الجينوسايد اللغوي أحد أخطر التهديدات التي تواجه التنوع الثقافي واللغوي في العالم، وهو مصطلح يصف عملية تآكل وإضعاف لغة معينة بفعل عوامل متعددة، قد تكون سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. في السياق المغربي، تبدو الأمازيغية نموذجًا بارزًا لهذا التهديد، كما تعكسه بيانات الإحصاء العام للسكان والسكنى لعام 2024 التي تشير إلى أن نسبة المتحدثين بها لا تتعدى 25%، هذه النسبة تستدعي قراءة متأنية، ليس فقط لما تكشفه عن واقع الأمازيغية، ولكن أيضًا لما تخفيه بشأن التحولات العميقة التي تشهدها البلاد.
عند الحديث عن هذه النسبة، من الضروري التمييز بين “التحدث” بلغة ما و”إتقانها”. تشير منهجية الإحصاء إلى أن النسبة المذكورة تخص المتحدثين فقط، دون اعتبار مدى إتقانهم أو استخدامها في الحياة اليومية، هذا الفارق مهم لأنه يعكس تحول الأمازيغية من لغة طبيعية يتحدث بها الناس بشكل عفوي إلى لغة يكتسبها البعض في سياقات تعليمية أو رمزية دون أن تصبح جزءًا من حياتهم اليومية. بمعنى آخر، فإن هذا التحول يشير إلى تراجع وظيفي للأمازيغية، حيث تفقد تدريجيًا دورها كلغة تواصل رئيسية، لتتحول إلى رمز ثقافي أو هوية ثانوية.
هذا الوضع لا يمكن فصله عن الديناميات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها المغرب خلال العقود الأخيرة، فقد ارتفعت نسبة التمدن بشكل ملحوظ، من 51.4% في التسعينيات إلى 62.8% بحلول عام 2024. هذا التوسع الحضري لم يكن مجرد انتقال مكاني من القرى إلى المدن، بل كان يعني ضمنيًا انتقالًا ثقافيًا أيضًا. المدن بطبيعتها، فضاءات ديناميكية تعيد تشكيل الهويات اللغوية وفقًا لمنطق الهيمنة الاقتصادية والسياسية. في هذا السياق، أصبحت العربية والفرنسية، باعتبارهما لغتي الإدارة والتعليم، تهيمنان على الفضاء الحضري، مما أدى إلى تهميش الأمازيغية. في القرى، كانت الأمازيغية تستفيد من عزلة نسبية، حيث استمرت كلغة يومية في غياب ضغوط التمدن. لكن مع تقلص هذه العزلة بفعل التمدن والهجرة، دخلت الأمازيغية في دائرة الخطر.
بالإضافة إلى التحولات الاجتماعية، لا يمكن تجاهل الأبعاد السياسية. لقد عانت الأمازيغية طويلاً من سياسات التعريب التي سعت إلى فرض اللغة العربية باعتبارها رمز الوحدة الوطنية. هذه السياسات أفرزت هوياتيا ونفسيا لدى الانسان المغربي عنوانه الكبير هدر الهوية الثقافية الامازيغية حيث همشت الأمازيغية في التعليم والإدارة والإعلام، وحتى مع الاعتراف الدستوري بالأمازيغية كلغة رسمية عام 2011، ظل التطبيق العملي محدودا ، مما ساهم في استمرار التآكل اللغوي.
رغم هذا الواقع، ثمة تطور مهم يتمثل في تنامي الوعي الهوياتي الأمازيغي، هذا الوعي ليس مجرد رد فعل على تراجع الأمازيغية، بل هو نتيجة لتحولات عميقة في إدراك الأمازيغ لمكانتهم الثقافية والتاريخية، فالحركة الأمازيغية رغم تعدد اتجاهاتها وتوتراتها الداخلية، أصبحت صوتًا قويًا يطالب بالاعتراف بالحقوق اللغوية والثقافية، هذا التحول يشبه إلى حد كبير ما حدث في ألمانيا خلال القرن الثامن عشر، عندما دفع الإحساس بالتخلف عن الثورات السياسية في فرنسا وبريطانيا مثقفي ألمانيا إلى تطوير وعي تاريخي جديد، في سياق وضع الامازيغية ، يمثل هذا الوعي الهوياتي محاولة لاستعادة ما تم فقدانه بفعل عقود من التهميش.
إن العلاقة بين تراجع الأمازيغية وتوسع التمدن تشير إلى ظاهرة معقدة: بينما كان التحضر عاملًا مباشرًا في تآكل اللغة، فإنه في الوقت نفسه أدى إلى ولادة وعي جديد بين الشباب الأمازيغي الذي يعاني من اغتراب مزدوج: اغتراب لغوي بسبب فقدان ارتباطه بالأمازيغية، واغتراب ثقافي بسبب شعوره بالضياع في هوية حضرية هجينة، هذا الاغتراب أصبح محفزًا لتطوير خطاب هوياتي أكثر جرأة يعبر عن الحاجة إلى حماية الأمازيغية ليس فقط كلغة، بل كوسيلة لتعزيز الانتماء والهوية.
في ظل هذا السياق، تبرز أسئلة جوهرية حول مستقبل الأمازيغية. هل يمكن إنقاذها من الجينوسايد اللغوي؟ إذا كان الجواب نعم، فما هي الاستراتيجيات المطلوبة؟ الإجابة ليست بسيطة، لكنها تستدعي مقاربة متعددة الأبعاد. أولاً، يجب أن يتم تعزيز حضور الأمازيغية في النظام التعليمي بشكل يربط بين تعلمها واستخدامها اليومي، بحيث لا تكون مجرد لغة “مدرسية” تسعى للحصول على درجات، بل لغة حياة. ثانيًا، يجب استثمار الإعلام الرقمي والتقنيات الحديثة لتوثيق الأمازيغية ونشرها بين الأجيال الجديدة. ثالثًا، ينبغي إعادة التفكير في سياسات التنمية المحلية لدعم المناطق القروية اقتصاديًا وثقافيًا، حيث أن الحفاظ على الأمازيغية كلغة حية يتطلب دعم المجتمعات التي تحتضنها.
رغم هذه التحديات، تظل هناك فرصة حقيقية لتغيير مسار الأمازيغية. الوعي الهوياتي المتنامي، رغم أنه قد يبدو أحيانًا مشتتًا وغير منظم، يمثل قاعدة قوية يمكن البناء عليها. الأمازيغية ليست مجرد لغة، بل هي شريان حياة لثقافة عريقة ووسيلة لفهم الذات في سياق متغير. الحفاظ عليها يتطلب إرادة جماعية تدرك أن حماية اللغة ليست فقط مسألة حقوق، بل هي شرط أساسي لضمان التنوع الثقافي الذي يغني البشرية