وجهة نظر

حكاية الثورة السورية الملغومة -د. محمد أكديد

عندما سئل دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي في عهد حكومة جورش بوش الإبن عقب إسقاط النظام العراقي عن الفوضى التي أعقبت ذلك أجاب مقهقها: “إنها ليست فوضى إنه الفرح.”

هو المشهد ذاته الذي بات يتكرر اليوم في ساحات المدن والأرياف السورية بعد سقوط نظام الأسد الذي لم يعد مرغوبا فيه لا داخليا ولا خارجيا بعد تراكم الإخفاقات التي زاد من حدتها الحصار الدولي والانتهاكات الجسيمة التي طبعت سنين حكمه لسوريا.

لكن هؤلاء المنتشون بهذا النصر الذي جاء عن طريق صفقة مشبوهة لازالت تفاصيلها غامضة بين أطراف دولية وإقليمية لا تخفى أطماعها في سوريا على أحد، قد نسوا أو تناسوا في غمرة احتفالاتهم بسقوط نظام الطاغية بأن الذين أشرفوا على هذه الصفقة، قد سلموا مقاليد السلطة في البلد إلى نفس الجماعات التكفيرية الإرهابية التي كانوا يستنكرون جرائمها بالأمس ويرفعون شعار محاربتها، والتي لازال يتواجد أغلبها في قوائم الإرهاب الدولي وعلى رأسها هيأة تحرير الشام وقائدها الجولاني أو أحمد الشرع حسب ما باتت تتطلبه المرحلة الجديدة من توابل.

كما نسي هؤلاء المنتشون الذين صار بعضهم يدافع عن أحمد الشرع هذا باللوك الأمريكي الجديد، بأن الدول التي جاءت بهؤلاء هي نفسها الدول التي تآمرت على سوريا في الماضي، وزجت بآلاف المقاتلين في البلد خدمة لأجندات متضاربة، فالأمريكي كان يريد تنزيل مخطط الشرق الأوسط الجديد الذي من ضمن مخرجاته تقسيم بلدان المنطقة إلى كانطونات عرقية وطائفية لتسهيل التحكم فيها مع إسقاط النظام الداعم لمحور المقاومة هناك، والتركي كان يريد ضم مناطق الشمال إلى حدود الإمبراطوية العثمانية التي يعيش على أمجادها حزب أردوغان، وهو ما سارع إليه حتى قبل أن يصل الثوار إلى دمشق بعد ضمه لكل المناطق التي كانت محط صراع مع النظام السابق بما في ذلك حلب السورية. أما الروسي، وإن كان منخرطا في الجانب الآخر في محاربة الإرهاب الداعشي إلا أن تورطه في الحرب ضد أوكرانيا كان تؤرقه، بعد أن باتت تشكل عبئا ثقيلا على اقتصاده وتهديدا لأمنه القومي واستقرار البلد، مما قد يكون دفعه وفق ما بات يتردد إلى القبول بعرض أمريكي لإنهاء حالة الصراع هناك لقاء التخلي عن حليفه في سوريا. 

قد يتساءل البعض محقا، وأين تركت الإيراني؟ ألم يدخل بدوره في هذه الصفقة الموسعة؟ خاصة وأنه بات أقرب حليف للروسي في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة.

لعل الجواب الأقرب إلى المنطق والواقعية يرجح هذا الاحتمال. لكن ما حدث في الميدان كان في الحقيقة أقرب إلى مشهد سريالي صادم، يبدو من خلاله بأن الإيراني قد تعرض فيه لضربة غادرة مزدوجة سوف يكشف المستقبل حتما عن تفاصيلها، بيد أن هذا لا يمنعنا من التوقف عند بعض المؤشرات الدالة على ذلك انطلاقا من كرونولوجيا الأحداث والإشارات التي وردت في خطاب المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية السيد علي الخامنائي، والذي تلا مباشرة سقوط نظام الأسد.  

حيث أشار في معرض خطابه إلى أنهم أرسلوا تحذيرات إلى بشار الأسد بما كانت تحشده المعارضة في إدلب منذ شهور، لكنه أهمل هذه التحذيرات أو أنها لم تصله!! كما عرضوا عليه بعد ذلك المساعدة بإرسال قواتهم إلى سوريا شرط تقديم طلب رسمي، لكنه لم يتجاوب معهم، وهو ما بات يرجح رهان الرئيس السوري على وعود ضبابية لبعض الدول الخليجية -يرجح الغالبية الإمارات- بالتوسط له في رفع الحصار عن سوريا وإعادة الاعتراف بنظامه دوليا، وذلك مقابل الابتعاد تدريجيا عن محور الممانعة في المنطقة، حيث بات يتردد أيضا بأنه قد رفض طلبا إيرانيا بفتح جبهة الجولان لتخفيف الضغط على حزب الله الذي كان يتعرض لعدوان إسرائيلي شرس. ولربما هذا ما قصده المرشد عندما حذر من الثقة بالعدو الذي يبتسم في وجهك في نفس الوقت الذي يخفي خنجرا وراء ظهره لطعنك.

ورغم كل هذا، فقد أرسل الإيرانيون عددا من قياداتهم إلى سوريا بعد تحرك المعارضة ليتفاجؤوا حسب ما ورد في خطاب المرشد بإغلاق الممرات البرية والأجواء السورية في وجه نجدتهم. كما أن حلفاءهم في لبنان قد دخلوا فعلا إلى سوريا وأخذوا مواقعهم في القصير تجهزا للمعارك، ووصلت أيضا طلائع الحشد الشعبي إلى سوريا عبد مدخل البوكمال. بل إن الإيرانيين الذين كانوا في سوريا اشتبكوا فعلا مع المعارضة في حلب حيث استشهد هناك كل من المستشار العسكري كيومرث بورهاشمي، والمستشار العسكري محمد رضائي من قوات” فيلق القدس” أثناء الهجوم على حماة. وقد أرسلت القيادة الإيرانية اللواء جواد غفاري للمشاركة في إدارة معارك حمص في الأسبوع الأخير، وهم لا يعلمون إلى ذلك الحين بمخرجات الصفقة التي تمت بين الروس والأمريكيين عبر وكلائهم الأتراك بالإضافة إلى بعض القيادات العسكرية السورية التي يتردد بأنهم خضعوا لإغراءات الأمريكي.

وقد انقسم المتابعون هنا حول علم بشار الأسد بهذه الصفقة، خاصة وأنه نفى في رسالته الأخيرة للشعب السوري هذا الأمر، مشيرا إلى أنه بقي في دمشق إلى ساعات الصباح الأولى قبيل دخول المعارضة، قبل أن ينقله الروسي إلى قاعدة احميميم. في حين بات الكثير من الإعلاميين والنشطاء بعضهم من داخل محور الممانعة نفسه يتهمونه بالتنسيق معهم مقابل إخراجه من سوريا سالما مع أهل بيته والأموال التي حملوها معهم إلى روسيا، بل إن هناك من بات يتهمه أو يتهم محيطه العسكري بخيانة المحور خصوصا خلال المواجهات المفصلية مع حزب الله والتي قام فيها الكيان الصهيوني باستهداف قيادات من الصف الأول للحزب بشكل غريب ومثير للريبة.

هكذا صدم الإيرانيون في خضم معركة حمص بتراجع القوات الروسية عن مواقعها وانسحاب الجنود السوريين بعد أن وصلتهم الأوامر من قياداتهم العسكرية بإلقاء السلاح، ليضعهم الروس في الصورة متأخرين، حيث حاولوا التخفيف من آثار هذه الصدمة من خلال فرض بعض الشروط لانسحابهم وانسحاب حلفاءهم من جبهات القتال، لعل من أبرز ما تم تداوله منها حماية المقدسات والأقليات الدينية في سوريا وكذا سفارتهم في دمشق، والتي تعرضت رغم ذلك إلى الهجوم والسرقة، كما تعرض الشيعة والعلويون خصوصا إلى عمليات انتقامية من طرف المليشيات الطائفية التكفيرية التي دخلت مع الجولاني إلى دمشق، مما أثار مخاوف كبيرة أدت بالعديد من العوائل الشيعية والعلوية إلى إخلاء منازلهم والمسير نحو لبنان حيث لازال أغلبهم يبيتون في العراء إلى اليوم أمام صمت المجتمع الدولي المنافق.

وهكذا شكل سقوط سوريا بيد الأمريكي وحلفاءه ضربة قوية لمشروع المقاومة الذي تقوده الجمهورية الإسلامية في المنطقة، والذي كانت سوريا الأسد -على حد تعبير الشهيد يحيى السنوار- تشكل خاصرته رغم كل ما يمكن أن يقال أو ينعت به هذا النظام الذي بات مستهدفا من المحور الصهيوأمريكي وحلفاءه بالمنطقة منذ أن رفض حزمة الإغراءات التي جاء بها كولن باول سنة 2003 إلى دمشق، أي بعد ثلاثة سنوات من صعود بشار الأسد محل أبيه، مقابل عدد من الشروط كان في مقدمتها فك ارتباطه بمحور الممانعة (إيران وحزب الله حينها)، وطرد فصائل المقاومة الفلسطينية من البلاد وتسليم بعض القيادات العراقية إلى الولايات المتحدة الأمريكية. حيث رفض بشار الأسد كل هذه الشروط، لتبدأ معاناته مع مخططاتهم الخبيثة التي تمت إدارتها أيضا من خلال حملات إعلامية ممنهجة غربية وعربية لشيطنة النظام السوري رغم صحة بعض تجاوزاته ضد المعارضة خصوصا منها الإخوانية.

وقد اتضحت بعض معالم هذه المؤامرة الكونية على سوريا من خلال اعترافات رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري بعد الأزمة حمد بن جاسم آل ثاني، والذي كشف للتلفزيون القطري الرسمي سنة 2017 عن جملة من التفاصيل الخطيرة التي تخص الدعم العسكري الذي قدمته بلاده للجماعات المسلحة في سوريا بالتنسيق مع الأمريكيين والأتراك والسعوديين، وكذا رسائل البريد الالكتروني لهيلاري كلينتون وقد كانت آنذاك وزيرة للخارجية، بعد أن رفعت عنها إدارة ترامب السرية سنة 2020،  والتي تضمنت بعضها طلبا من مسؤول قطري كبير (خالد العطية) بتزويد الجماعات المسلحة التي تم تحشيدها في سوريا خلال عشرية النار بالأسلحة الثقيلة لمواجهة الجيش السوري.

وتبقى القضية الفلسطينية هي الخاسر الأكبر في هذه الصفقة المشبوهة، والتي كانت سوريا الأسد توفر الدعم والحضن لمختلف فصائلها المقاومة، فضلا عن الإشراف على خطوط إمداد السلاح للمقاومة اللبنانية المنخرطة بدورها في دعم وإسناد هذه القضية. حيث كان من بين أبرز الشروط التي وضعها الأمريكي لرفع ميليشيا الجولاني )هيأة تحرير الشام( وزملاءه التكفيريين من لوائح الإرهاب الدولي، ما ترجمه الجولاني نفسه في تصريحه الذي دعا فيه كل الفصائل بما فيها فصائل المقاومة الفلسطينية إلى تسليم سلاحها للدولة، متعهدا بأن سوريا لن تكون قاعدة للهجمات ضد إسرائيل، ومعلنا التزامه باتفاق 1974 الذي صرح نتنياهو علنا بالتحلل منه قبل أن يأمر باجتياح سوريا جوا وبرا. حيث دمر الكيان خلال أيام، وفي غفلة من المنتشين بانتصار الثورة المختطفة، كل القدرات العسكرية ومخازن الأسلحة التي هي في الواقع ملك للدولة السورية وليس للنظام السابق، كما ضم أراض جديدة كالقنيطرة التي طرد ساكنتها ودرعا والسويداء وجبل الشيخ الذي يعد منطقة استراتيجية، إضافة إلى الجولان المحتل أصلا، والذي صدر قرار حكومي بتشجيع النمو السكاني في مستوطناته بتكلفة تزيد عن 11 مليون دولار.

هكذا باتت الصورة أكثر وضوحا، فالذين خططوا لمخرجات هذه الثورة-الصفقة التي بات أبطالها المصطنعون اليوم يغضون الطرف عن التوسع التركي والإسرائيلي فضلا عن المحتل الأمريكي الذي استحوذ منذ سنوات على حقول النفط في مناطق تواجد قسد، مع تنديدات خجولة لم تتجاوز مطالبة المجتمع الدولي العاجز أمام إسرائيل خصوصا، بالتدخل لوقف تمددها في الأراضي السورية، هم أنفسهم من استفادوا اليوم من ثمارها بعد أن أينعت وحان قطافها.

أما مستقبل الشعب السوري، فلا زال مدلهما أمام سيناريوهات متناقضة لعل أسوأها السيناريو الليبي في ظل تناقض رؤى الجماعات الإرهابية المسلحة التي رافقت ميليشيا الجولاني التي باتت تهيمن اليوم على المشهد، وتململ قادة هذه الجماعات من بعض قرارات أميرها )الجولاني( الذي بات الإعلام العربي والمستعرب يجتهد في تلميع صورته في إطار تحضيره للمرحلة المقبلة. وإن كانت باقي السيناريوهات لن تخرج في الواقع عن المخطط الأمريكي الذي يتقاطع مع أجندات الإسرائيلي في سوريا، بل في كل المنطقة بناء على مخرجات مخطط الشرق الأوسط الجديد الذي يبدو بأن صقور البيت الأبيض واللوبي الصهيوني لم يتخلوا بعد عن تنزيله. 

د. محمد أكديد

باحث في علم الاجتماع السياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى