ثقافة و فن

قصة تجسد واقع مرير لطفولة معتقلة بين حرية (-18) و جدران مركز يفترض أنه طوق نجاة.

في ركن بعيد من العالم، وراء جدران باردة، تدور حكاية مختلفة، مظلمة كظلٍ في ضوء الشفق. هنا، تتجسّد فلسفة الألم؛ يتوهج الصمت بمثابة صرخة غائبة، ويتجلى العبثُ كمصير حتمي. وجوه صغيرة تحمل أعينًا مليئة بالأسرار، وقلوبًا تنبض بالأسئلة؛ أطفالٌ كأنهم ينتظرون، في دهشةٍ، أحكام القدر الذي لا يرحم.

للوهلة الأولى، قد يبدو المكان وكأنه يسدّ حاجاتهم الأساسية؛ طعامٌ ومأوى. لكن في العمق، هنالك ما هو أعظم من الجوع المادي. هنالك جوعٌ فلسفي لوجودٍ أكثر إشراقًا، لأمل يكسر قيود الظلام. أولئك الأطفال مسجونون داخل جدران باردة، ليس فقط بأجسادهم، بل بأرواحهم التي تبحث عن معنى بعيد، معنى يجيب عن تساؤل سارتر: “لماذا نحن هنا؟”، ويهدئ روع أسئلتهم الوجودية.

في هذا المكان، هناك اختلالات هيكلية تتحدث بلغة رمزية عن أزمة إنسانية: غياب الدعم النفسي والاجتماعي، وندرة الرعاية الحقيقية، مما يجعل أي محاولة للتعافي مجرد محاولات في الظلام. كل فرد هناك، من عاملٍ ومن مربٍ و مراقب، يقف في مكانٍ عالق بين الرغبة والإمكانيات المحدودة، فيغدو أشبه بممثل يتبع أدوارًا مكتوبة على مسرح الوجود العبثي، كما تصفه فلسفة ألبير كامو، حيث يدورون في دوامة أدوارهم بلا أمل، محكومون بدوامة العبث.

الواقع هنا يشبه المأساة الكلاسيكية، تُقدم تفاصيلها كلوحة تعبيرية تتجسد فيها ملامح المدارس الرومانسية والتراجيدية، حيث يُشاهد التضاد بين البراءة والشقاء في وجه الأطفال، أطفال تتأمل في وجوههم ذكريات غائبة، أحلامًا لم تُزهر أبدًا. وكأنهم قد وُلدوا في ضوء فجرٍ لم يكتمل، تائهون في عالم بلا يقين، يشبهون أولئك الشخوص المتعبين الذين تأملهم فرويد في نزاعاتهم الداخلية، صراعاتهم بين اللاوعي والرغبة في النجاة.

الجدران هنا ليست مجرد حواجز، إنها رموز صامتة للحب القاسي. في داخلها، يلتقي الناس على حافة الوجود، يمضون أيامهم في انتظارٍ كئيب لشيء قد لا يأتي أبدًا. كل يملكه شخوص المركز، هو شعلة صغيرة، يمررونها كعزاء، لكنها في قلبهم مجرد ومضة، بعيدة كل البعد عن قدرة إنارة الظلام. في هذا المشهد، يتحركون جميعًا كفرسانٍ في مسرحية بيكيت، بين العبث والمثابرة، يتحركون دون يقين.

تتشكل في أعين الأطفال أحلامٌ مرهقة، مكسورة، تبحث عن بصيص من الكرامة. أصواتهم الضعيفة تئن في صمت، وكأنهم يقفون على شفا الوجود، ينادون دون أن يُسمع لهم صوت. إن الحياة هنا قد تكون قصة عبثية، حيث يتداخل الأمل واليأس كخطوط متوازية، لا يلتقيان إلا في الخيال.

كل لحظة يعيشها المربي في هذا المركز تذكره بجوهر السؤال الفلسفي عن جدوى الوجود. فيدرك أنه، كعنصر في هذه الدوامة، يجسد معاني العزلة والنضال الفردي، ويعيش وسط أسئلة عن معنى الإنسانية وعن قدرة المجتمع على احتضان الفئات الهشة. أحلام الأطفال هناك تتلألأ كنجوم بعيدة في سماء ملبدة بالغيوم، وكأنهم في صراعٍ بين نداء النجاة وقسوة الواقع.
و لتكسير رتابة الزمن تلجأ تلك الأجساد النحيفة بنظراتها الباردة إلى التمرد على قسوة الحياة، تصنع لنفسها حرية (-18) القاصرة، المفتقرة للتمييز بين الخطأ و الصواب، فتخلق لنفسها أحداث قد تكون متطرفة في الكثير من الأحيان، لكنها مضحكة و مسلية لعقولهم الصغيرة. فيسرقون لحظات النشوة القصيرة وسط متاهة الضياع.

في نهاية المطاف، تنطفئ القصة، ويظل الأمل مجرد كلمة، و تبقى هذه الأرواح الصغيرة سجينةً بين جدران الصمت، تنتظر خلاصًا لن يأتي في عالم لا يزال يفتقر إلى الشجاعة لتغيير مساره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى