ثقافة و فن

الأخلاق بين الخصوصية الثقافية والعقل الكوني: نقد تصور المجتمع المغربي للأخلاق  في ضوء فلسفة كانط -حسن تزوضى

يُهيمن على المجتمع المغربي تصور للأخلاق يرتكز على الخصوصيات الدينية والثقافية والاجتماعية، حيث تُعتبر الأخلاق نتاجًا للمرجعية الإسلامية أو للعادات والتقاليد المحلية، هذا التصور يجعل الفعل الأخلاقي مشروطًا بالامتثال لقواعد دينية وتعاليم اجتماعية ثقافية ترتبط بالهوية الجماعية. فعلى سبيل المثال يُنظر إلى الصدق باعتباره فضيلة دينية محمودة لأنه يُعبّر عن طاعة لإرادة الله، وليس بوصفه واجبًا عقليًا كونيًا، كما تُبرَّر قيم التضامن العائلي أو مساعدة الآخرين بموجب الروابط القَبَلية أو العلاقات الاجتماعية، مما يُبرز تداخل الأخلاق مع المصلحة الجماعية، إن هذا التصور يُفضي  إلى نسبية أخلاقية تجعل القيم الأخلاقية قابلة للتغير بتغير الظروف الاجتماعية والتاريخية، فالكذب مثلًا يُعتبر فضيلة في السياقات التي تُعزّز التكافل الاجتماعي، لكنه قد يُهمَّش في سياقات أخرى عندما تطغى الفردانية أو المصالح الاقتصادية، بهذا الشكل تُصبح الأخلاق أداة لإعادة إنتاج النظام الاجتماعي أكثر من كونها التزامًا داخليًا نابعًا من العقل والضمير.

في مقابل التصور السابق الذي يربط الاخلاق بالخصوصية، يقدم إيمانويل كانط رؤية تتجاوز النسبية الأخلاقية، مؤكدًا أن الأخلاق ليست شأنًا خاصًا بالمجتمعات أو الثقافات، بل هي تعبير عن قوانين عقلية كونية، فالإنسان باعتباره كائنًا عاقلًا يملك القدرة على تشريع القوانين الأخلاقية لنفسه دون حاجة إلى مرجعية خارجية، فالفعل الأخلاقي عند كانط لا يقوم على الطاعة العمياء أو تحقيق المنفعة، بل على احترام الواجب الذي يُمليه العقل، هذا الواجب أمر عقلي قطعي منزه عن المصلحة  والمنفعة ،فالشخص حينما يقوم بالفعل الأخلاقي يجب ان يقوم به لذاته بعيدا عن أي اكراه ، فهو التزام ذاتي حر. يتجلى هذا التصور في صيغة كانط للأمر المطلق: “تصرف فقط وفق قاعدة  تريد لها أن تصبح قانونًا كونيًا” (أسس ميتافيزيقا الأخلاق)، هذا المبدأ يُبرز كيف أن الأفعال الأخلاقية لا تُقاس بنتائجها أو ارتباطها بالمصالح الثقافية، بل بمدى قابليتها للتعميم ومدى احترامها للإرادة الخيرة ،فمثلا  الكذب مرفوض عند كانط ليس لأنه يخالف تعليمات دينية أو اجتماعية، بل لأنه يتنافى مع الواجب الاخلاقي فهو لا يجوز اخلاقيا لأن من كذب على شخص كأنما كذب على الإنسانية جمعاء، فحينما تكذب على شخص إنما تريد أن توظفه كوسيلة من أجل تحقيق غاية وهذا لايجوز لأن الإنسان غاية في ذاته وكرامة تستحق الاحترام. لنضرب مثلا على لذلك؛ ففي سياق تصور المجتمع المغربي للأخلاق  تُعتبر هذه الأخيرة أداة لتنظيم العلاقات الاجتماعية وضمان استمرارية التقاليد، من ذلك نجد احترام الأكبر سنًا أو طاعة الوالدين تُقدَّم على أنها واجبات أخلاقية، لكن تفسيرها يظل مرهونًا بالعرف أو بالدين، بينما يرى كانط أن هذه الأفعال لا تكتسب قيمتها الأخلاقية إلا إذا كانت نابعة من احترام الواجب العقلي، وليس من الخوف من العقاب أو الرغبة في المكافأة، طاعة الوالدين مثلا ، تُعتبر عند كانط فضيلة فقط إذا كانت نابعة من مبدأ اعتبار هؤلاء غاية، وليس وسيلة لتحقيق استحسان اجتماعي أو كسب رهان معين .

يطرح كانط مبدأ التشريع الذاتي(auto législation) ليبرز دور الحرية الأخلاقية لتجاوز التبعية للخصوصية، يقول كانط: “الإرادة الحرة ليست خاضعة لأي قانون إلا القانون الذي تضعه لنفسها” (أسس ميتافيزيقا الأخلاق )، وفق هذا التصور يُصبح الإنسان سيد أفعاله الأخلاقية، لا تابعًا لأعراف أو تقاليد مفروضة عليه، هذه الرؤية تتناقض مع المنظور السائد في المجتمع المغربي، حيث تُعتبر الأخلاق غالبًا واجبات تملى من الخارج  حيث تعبر عن أوامر دينية أو اجتماعية، إن تأسيس الفعل الأخلاقي على الخصوصية يفتح المجال أمام الميولات مما يؤثر على قوة هذا الفعل الاخلاقي وتاثيره ،كما يؤدي الأمر ايضا إلى تعدد المعايير الاخلاقية وتناقضها وبالتالي الصراع والعنف .

إن تصور كانط للأخلاق لا تُنكر أهمية السياقات الاجتماعية أو الدينية، لكنه يؤكد على ضرورة تأسيس الأخلاق على الضمير والواجب ،هذا الواجب الذي يقوم على قواعد اخلاقية أبرزها تلك  التي تقول : “تصرف بحيث تعامل الإنسانية، سواء في شخصك أو في شخص أي آخر، دائمًا كغاية، وليس كوسيلة فقط” (أسس ميتافيزيقا الأخلاق)، هذا المبدأ يجعل من احترام الإنسان بوصفه غاية  معيارًا أساسيًا لكل فعل أخلاقي.

في ضوء تصور كانط للأخلاق دعوة لتجاوز القيود الثقافية والدينية التي تجعل القيم الأخلاقية نسبية ومحدودة ، فالالتزام بالفعل الأخلاقي لا يجب أن  يرتبط بأية سلطة خارجية ، بل هو التزام عقلي كوني يتجاوز الحدود المحلية نحو فضاء إنساني أوسع ،هذا التصور يُبرز أهمية إعادة التفكير في الأسس التي تقوم عليها الأخلاق في المجتمع المغربي، بما يعيد الاعتبار للفعل الأخلاقي القائم على الضمير بعيدا عن أية اكراهات خارجية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى