ثقافة و فن

الفلسفة والنقد: سعي مستمر لتجاوز الكائن نحو أفق الممكن. بقلم الأستاذ: حسن تزوضى

 

لطالما وجدت نفسي متسائلًا: لماذا أجدني دائم الانتقاد والرفض للوضع القائم؟ هل أنا سوداوي لا أرى في الوجود إلا الظلام؟

 في أعماق الإنسان القلق، يتجلى ميلٌ دائم نحو التساؤل والاعتراض، ذلك الميل الذي يبدو أحيانًا ثقيلاً ومربكًا، لكنه في جوهره تعبيرٌ عن رغبة خفية للعبور نحو الممكن، عندما تجد نفسك دائم الانتقاد، فإنك تعبر عن فلسفة حياةٍ لا تكتفي بالانصياع للواقع كما هو، بل تسعى إلى تخطيه، إلى تفكيكه وإعادة بنائه، إلى صياغة أفق جديد يتجاوز السائد. هذا النقد المستمر ليس مجرد موقف سلبي، بل دينامو داخلي يحرك فيك تطلعًا مستمرًا نحو الأفضل، نحو الممكن الذي لم يتحقق بعد.

إن الفلسفة بوصفها تفكيرًا نقديًا كانت دائمًا الأداة التي يعبر بها الإنسان عن رفضه للجمود واستسلامه لما هو قائم، فهذا  الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط يرى  أن “التنوير هو خروج الإنسان من حالة القصور التي وضع نفسه فيها”، إن هذا القصور ليس سوى قبول الإنسان بأوضاعه كما هي دون مساءلة، فالنقد هو البوابة للخروج من هذا الجمود والقصور، لأنه يدفع الإنسان إلى التفكير بحرية، إلى استخدام عقله دون وصاية.

إن النقد بهذا المعنى، ليس ترفًا فكريًا ولا مجرد شك دائم، بل إنه الأداة التي تفكك بها القيود، أداة لتجاوز الحاضر نحو مستقبل أفضل، إن النقد والتجاوز من صميم الوجود، فلا يمكن لأي شيء أن يتطور دون هذه الجلدية. إن هيجل،ومعه كل الفلاسفة الجدليين، يري أن كل فكرة أو وضع يتضمن تناقضاته الخاصة، وأن الحقيقة ليست ثابتة بل تتطور من خلال هذا الصراع الداخلي، والنقد أحد أدوات تحريك هذا الصراع ،وعليه فالنقد ليس  رفضًا أعمى، بل عملية بنّاءة تحاول استيعاب الحاضر وتجاوزه.

لكن، لماذا نشعر أحيانًا أن النقد يجعلنا عبيدًا للقلق؟ لأننا نعيش في عالم يحاول إقناعنا بأن الراهن هو النهاية، وأن الممكن وهم، غير أن الفلسفة تعلمنا أن الراهن نفسه كان يومًا ممكنًا، وأن “الممكن” لا يتحقق إلا حين يجرؤ الإنسان على الحلم به أولاً ثم السعي لتحقيقه. هنا يستعيد النقد وظيفته الحقيقية، فهو ليس فقط تفكيكًا لما هو كائن، بل صياغة لما ينبغي أن يكون.

إن هذه الروح النقدية هي التابث في الفلسفة وهي الرهان الذي يجب أن يتطلع إليه كل تعليم للفلسفة. أحد أعظم فلاسفة القرن العشرين، فريدريك نيتشه، يرى أن “الفلسفة هي بمثابة مطرقة  لتكسير الأصنام”. والأصنام هنا ليست فقط المعتقدات أو القيم الجامدة، بل هي أيضًا الأوضاع القائمة التي تفرض نفسها وكأنها الحقيقة المطلقة. حين تنتقد فأنت تمارس دور المطرقة، تكسر الأصنام لتحرير الطريق أمام رؤى جديدة وأفكار متجددة.

النقد ضرورة للمجتمع بقدر ما هو ضرورة للفرد. المجتمعات التي تتوقف عن النقد تموت تدريجيا، لأنها تعجز عن التكيف مع متغيرات الواقع. إنها تتكلس وتصبح أسيرة الماضي، أما المجتمعات التي تؤمن بالنقد، فهي تفتح أبواب المستقبل، لأن النقد يخلق وعيًا جمعيًا جديدًا، ويدفع الناس إلى التفاعل مع التحديات بطرق مبتكرة.

ليست الفلسفة النقدية مجرد تمرين عقلي، إنها موقف من الحياة، اختيار لشكل معين من الوجود، فعندما تنتقد فأنت تعلن رفضك للخضوع، وترسم لنفسك مسارًا نحو الحرية. وهنا يتجلى جوهر الفلسفة كما عبر عنه سقراط بقوله: ” حياة لا تخضع للمساءلة النقدية لا تستحق أن تُعاش”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى