وجهة نظر
رحلة النفس من الإصلاح إلى الاستصلاح- هشام فرجي

يُعد الإصلاح الخطوة الأولى في رحلة الإنسان نحو التغيير، حيث يبدأ بمراجعة ذاتية دقيقة، يقف فيها الفرد أمام مرآة نفسه، متأملاً عيوبه ونواقصه. أما الاستصلاح، فهو عملية أعمق وأشمل، تتطلب إعادة بناء النفس وتطويرها لتصبح أداة لنشر الخير والتأثير الإيجابي في المجتمع. وبين الإصلاح والاستصلاح، يعيش الإنسان تجربة روحية وإنسانية تتسم بالتحدي والعمل المستمر.
حينما نتأمل في حياة الشخصيات التاريخية التي مرّت بمرحلة الإصلاح، نجد أن كثيرًا منها بدأ بتحولات جذرية. خذ على سبيل المثال الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. كان في بداية حياته مثالًا للشدة والقوة المفرطة، لكنه حين بدأ بإصلاح نفسه، تحوّل إلى قائد عادل، يُضرب به المثل في الرحمة والحكمة. كان إصلاحه لنفسه انعكاسًا مباشرًا على قيادته للأمة، إذ أصبح رمزًا للعدل الاجتماعي والإنساني.
والإصلاح يتطلب الشجاعة للتخلي عن العادات السلبية. كمدمن أدرك ووعى بضرورة التعافي من الإدمان، فيقرر اتخاذ الخطوة الأولى نحو حياة أفضل. هذه الرحلة تبدأ بتحديد المشكلة والاعتراف بها، وهو ما يتطلب صدقًا مع الذات وإيمانًا بإمكانية التغيير.
لكن الإصلاح وحده لا يكفي. فلا بد من مرحلة الاستصلاح التي تعني تحويل الذات إلى مصدر للإشعاع الإيجابي، أشبه بالأرض التي لم يكتفِ الفلاح بإزالة الأشواك منها، بل أعاد زراعتها بالبذور المثمرة، وسقاها حتى أصبحت خضراء.
وعلى سبيل المثال، نرى تجربة نيلسون مانديلا، الذي قضى 27 عامًا في السجن، لكنه لم يخرج منه ناقمًا على الحياة أو المجتمع. بدلاً من ذلك، اختار استصلاح نفسه بالعلم والتأمل والتفكير الإيجابي والعمل على تعزيز قيم التسامح ونشر السلام. حين أصبح رئيسًا لجنوب إفريقيا، قاد عملية مصالحة وطنية مذهلة، جعلت بلاده نموذجًا للتحول السلمي.
أما في حياتنا العادية، فنجد أمثلة كثيرة على الانتقال من الإصلاح إلى الاستصلاح. الأب الذي يبدأ بإصلاح أخطائه مع أبنائه، من خلال تقديم الاعتذار والاعتراف بالخطأ، ثم يستصلح علاقته بهم عبر بناء جسور الثقة والمودة، يصبح نموذجًا حيًا لقدرة النفس على التغيير الإيجابي.
وفي المجتمع، يمكننا أن نرى الاستصلاح في مبادرات الأفراد الذين يتجاوزون إصلاح أخطائهم الشخصية إلى إصلاح بيئاتهم المحيطة. كالشاب الذي كان يعاني من الإدمان، ثم بعد تعافيه يقرر تأسيس جمعية لدعم المدمنين ومساعدتهم على بناء حياة جديدة.
فالإصلاح يركز على إزالة العيوب والنواقص، بينما الاستصلاح يهدف إلى تحويل النفس إلى مصدر للعطاء والخير. الإصلاح خطوة أولى أساسية، لكنه لا يحقق الغاية الكبرى إلا إذا تبعه استصلاح شامل.
ولكي نحقق الاستصلاح فلا بد من:
1. التعلم المستمر: العلم والمعرفة هما أدوات الإنسان لاستصلاح ذاته. كما أن قراءة الكتب، وحضور دورات التكوين والتأهيل ، ومتابعة الناجحين وإنجازاتهم يمكن أن تكون مصادر إلهام لمباشرة استصلاح النفس.
2. العناية بالجوانب الروحية: من خلال الصلاة، التأمل، والدعاء، تساعد النفس على استعادة توازنها.
3. الخدمة المجتمعية: يعزز العمل التطوعي قيمة العطاء، ويحوّل الإنسان من فرد منعزل إلى عضو فاعل في مجتمعه.
4. الصبر والمثابرة: لا يحدث التغيير العميق في يوم وليلة، بل يحتاج إلى صبر واستمرارية
وأخيرا يمكن القول أن النفس بين الإصلاح والاستصلاح هي رحلة نحو البحث على الكمال الإنساني. في عالم مليء بالإكراهات والضغوطات، يصبح الإصلاح ضرورة، والاستصلاح خيارًا يجعل من الفرد شعلة أمل وإلهام للآخرين. حين نصلح أنفسنا، نغير واقعنا، وحين نستصلحها، نغير العالم من حولنا. فهذه الرحلة تستحق كل جهد يُبذل فيها، لأن أعظم انتصار يحققه الإنسان هو انتصاره على نفسه.