في حوار مع الكاتب عبد النور مزين..الكتابة مغامرة واستجابة لنداء داخلي خفي للتعبير عما يدور في نفسنا في احتكاكنا بالعالم المحيط بنا.

نعيمة ايت إبراهيم -تطوان
ضيف جريدة تنوير لهذا الشهر الطبيب الكاتب عبد النور مزين نتعرف عليه وعلى أعماله أكثر في هذا الحوار
1: بداية قربنا منك أكثر من هو عبد النور مزين؟
عبد النور مزين طبيب وروائي وكاتب يكتب باللغة العربية والفرنسية والانجليزية. ولد في بني أحمد بشفشاون وتابع دراسته بشفشاون وبسوق أربعاء الغرب قبل الالتحاق بجامعة محمد الخامس بالرباط للدراسة بكلية الطب والصيدلة بجامعة محمد الخامس ابتداء من سنة 1984. تخرج سنة 1992 والتحق بوزارة الصحة ليعمل في عدة مدن قبل الالتحاق بطنجة. وخلال هذا المسار لم يكن بعيدا عن الاهتمام بالأدب قراءة ومحاولة إبداع منذ السنوات الأولى للإعدادي والثانوي والجامعي. كانت قراءاته مختلفة ومتنوعة من الشعر إلى القصة القصيرة والرواية والكتب الفكرية باللغتين العربية والفرنسية مما جعله يقترب من الرواية والقصة العربية والفرنسية في المقام الأول. وفي سنة 1992 نشرت له أول قصة قصيرة في الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي وهي قصة عندما “تزهر شجرة اللوز” قبل أن تنشر لاحقا الكترونيا. وفي سنة 2010 قرر أن ينشر ما تجمع على مدى سنوات من قصص فكانت المجموعة القصصية الأولى ” قُبلة اللوست” ليتبعها بعد ذلك بالديوان الشعري ” وصايا البحر” سنة 2013. بعد ذلك نشر روايته الأولى ” رسائل زمن العاصفة” سنة 2015 والتي ترشحت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر للرواية العربية سنة2016. وأخير صدرت له سنة 2024 روايته الثانية ” جسر النعمانية”. والدكتور عبد النور مزين اهتم ومارس من موقع المسؤولية عدة مهام نقابية وسياسية وجمعوية على امتداد كل هذه السنوات. وفي سنة 2020 انتسب إلى جامعة عبد الملك السعدي مجددا لدراسة الأدب الإنجليزي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمرتيل لينال الإجازة في الأدب الإنجليزي سنة 2023. وهو باحث مهتم بالترجمة و”الديناميات الثقافية والهامش”.
2: عبد النور مزين الكاتب الطبيب أو عبد النور الطبيب الكاتب؟ أيهما كان الأول وكيف ساهم هذا المزيج في ولادة هذه الماهية؟
ممارسة مهنة الطب لم تكن بعيدة عن اهتماماتي الإبداعية إن على المستوى العملي أو الرمزي. فمهمة الطبيب الأولى والأخيرة هي أن يكون قريبا من الإنسان للبحث في مجالات آلامه والبحث عن التخفيف منها وعلاجها ولعمرى تبقى هي المهمة نفسها إذا صار الإنسان في منزلة المجتمعات وذلك من أجل أن يتأمل الكاتب والمبدع في آلامها والبحث عن سبل تشخيصها والتعبير عنها مساهمة في تجاوزها. من هذا الفهم فالكاتب والطبيب ظلا عندي متجاورين وإن كانت الكتابة والاهتمام بعوالم الأدب هما الأسبق من الناحية الزمنية إذ بدأ الانشغال بهما في مرحلة مبكرة من سنوات الإعدادي والثانوي.
هكذا وفي تجاور دائم بين الأمل والألم ظل الغوص في المجال الإبداعي متجاورا مع كل الحالات الإنسانية التي نواجهها يوميا في اهتماماتنا المهنية وممارساتنا الاجتماعية. ولعل هذا الوعي المبكر بالإشكالات الاجتماعية هي التي جعلت الكتابة الإبداعية لدي تنحو هذا المنحى من العمق الاجتماعي لتعطي للجغرافية والأمكنة والأزمنة التي نعيشها أبعادا خاصة نستطيع من خلالها التعبير عن كينونتنا وهوياتنا ضدا على كل من أراد ويريد طمسها.
3: كتبت في الرواية والقصة القصيرة والشعر. وقد صدر لك من قبل المجموعة القصصية “قُبلة اللُّوسْت”، والديوان الشعري “وصايا البحر”، ورواية “رسائل زمن العاصفة”، وأخيرا روايتك الحالية “جسر النعمانية”، إلى أي كفة تميل أكثر عبد النور الروائي أو الشاعر أو القاص؟
الشعر كان أول ما كتبت. وأول ما نشرت وأنا في الإعدادي في مجلتنا الحائطية أولا ثم وأنا في الثانوي على صفحات جريدة الرأي الصادرة بالفرنسية. لكن القصة أتت مباشرة بعد ذلك وأنا في الدراسات الجامعية قبل أن تتجمع وتنشر في مجموعة قصصية أولى” قبلة اللوست” سنة 2010. لكن حتى خلال كتابة القصة كانت هناك لمسة شعرية معينة في عملية الكتابة حسب ما أسر لي به بعض الأصدقاء من النقاد، الشي الذي سيزداد وضوحا في الكتابة الروائية اللاحقة، خاصة في رواية “رسائل زمن العاصفة”. ولا أخفي سرا إذا قلت أن لدى الكاتب دوما ذلك المنحى الذي يجعله دوما يحن إلى الكتابة الشعرية لما تتيحه من تعبير عن الأحاسيس ولأهواء الداخلية للكاتب. ويبرز هذا الحنين وتلك الممارسة تصالحا مع النفس وهي تخوض حروبها من أجل التجديد والبحث عن طرق أعمق للتعبير عن كينونتها ليبقى الشعر تلك “اللطخة من الضوء” على حد تعبير الشاعر المغربي محمد العربي غجو، التي تضيء أعماقنا وتنير لنا سبلا نحو الجمال الثاوي في النفس الإنسانية وكذلك المنثور حوالينا. لهذا سواء في القصة أو الرواية أجدني غير منفلت من سطوة الجملة الشعرية في نهر السرد الجارف، لغدو الهسيس الشعري هو الخرير والهمس الذي يحدثه عنفوان نهر البوح والحكي الذي تفرضه عوالم الرواية والقصة القصيرة.
4 : صياغة الأدب لا يأتي من فراغ، بل لا بد من وجود محركات، حدثنا عن أعمالك وما الذي يميزها؟
في البدايات تكون الكتابة مغامرة واستجابة لنداء داخلي خفي للتعبير عما يدور في نفسنا في احتكاكنا بالعالم المحيط بنا، لكنها سرعان ما تغدو مسؤولية نحس بها في تفاعل مع هذا العالم نفسه بغية فهمه أكثر، وكذلك تلك الرغبة الدفينة في ترك الأثر الذي يمكن أن يحدث تغييرا ما في زمن ما من مسار هذا العالم. هكذا تنبني تلك المحركات الدافعة لفعل الكتابة من خلال التفاعل المتسارع للكاتب مع العوالم المجتمعية التي يعيش فيها كقوة دفع ذاتية للتأثير فيها كرد فعل واع أو غير واع عن الأثر الذي تحدثه فينا هذه العوالم. إن هذه القرارات، أي قرارات الكتابة والإبداع في ارتباطها بالمسؤولية والوعي بها، تجعل من الكتابة أداة لبلورة وعي معين وضرورة لا غنى عنها من أجل إعادة التفكير فيه وإعادة صياغته على الدوام.
5: رواية رسائل من زمن العاصفة وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العالمية للرواية العربية، سنة 2016، أتسأل هنا ألا يمكن للرواية المغربية الانتشار دونما وساطة من المشرق وجوائزه؟
المسابقات والجوائز موجودة في العالم أجمع، وهي أدوات أولا لتقييم وإبداء رأي معين حول الاشتغال الثقافي في البلد المعني، إذا اتسمت هذه الجوائز بالموضوعية اللازمة والأخلاقيات المرسومة من أجل أن تقوم بتلك الأدوار التي أشرت إليها، أي المساهمة في العملية التنموية من الواجهة الثقافية، لأنها تسلط الأضواء على أعمال وصلت درجة معينة من النضج والصنعة لتكون منارات لأجيال قادمة من الكتاب. لكن لا يجوز أن تكون هذه الآلية أداة وحيدة لتسليط الأضواء على الأعمال الروائية المغربية بل على العكس من ذلك، هناك مجالات متعددة للتعريف بالرواية المغربية سواء على مستوى الاعلام الثقافي أو الاشتغال النقدي المتخصص والدراسات الأكاديمية والأبحاث في المجالات السردية، والنشر في المجلات والمنصات ذات الاهتمام الثقافي. لكن هناك بعض السلبيات التي لا تزال تعيق هذا المسار من أن تتبوأ الرواية المغربية المرتبة الرفيعة التي صارت تحظى بها على المستوى العربي والعالمي. ومن هذه السلبيات نجد بعض مظاهر الحلقية وحتى الزبونية في التعاطي مع الأعمال الروائية الجديدة التي لا تجد إمكانية تخطى هذه الحواجز، والتي عادة ما تكون ذات دوافع بيروقراطية وريعية، من أجل الظهور وتسليط الأضواء عليها في الاعلام العمومي أو القنوات الإعلامية الخاصة المؤثرة والتي ما زالت تسيطر عليها في الكثير من الحالات، نخبة معينة من المسؤولين التي لا تستطيع أن ترى في إتاحة الفرصة للأعمال الجادة جدوى وطنية على مستوى القيمي أو التنموي العام. لكن مع الثورة الرقمية في وسائل التواصل، استطاعت ألأصوات الروائية الجديدة أت تفرض نفسها نوعا ما، وأن تتخلص من سطوة حرس النخبة المتنفذة في مفاصل الصناعة الثقافية في المغرب، والرواية جزء لا يتجزأ من هذا المشهد.
6: المبدع والمثقف له دور فعلي ومؤثر في المنظومة الاجتماعية التي يعيش فيها ويتفاعل معها إلى أي مدى تتفق ؟
تعتبر الكتابة بشكل عام، والرواية جزء منها، عملية تواصلية بامتياز بين الكاتب وجمهور القراء حول مواضيع مختلفة تستأثر باهتمام القراء والكاتب معا. من هذا المنظور تجد الرواية نفسها كشكل تعبيري، نوعا من التواصل شديد التعقيد لا من حيث المواضيع والتيمات فحسب ولكن أيضا من حيث شكل الكتابة وطرق البناء المعماري في الرواية. ومهما استطاع الكاتب أن يجدد في مسار كتاباته إلا أنه يجد نفسه بشكل أو بآخر ينهل مما يزخر به المجتمع من تفاعلات وأفكار ليضيف إليها هو أيضا شيئا جديدا في نتاج كتاباته التي بدورها ستتفاعل مع كتاب وقراء آخرين لتستحيل إلى مادة ينهل منها كتاب آخرون نقدا أو تطويرا. هكذا تصير عملية الكتابة نسيجا متميزا من أدوات التطوير الاجتماعي والبناء التنموي على اعتبار أن الفكر وحده هو محرك المجتمعات وأداة تقدمه.
7: كلمة أخيرة لجريدة تنوير
كل الشكر والتقدير لكم في جريدة تنوير على الاهتمام الذي تولونه للثقافة والمثقفين عموما وعلى هذه الحوارات الغنية التي تعد جسرا مهما لربط الكتاب بحاضنتهم الشعبية وهي عملية القراء والقراء.