وجهة نظر

الحق في التعليم والتكوين والتشغيل والتنمية والسياسة التعليمية في المغرب (القسم الثاني) ذ. عبد الواحد حمزة

لم يسبق أن عرف الحق في التعليم كل هذا اللبس و المخاتلة والاحتواء على مبدئيته، كحق من حقوق الإنسان، الغير القابل للتفاوض، وكل هذا الإجهاد في انتزاعه، مجانيته أو الأداء  عليه، وربط ذلك بترديه أو جودته، نخبويته أو جماهيريته، أكان بالنسبة للأسر، بالانخراط في أسلاكه ذات المردودية الرفيعة، أو للدولة، بتوجيه موارد مالية عمومية وبشرية هائلة، دون نتيجة أو إنتاجية حدية او اجمالية حقيقية، تذكر.

وهو ما سنعالجه في نقطتين، مآل الحق في التعليم والسياسة التعليمية، في بلادنا، ثم بعض طلائع التنكر لحق التعليم، عندنا، كحق مبدئي في المواطنة  الكاملة، وكذا بعض أعطاب أوالية تكافؤ الفرص، كأوالية مركزية لا محيد عنها في كل سياسة تعليمية ديموقراطية وناجعة، أو تتوخى ذلك.

 وذلك على أثر دعوة “نادي التربية على المواطنة وحقوق الإنسان”، الموطن بتمارة، لمجموعة من النشطاء المهتمين بالشأن الحقوقي والتعليمي، ببلادنا، يومه 25 يناير 2025، وهي الندوة التي وجدت ترحيبا واستقبالا لوجستيا رفيعا من طرف الادارة التربوية للمؤسسة، كما سيرها ونسقها الأستاذ-الناشط الحقوقي بوحميدي ابو الحسن( ابو علي) بنجاح، بمناسبة اليوم العالمي للتعليم، مكرسا تقليدا حقوقيا محمودا منذ سنة 2018.

 كما نشط الأستاذ مبارك العثماني- مشكورا- على جانب الندوة، وفضلا عن تدخله التركيبي الموفق، من جانبه الحقوقي المميز حول الحرف والهوية واللغة الأمازيغية كلغة وطنية دستورية، عن  الهيئة المغرببة لحقوق الإنسان – والتي لازالت تقيم الدنيا ولا تقعدها في الميادين من أجل الاعتراف بحقها/ الوصل القانوني النهائي في العمل الحقوقي الشرعي المتوازن/الرزين، الى جانب نظيراتها – الجمعيات الحقوقية المغربية الاخرى، مناضلة لما يزيد الان عن “خمسة سنوات عجاف” – بورشة بيداغوجية حيوية ناجحة ضمت و إنبسط لها ما يفوق الخمسين تلميذة وتلميذ إخترن وتشرفن/وا، واحدة/ا واحدة/ا، بكتابة أسماءهن/م كاملة بحروف كاليغرافية أمازيغية جميلة/ تيفيناغ على أوراق مقوى…!!

  وفي ما يلي نتابع مداخلة الأستاذ عبد الواحد حمزة الباحث بجامعة الحسن الثاني المحمدية، وهي باقي مداخلته في الموضوع، إلا جزء منها،  على ان نخصص القسم الاخير للتركيب وبعض الخلاصات والخواتم والاقتراحات لتجاوز أعطاب طالت وازمة طولت في حق لا يطاول عليه، أبدا، الحق في التعليم الجيد والسياسة التعليمية العادلة، ببلادنا.

 القسم الثاني – ما قبل – الاخير: في مناقشة ودحض بعض التعريفات والتأويلات الرسمية في الموضوع

 مآل الحق في التعليم والسياسة التعليمية بالمغرب

من الممكن ان نقتصر على ما يطرحه التعليم، والحق فيه، لوحده، من اسءلة واشكالات متعددة ومهمة، لكننا اخترنا أن نوسع إطار التحليل ليشمل أبعد من ذلك، ولو لن ندقق عموديا اكثر، في كل عناصر المعادلة المطروحة للتحليل والنقد، كأن نتساءل عن أن المشكل ليس فقط في التعليم الجيد وإنما أيضا في تكوين المتعلمين، التكوين المنتج، و في إيجاد شغل لهم او إيجاده لأنفسهم، كالتشغيل الذاتي، أو إنشاء مقاولات وتشغيل آخرين، ممن هم في حاجة إلى ذلك، ويستحسنون “أجور تأمينية” revenus) assuranciels/salaires) ولا يفضلون إغراء وصعوبة المغامرة في انشاء وتسيير المقاولات، الخ.

 وعليه، سنتطرق هنا إلى الحق في التعليم – أو الحق فيه – وفي التكوين والتشغل والتنمية، واللاعبين المعنيين به، وما إذا هو يعتبر منحة أو متنازعا عليه وفيه، كما سنتعرض لمراحل وخطط السياسة التعليمية المتنوعة ببلادنا، ومدى محورية وأفقية مبدأ تكافؤ الفرص فيها، ومعنى تحقق ذلك.

وعليه نقدم أولا باقتضاب شديد بعض التعريفات الرسمية في الموضوع، ما الحق في التعليم، فهو حق أساسي من حقوق الإنسان، حق في ذاته، وهو العهد الذي قطعه المغرب على نفسه،  إذ يعمل على “إنتشال الرجال والنساء من الفقر”، ويعمل على “التخفيف من أوجه التفاوت الاجتماعي، ويضمن تحقيق التنمية المستدامة” في المغرب.

انه يشمل “كل الاستحقاقات والحريات، أكان في التعليم الابتدائي المجاني والإلزامي، من قراءة وكتابة وحساب وبرمجة”، أو غيره. والجدير بالملاحظة إضافة بعد “البرمجة” على الثلاثي الأبجدي الكلاسيكي الرسمي، أكان في الابتدائي أو ما بعده، لمواكبة العصر الرقمي- التكنولوجي.

أما “التعليم الثانوي، فمتاح للجميع، بما في ذلك التعليم التقني والمهني والتدريب”، كما يعمل على “الأخذ التدريجي بمجانيته”( انظر الفصل 168 من الدستور، حيث يتمتع الجنسين بالمساواة في التعليم..، كما ينص على التعليم الجيد في التكوين المهني وفي العمل واجب على الأسرة والدولة).

وإذا كان الدستور المغربي يتحدث عن الحق في التعليم والتكوين والعمل، فإنه لا يثير ضرورة التعليم – ما قبل المدرسي.  ثم يبدو أن المشرع يتعامل مع هذا الحق كمنحة قريبة من الصدقة وليس كواجب، كحق في ذاته، يربط الحق بفعليته وبالمسؤولية في آداءه حسن الاداء، فضلا عن إقحامه للأسرة لتحمل عبء المسؤولية المادية، على وجه الخصوص، دون التأكيد عليها ك”شريك تربوي” لازم.

فمنذ بداية الألفية الثالثة، بدأ المغرب سلسلة من البرامج الإصلاحية لمنظومة التربية والتكوين، عنوانها الأساسي تعميم التدريس وجودة التعلمات، بما يضمن الإنصاف وتكافؤ الفرص. وقد تزامنت هذه الخطط مع برامج دولية تبنتها الأمم المتحدة.

هكذا سطر المغرب مجموعة من الالتزامات، خصوصا في إطار الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وما تلاه مع البرنامج الإستعجالي 2009-2012، والرؤية الإستراتيجية، و التي بعتبر آخرها القانون الإطار 17-51 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي. وتعد خارطة الطريق2022-2026 ، آخر خطط السياسة التعليمية ببلادنا، وهي الرامية لمواصلة إصلاح المنظومة التعليمية بالمغرب، بحيث اهتمت هذه الخارطة بدورها لتعميم التعليم الأولي. ( انظر بوشعيب زيات ومن معه، السياسة التعليمية بالمغرب وتكافؤ الفرص، تعميم التعليم الأولي، جامعة السلطان مولاي سليمان، 2024، المغرب.).

وفي كل الخطط والأحوال، لا يكفي الوعي بضرورة وضع السياسات التعليمية في صلب التنمية المستدامة والمندمجة، وإنما الأخذ الضروري أيضا بحكامة جيدة لها، من ترشيد النفقات العمومية وعقلنة التكوينات والعمل بمؤشرات الجودة، الخ.

كما يلاحظ في السياسات العمومية المغربية، منذ التقويم الهيكلي الأول/ بداية الثمانينات شغف الدولة-المخزن في البحث عن فاعلين موردين جدد، كأن تقحم العائلات وتستجدي بالمؤسسات المالية الدولية، والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، مثالا.

وبهذا تستدعي دراسة السياسة التعليمية الوطنية إدراجها ضمن سياسة دولية ( الأمم المتحدة، الأبناك الدولية). كما أن الكفاءات أصبحت تتحرك دوليا، “جوالة”، حسب تعريف أطالي جاك.

كما انه سيكون من المجدي، منهجيا، الأخذ بمستويات وسيطة في تحليل هرم الإدارة التعليمية، كالجهوية على مستوى الأكاديميات، مثلا.

 وهو ما يعني أيضا الأخذ بتقييم السياسات العمومية بالتعليم، باعتماد مؤشرات تضبط اثر تلك السياسات على المجتمع، فضلا عن دراسة مدى نجاعة وفعالية وشروط استدامة الاختيارات العمومية في التعليم، بما يحقق -فعلا-مبادئ الإنصاف وتكافؤ الفرص، كقيم أساسية موجبة للمدرسة المغربية.

وبالنهاية، لا يمكن فهم صلب السياسة التعليمية ببلادنا، أي فهم كيفية اتخاذ القرار في السياسة العمومية في التعليم في حدود اختيارات الدولة- المحزن ، من خلال فاعليها الأساسيين وغير الرسميين، وإن كان هذا أساسي وحاسم في الأول والأخير، بل الأمر يمتد إلى ضرورة فهم مسألة عولمة السياسات التعليمية، عبر آلية المؤسسات الدولية، الممولة والموجهة -الضمنية أو المفضوحة – لتلك الخيارات السياسية الرسمية.

ومنذ أن طلقت السياسة العامة ببلادنا مفهوم “التخطيط” مبكرا، منذ إقالة حكومة عبد الله إبراهيم التقدمية، لم نعد نسمع ولا نتحدث إلا عن أفضال السوق والأثمان، وعن المشاريع والقطاعات دون التقائية ضرورية كافية، وعن الخوصصة، وعن “الدولة الضابطة”، في أحسن الأحوال. فالقطاع الخاص لم يستطع -ولن يستطع- تبوىء صدارة الاستثمار والتصنيع…لملازمته- منذ النشأة إلى اليوم- حضن الدولة -المخزن.

 لقد كاد مفهوم “السياسة التعليمية” يفقد معناه، كقرار عمومي مستقل. كما أن مفهوم “الحق”، أكان في التعبير داخل فضاء التعليم أو خارجه، أو في غيره من فضاءات الشأن العام، يهمش أمام قوة وعنف “الواجب” الضروري، وكأنه ليس “حق” في عينه، وكأن من اللازم أن يوازنه/ الحق واجب ما، وهو بهذا يعد هجوما عليه في عقر دار الحق.

 بل وأصبح مفهوم “الديموقراطية”، تمثيلية كانت أو تشاركية، يبهث ويتنكر له في العالم المسمى “حر”، فكيف لا يمسه أشد المسخ في بلاد التأخر والتبعية في عصر العولمة الأخير، والحكومة القسرية العالمية، التي تفقد الكثير من الشعوب سيادتها على أوطانها، أراضيها ومواردها..!؟

وهو ما قد يسمح لقوى مضادة/ جبهة اجتماعية أو شعبية أن تثور أو أن تستفيق لممارسة النضال الأيديولوجي والصراع الاجتماعي- السياسي، الفئوي والشعبي في الوطن و في  أوطان المنطقة والعالم ولدى كل الأمم التواقة للتحرر.

 وقد يكون من حظ المغرب العمل على خوض عرض سياسي وحقوقي عميق وجدي، مؤسس بحوار وطني شامل، من أجل عقد اجتماعي جديد، يطلق إصلاحات جديدة وجذرية.

  • علامات التنكر للحق في التعليم و بعض أعطاب آلية تكافؤ الفرص في المغرب

 سبق وأن تطرقنا في القسم الأول من هذه المداخلة إلى السياق التاريخي والاحصائي – التأويلي العام لمفهومي “الحق في التعليم” و” السياسة التعليمية”، ببلادنا، و كذا زاوية النظر- الإشكالية التي نطرحها ونقترحها للنقاش العمومي الحر، لنواصل المعالجة في هذا القسم الثاني ما بدأنا بسطه في سؤالنا المركزي:

كيف ولماذا صعوبة التوافق الأمثل بين الانتقالات الديموغرافية والاقتصادية- الاجتماعية في المغرب، وأي مكان يأخذاه الحق في التعليم والسياسة التعليمية داخل مبتغى وتطبيق التوافق الهش، ذلك؟

 منذ الاستقلال السياسي لبلادنا ونظام التعليم يتغير دون أن يحدث تحولا نوعيا فيه، بحيث ان الإضافات هنا وهناك، و البرامج الاصلاحية هنا وهناك، تتراكب بعضها البعض وتترك الأثر الخاص على بنيات وسلوكيات الفاعلين، جميعهم، دون نقلات فارقة تحسب لبعضها عن الأخرى..!.

 كما أن السياسة التعليمية تأخذ مكانا خاصا باستمرار في حلبة الصراع الاجتماعي الطبقي ببلادنا. وذلك ببن كافة الطبقات والشرائح الاجتماعية، ولم تطرحها يوما، حتى انها كانت مفتوحة على انزلاقات خطيرة في الكثير من الاوقات.

ويكفي التذكير هنا بمثالين تاريخيين، على الأقل: أحداث 23 مارس1965، التي اثمرت منظمتي “23 مارس”، و “إلى الأمام”، السياسيتين الجذريتين، بداية سبعينيات القرن الماضي، وحركة “تنسيقية الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد”، لا الحصر، الحركة المطلبية “النقابوية”، اليوم، وهي المناضلة المتأسسة على جنب ولخذلان المؤسسة النقابية الرسمية لمطالب الشغيلة التعليمية ( انظر النضالات العمالية لإسقاط أو إصلاح قانون الإضراب.. انظر-آخرها- إضراب عام إنذاري في القطاعين الخاص والعام، دعت له ك.د.ش، وقطاعات نقابية اخرى، ليومه الأربعاء5 و الخميس 6   فبراير 2025)….!.

ويبدو في كلتا الحالتين- المحطتين التاريخيتين، بالرغم من تباعدهما الزمني النسبي، يخرج المعنيون- المتضررون/ات، من تلاميذ وأولياؤهم وأساتذة وباقي أبناء الشعب للتظاهر والاحتجاج على السياسة التعليمية المزمع إتباعها، وإن كان تعامل ورد فعل السلطة المركزية العنيف يختلف، شكليا ونسبيا، في كلتا المناسبتين، ليظهر للجميع أن معضلة التعليم وإصلاحه، عبر “النضال الديموقراطي” الشكلي، بما يمكن أن يتيحه من مكاسب وفرص للحركية الاجتماعية للأفراد والأسر الشعبية، معضلة ذات طبيعة قارة وبنيوية، لم تجد حلها الجذري نهائيا، خارج حلبة الجيوسياسية المحلية، ولم تنتج مكاسب شعبية نهائية، في المغرب المعاصر.

وبإيجاز شديد، لازالت الساحة الاجتماعية والسياسية ببلادنا تعرف إستراتيجيتان أساسيتان متناقضتان في التعليم والتكوين والتشغيل والتنمية: إستراتيجية النخبة ولإعادة صناعة بني جلدتها، خدمة للنخبة الأقلوية المالكة للرأسمال/ الثروة والريع المتعلمة والمتكونة و”المنذورة”، بالطبيعة لا بالمجتمع !، لتسيير دواليب الاقتصاد والمجتمع والدولة-المخزن، من جهة.

ثم هناك إستراتيجية “قوى حية” أخرى، أو هكذا تسمي نفسها،  تجاهد الإقصاء والتهميش والهشاشة الاقتصادية والاجتماعية، لكنها تعمد على توسيع الحق اللا مشروط في التعليم والتأهيل، مشاركة في حلبة الصراع وعملية الوعي الاجتماعي- السياسي والنقابي المتدرج ..، لتكون في ركاب ذلك كتلة عريضة من المجتمع العامل والشعبي المناضل، من جهة أخرى ( انظر غرامشي انطونيو، الفكر البيداغوجي عند غرامشي، 1980، فرنسا أو دفاتر السجن، المنشورات الاجتماعية، فرنسا، 1975).

وفي هذه العملية الصراعية الإجتماعية، بالذات، تراهن الطبقات الأساسية في المجتمع على كسب مثقفين عضويين، أكانوا في اليمين أو اليسار، يربطوا مصيرهم بمصيرها…، إن وجدوا، لأن السلطة الحاكمة لا تتعب من تبني و إستجلاب واستقطاب نخب تعرف “من أين تؤكل الكتف”!، كانت- إلى الأمس القريب – في خندق يسراوي معارض (انظر واتربوري في كتابه الشهير: أمير المؤمنين…)،  وهي اليوم أشد واقعية وانبطاح.

 كما تستمد القطاعات الإنتاجية والخدماتية حصيصها من القوة المنتجة، وفق ما تتطلبه الدورة الاقتصادية الرأسمالية التابعة، لتخفيض وتبخيس دائم لقيمتها، ما أمكن، و لترمي بالباقي في الهامش، بدواليب القطاع الغير- مهيكل العريض ببلادنا، للضغط على مستوى الاجور الاسفل والتضخم نحو الأعلى ، خدمة لإعادة إنتاج المجتمع الطبقي-الاحتكاري النخبوي السائد والعولمة وزبانيتها…

ويبدو اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن الحق في التعليم والتكوين والتشغيل أصبح إشكاليا، ببن ضمان قانونيته الدستورية، التي لا غبار كثيف حولها، عموما، من جهة، وفعليته الحقة، أي إستحقاقياته على مستوى الاقتصاد والمجتمع والدولة-المخزن، بما هو مطلب طبيعي عادي للحفاظ على نفس مستويات الربح أو الدفع به إلى أقصاه، من جهة أخرى.

ولم يسبق أن عرف المغاربة- الجمهور العريض كل هذا الإنفصال، حد الاستسلام لطغيان التجهيل والأمية والرداءة…، وكذا التعارض والتضاد والصراع والتنافس المحموم الذي أصبح يحتدم اليوم بين قوى المقاربة الحقوقية- القانونية – الشكلية، والتي نذر إليها مناضلون جمعويون أنفسهم، شفاعة من السياسة السلطوية وما يأتي منها، حيث تم التسليم بطبيعة النظام السياسي القائم، منذ الدستور- ما قبل الأخير، الذي حضر لحكومة اليوسفي، والتي كرست اختيار الخوصصة والنيوليبرالية، من جهة.

ثم هناك المقاربة السياسية-الاقتصادية -الاجتماعية “البئيسة” للشأن العام، حيث المجتمعان-المدني والسياسي-مهترئان، ولا جدار يحمي من خلالهما ظهر ” نظام الدولة القوية”، المقاربة التي ترهن، جذريا أو نسبيا، أو شكليا، كل تقدم في ثلاثية “المطلب النقابوي” المقصود، من تعليم وصحة وتشغيل مؤطر بقانون اجتماعي “مرن”، بتغيير هائل في مجمل طبيعة ذلك النظام، بالذات، لتغيير بناه الاجتماعية وسلوك الفاعلين، وفق دينامية وطنية مواطنة ومستقلة معلقة إلى حين، من جهة أخرى.

كل هذا وذاك يتم في ديدن ظرفية لا تتعب من دعوة القطاع الخاص إلى الاستثمار، بقلب معادلة العام- الخاص 2/3، دون جدوى، وإن كان هو نفس الاختيار الذي تم اعتماده منذ استقلال المغرب، وتكريسه منذ التقويم الهيكلي الأول، وكذا في سياق اقتصادي قليل التشغيل، بل ويلفظ القوة العاملة والكفاءات الوطنية، ويهجرها على مضض، وينتج العطالة والهشاشة والإقصاء، ويسمح بتصدير الهجرة الدامغة .

عجبا كيف يسمح المغرب بذلك، عبر قوارب الموت، لآلاف الشباب، وحتى القاصرين،  إن لم يصبحوا عبئا اقتصاديا واجتماعيا عليه، حتى انه يوظفهم سياسيا ويساوم مع الغرب بهم، إذ هم العاطلون، أكانوا من الذين لا مستوى تعليمي لهم/ “الحيطيين”، أو من ذوي مستويات جامعية ممن يرفضهم سوق الشغل المحلي، ويعمل بكفارقة لا غبار عليها على إستيراد أجانب..!؟

انه من الغرابة أن يشتكي المغرب من قلة الكفاءات التي ينتجها نظامه التعليمي، ويعتبر نفسه بلدا غير مستقبل للمهاجرين، مقارنة مع فرنسا أو البرتغال أو إسبانيا، إلا لأقل من واحد في المئة من البراني، وأن لا يحسب كبير الحساب لانعكاسات كل ذلك، ديموغرافيا واقتصاديا واجتماعيا، عليه،  ويجنح إلى تشجيع هجرات خارجية مختلفة نحوه و إليه، أكانت من إفريقيا جنوب الصحراء أو من غيرها…عوض “الاستثمار الثقافي- العلمي-التكنولوجي… الجيد” في أبناء وبنات بني جلدته!

ولعله من المقزز حقا أن يشير دستور التعليم/ السياسة التعليمية ببلادنا إلى أفضال “إنتشال” أبناء الفقراء عبر التعليم والتكوين المهني والتقني، وكأنه يعطيهم صدقة لا تجلى من الضرائب، في ما تتغاضى عن نعيم ما تسمح به من نتائج وهنوز وتكرسه من سلطة فعلية ورمزية لبنات وأبناء عائلات  الطبقات الميسورة- الحاكمة- المتنفذة في دواليب الاقتصاد والدولة – المخزن والمجتمع،  حتى وإن كانت دون الكفاءة والمستوى التعليمي الضروري والمطلوب…فهي من “أبناء وبنات بابا” تتشربه بملعقة ذهبية وعلى مهل وبدون عناء يذكر، منذ الصغر، وبحكم السليقة والثقافة الملائمة  المسيطرة.

إنها بهذه/ السياسة تعمل على معاودة وإحكام السيطرة والقيادة للنظام السياسي القائم، ككل. لهذا تكون السياسة في التعليم أداة أو سلاح توظفه الطبقات الحاكمة في حربها الضروس على الطبقات المحرومة- المحكومة (إعادة الترتيب المستمر، توجيه مهني تقني، هدر مدرسي، إقصاء، قانون اضراب سلبي المرونة والضبط  ..)، كما يقول بورديو، لإسقاطها، إن ليس بالضربة القاضية، ففي أول عتبات التقدم والرقي الإجتماعي، لا محالة.

كل ذلك يتم ومن على نار هادئة، في معركة طويلة حاسمة للعلم والمعرفة والآداب والثقافة والوعي الفئوي-الطبقي- الوطني، ولضمان أهم مدخل لكل الحقوق الأساسية للإنسان/ وللعامل، الحق في التعليم.

إنها معركة ذات أبعاد وطنية- محلية ودولية من أجل كسب دمقرطة الولوج والبقاء الكافي في مقاعد الدراسة، مما قد يضمن موقعا اجتماعيا ثقافيا في صفوف الدولة- المخزن والمجتمع والاقتصاد الريعي،..  والعالم العولمي،  إشارة  إلى حراك الموارد البشرية الفنية والخدماتية عبر العالم، اليوم.

وتجدر الإشارة إلى صعوبة الانخراط في ما يعرف بالجيل الجديد من التحولات المعرفية التي تتحدى المدرسة العمومية المغربية والسياسة التعليمية في المغرب، كمخطر أو خطر عدم كسب رهان المجتمع، في ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي.

نفس التحدي يطرح لكسب رهان انتقال مجمل السياسة التعليمية، ببلادنا،  إلى سياسة اقتصاد ومجتمع المعرفة، القادر على خلق الثروة، وإعادة إنتاجها وتوزيعها محليا، ومن أجل تصدير واستيراد دوليين  ايجابيين، وجعل الانتقال الديموغرافي، متى حصل،  فرصة سانحة للإقلاع الاقتصادي والاجتماعي لكل المغرب، بإصلاح عميق لكل التعليم، بدء بالتعليم الأولي والأساسي، بناء على الثورة الرقمية وثقافة المشروع، و كذا الإدراج المدروس والفعال لتخصصات رقمية جديدة وللذكاء الاصطناعي في جميع البرامج والمقررات التعليمية.

هذا حتما دون تفريط ولا إفراط/ أو غلو…وفق مبدأ عقلاني سديد: “تعليم وتكوين أكثر واستعمال للتكنولوجيا أقل”، بما يعني التدريب على التحليل والتركيب والنقد والحكم على الأشياء والصيرورات الإجتماعية….، مما أفادتنا فيه الدراسات التربوية المقارنة، خاصة أن مؤشرات تربوية دولية، أكان في العلوم والرياضيات T.I.M.S.Sأو في المقروئية P.I.R.L.S ، أو غيرها، لازالت تصنف بلدنا في مستويات متأخرة! وأن بلدان متقدمة، كالاسكندينافية، بالمناسبة، تراجعت -السنوات الأخيرة-عن الاستعمال المفرط “المبلد” للإنترنيت في صف التعليم….

كما أن هناك ضرورة ملحة للتجديد البيداغوجي والمعرفي الاستشرافي، عبر الانخراط في مجتمع الابتكار والإبداع، بربط المؤسسات الجامعية المغربية بمنظومة المؤسسات الأكاديمية الجهوية للمملكة، وأكاديمية الرباط سلا القنيطرة، لتجاوز الأعطاب والتأسيس لسياسة تعليمية شمولية.

كما أن منطق الصراع والتنافس عبر آلية التعليم والتكوين هو الذي يحكم منطق الفاعلين في السياسات العمومية التعليمية، بغض النظر عن حجم الشرعية الدستورية والقانونية والسياسية لكل واحد منهم، على حدة.

كما أن هذه السياسات تستمد شرعيتها القانونية والسياسية، في السياق المغربي المتميز، من نظاميتها وفلسفتها المحددة في الدستور ومبادئه (أنظر توفيق عطيفي، السياسات العمومية التعليمية في المغرب، حالة أكاديمية مراكش- آسفي، المغرب، 2024.)

بيبليوغرافيا مقتضبة

  • بوشعيب زيات ومن معه، السياسة التعليمية بالمغرب وتكافؤ الفرص: تعميم التعليم الأولي، جامعة السلطان مولاي سليمان،2024 اطروحة في القانون العام، المغرب.
  • توفيق عطيفي، السياسات العمومية التعليمية في المغرب، حالة أكاديمية مراكش- آسفي، اطروحة في القانون العام، 2024، المغرب.
  • انطونيو غرامشي، الفكر البيداغوجي عند غرامشي، 1980، ودفاتر السجن،1975 ، المنشورات الاجتماعية، فرنسا.
  • بيير بورديو، معاودة الإنتاج، عناصر تحليل النظام التعليمي، مينوي،1981 ، فرنسا.
  • المملكة المغربية، نتائج الإحصاء العام للسكن والسكنى، 2024، المغرب.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى