القراءة آلة حفر 2 متواليات بصدد رواية طنجرينا”درم هوة جهل المغاربة بالعالم الاسباني عبر الأدب” -أحمد الخمسي

أحمد الخمسي
أذكر لك، يا صديقي، خابيير، الذي لا يعرفني، ولا أعرفه، سوى بتطبيق مبدأ مغربي “مع من شفتك، بمن شبهتك”، والحال أن السي العربي غجو، نفعنا الله ببركته (ليس مجرد دعاء، ولكن) من خلال ترجمته روايتك الرائعة (طنجرينا)، تعيد إذن الأذهان، من خلالها، قصة بنتنا، مدينتنا، طنجة، مع الغرب جميعا.
ولأن، علاقة المغرب مع اسبانيا، معقدة وعاصفة ومثمرة، حكمها التوازن الصعب، حيث سبتة ومليلية والجزر المتوسطية، رهينة لديكم، ثمن “للجوار الحذر”. ولأن اسبانيا من خلال الاحتفاظ بالرهينتين، كما لو كانت من حيث صحتها النفسية، لتثبت لأخواتها الأمم الأروبية، أن جبال البرانس لا تشكك في انتمائها الأوربي، فهي لا تختلف عن مثيلاتها فرنسا وانجلترا، من حيث طابعهما الاستعماري.
صديقي خابيير، أتفهم النفحة الأوربية ذات الخلفية الإنسانية وأمم أوربا تمارس الاستعمار، تلو الاستعمار، بهدف تعميم روح “الأنوار”، يا سليل الأنوار (ص، 407، طنجرينا). بحيث لم ينعدم الضمير الإنساني لدى الإسبان، وهم يبيدون قبائل الهنود الحمر، تجلى في الراهب بيرطولومي دي لاس كاساس، منذ بداية القرن 16. وتخيَّل معي، كيف لهذا الراهب الطيب تجاه السكان الأصليين في القارة الجديدة، لم يكن ضد مرافقة الموريسكوس إلى القارة الأمريكية كعبيد يمارسون خبراهم في البناء والزراعة والحرف، لنشر العمران الايبري وتوطيد البنية التحتية التي تسهل على القشتاليين النصارى نقل الذهب الأمريكي.
***
في الحلقة السابقة ذكرتُ بكاء كارلوس كينطو، يوم تنحيه عن العرش لفائدة ابنه فيليبي الثاني، لأن حدثه ذاك صادف، أو جرى بسبب وفاة أمه جان الحمقاء (عفوا لهذا العنف اللغوي الموروث رسميا عن موافقة بل بقرار من الكنيسة).
اليوم، لا أذكر الراهب دي لاس كاساس عبثا، ولكن، ولأنك رمزت إلى وراثة فكر الأنوار من خلال حديث سيبولبيدا، فقد انتقل الأوربيون من أواخر القرون الوسطى (ق. 15) عبر النهضة، إلى أوائل الحداثة ببصمة جميلة خلدوها لإسبانيا عندما اعتبروا القرن الذهبي في تاريخها هو القرن السادس عشر.
لقد جُنَّ جنون الفرنسيين وعشقوا مدينتك حيث ولدت، غرناطة الرائعة، فأخذت نساء فرنسا البرجوازيات تؤلفن الروايات لتنقلن نمط عيش المجتمع الغرناطي، في العلاقات الغرامية ونمط العيش والترفيه والطبيعة والحدائق، كما لو كانت غرناطة المجتمع، جنة الله في الأرض. وبالمناسبة، يمكنك “إضاعة” الوقت مع كتب فولتير والمؤرخ جول ميشلي، لتعتر في ثنياياها، على فكرة مشتركة لديهما مجملها، أن فرنسا ما كانت لتصبح أمة حديثة، سوى بعنصرين اثنين: فروسية الافرنج (=الفرانك) ونمط حضارة الأندلس.
تعلم، صديقي، أن الفرنسيين، منذ معركة بافي، وقد قبض كارلوس كينطو، على ملك فرنسا فرانسوا الأول، اضطروا أن يقترضوا النقود من عائلة ميديسيس الإيطالية ليتمكنوا من جمع أموال الفدية لإعتاق ملكهم من الأسر في مدريد. ولأن للبوربون الفرنسيين صلة بنابارّا (الباسك المشترك؟)، فقد رأوا في تخليد أدبهم الفرنسي عبر نقل نمط العيش الاندلسي الاسباني.
خلال القرن السابع عشر، تحركت عواصف ومنازعات أدبية، في باريس، كون مسرحية “فرنسية” شهيرة في عهد لويس الثالث عشر، نشرها وأخرجها (1637)المؤلف المسرحي بيير كورنيي، تحت عنوان “لوسيد”، والمعني بها “السيّد رودريغ دي كامبيون”. فنهض أحد الفرنسيين ينشر مقالات نقدية جوهرها كون المسرحية “الفرنسية” تجسد سرقة أدبية عن مؤلف إسباني مغمور مقيم بفرنسا ألف نفس المسرحية قبل ست سنوات بباريس (1631).
أما الأدب الغرناطي الفرنسي، فقد نشط أوائل القرن السابع عشر، من خلال كاتبات فرنسيات بطلتهن فاطمة والزايدة مكان جريان أحداثها في غرناطة. وحتى القرن التاسع عشر، لم يزد الأديب الفرنسي الشهير شاطوبريان عن كونه فرنس رواية “الزكري و ابن سراج” لبيريث هيتي الذي ألفها بنفس الاسم في القرن السادس عشر. لنا في العربية ترجمتها تمت على يد الأمير شكيب أرسلان عن شاطوبريان، وهو لا يدري ساعتها أن مؤلفها الأصلي من مورسيا قبل ثلاثة قرون.
لقد تعب البوربون من صخب القول بالسرقة الأدبية الفرنسية عن الأدب الإسباني، لذلك، ألفوا الأكاديمية الفرنسية التي أصبح دورها تشذيب اللغة الفرنسية من المفردات الإيطالية خصوصا، ولترسيم التأثير الاسباني في اللغة الفرنسية. فللفرنسيين هوى إسباني غائر، ما كان يقلقهم سوى حادثة أسر ملكهم فرانسوا الأول على يد كارلوسكينطو. وما ظل يزرع في نفوسهم الغيرة من اسبانيا، هو صيغة البلاغة التي لخصت صورة الفرنسيين في ذهن الإسبان كون الفرنسيين بالنسبة للايبيريين مجرد “طجين سردين بتوابل الحار السوداني”، يمكن التهامه في أي وقت.
لقد ترجم الفرنسيون غرامهم بالاسبان في فرصة فراغ ولاية العهد الاسباني مطلع القرن الثامن عشر. ولأن من الحب ما قتل، فقد عز على لويس الرابع عشر أن يذهب العرش الاسباني إلى هولندا (مسقط رأس كارلوس كينطو)، لذلك أنجزوا صفقة العرش لفرنسا وجبل طارق لأنجلترا. وهو ما يفسر ذكرك في رواية طنجرينا للعدويين الأبديين لاسبانيا أنجتلرا وفرنسا.
***
صديقي خابيير، خلال الفقرة السابقة أعلاه، نقلت لك جزءا مما اشتغلت عليه من المصادر والمراجع، ولتعلم ما أصابني من شغف للاطلاع على التاريخ الاسباني بل والأوربي الغربي، لأفهم ما ورد في الرواية تجاه أوربا.
الهدف من الجهد الذي بذلته شخصيا، هو ردم الهوة التي تركها في نفسي كتابنا المدرسي الذي بقي اقتباسا لنظرة فرنسا إلى كل التواريخ، التاريخ الفرنسي نفسه، ومن خلاله، إخفاء ضعف فرنسا عبر التاريخ أمام اسبانيا. ومن حسن حظ العيش في مرحلة الانترنت اليوم كون الستار رفع عن الكتب الفرنسية نفسها التي تظهر حقائق العلاقات الفرنسية الاسبانية.
ردم الجهل الذي بقي لدى المغاربة عن التاريخ الاسباني، أصبح لدي ضرورة، منذ زرت اسبانيا أول ما حصلت على جواز السفر سنة 1994، بعدما حرمت من حقي في الحصول عليه منذ الاعتقال سنة 1975، وبالمناسبة فقد اطلعت على خبر وفاة الدكتاتور فرانكو وأنا في السجن. فلمست عند لقائي الاسبان في مدريد وطليطلة وقرطبة وغرناطة ومورسيا واشبيلية الروح المرحة والطيبوبة المتأصلة في الاسبان. بحيث مباشرة تشعر أنك في وسط عائلي. ملخص علاقات المغاربة بالاسبان يتعمق نحو إحساس نفسي، بينما يتلخص مجمل علاقات المغاربة بالفرنسيين نحو بعد نفس اجتماعي. والفارق بين النفسي والاجتماعي واضح. والحال أنك لك بنت باسم “نور”، بينما لي حفيدة فرنسية باسم “نور” أيضا، وقد ولدت في في منطقة الحماية الفرنسية سنة 1954، على تماس مع منطقة الحماية الاسبانية.
لذلك، تربط المغاربة، أفرادا وجماعات بالاسبان والفرنسيين علاقات جددت الهويات السابقة. ولأن درم هوة الجهل لا يجري فقط على صعيد المصادفات الفردية، بل تضمنه المبادرات الثقافية والمؤسسات بشكل أمتن وأفضل، فالمناسبة تقتضي أن أرد الجميل لصديقي محمد العربي غجو، الذي اجتهد ليفتح آفاق رواية طنجرينا أمام أربعمائة مليون من العرب، ليمتد خيط قراءة الرواية من أمريكا الوسطى والجنوبية إلى العالم العربي.
***
أهمية وحجم واتساع محيط قراء رواية طنجرينا، سيتسع منذ صدور الترجمة العربية منذ عام مضى تقريبا، في أفق تركز الاهتمام على العلاقات المغربية الايبيرية خلال مونديال 2030. فالبنيان الثقافي الذي سيتوفر ساعتها بعد ست سنوات، ستكون ترجمة طنجرينا قد وثقت الصلة رفقة النص القشتالي الأصلي.
في هذا الأفق أنظر أهمية صدور طنجرينا اليوم، باللغتين: الاسبانية والعربية. وهما ليستا أية لغتين، بل كلتاهما ضمن ست لغات رسمية في الأمم المتحدة، بسبب انتشار كل واحدة منهما، وبسبب ما للعالم الاسبانوفوني والعالم العربي من أهمية قصوى في القرار الدولي.
الهيمنة اللغوية الفرنسية، كواقع مختل اليوم في التوازن المطلوب لدى المغاربة، رغم أن اسبانيا سعت أن تجعل من المغرب، الذي يوجد به اكبر عدد من فروع مؤسسة ثيربانتيس في العالم، فالأدب المشترك المغربي الاسباني، يمكنه المساعدة على ردم الهوة، لكن العطب اسباني في الاعلام خصوصا. لدينا مؤسسات (BBC) و(France24) وليس لدينا مؤسسة اسبانية شبيهة. والساسة الاسبان يعلمون كم من العرب ينتشرون في القارة الأمريكية ومنهم رؤساء الدول والمستثمرون والمثقفون باللغة الاسبانية وفي منازلهم يتحدثون العربية. فكان لزاما على اسبانيا أن تستثمر أنانيتها القومية من خلال إذاعة بالعربية، قوة ناعمة. أم أن حدودها المباشرة مع العرب عبر المغرب تغلّب جانب الخوف على جانب الاستثمار؟