ثقافة و فن

اكتشاف قرية أثرية بتطوان المغربية: الدلالات والإشكالات – حسن تزوضى

    في اكتشاف أثري غير مسبوق، تمكن فريق بحث مغربي بقيادة عالم الآثار يوسف بوكبوط، وفي إطار أطروحة دكتوراه للباحث حمزة بنعطية، من الكشف عن أقدم قرية ما قبل تاريخية تعود إلى العصر البرونزي في شمال إفريقيا، وذلك بمنطقة واد لاو قرب تطوان، وقد نشر هذا الاكتشاف في المجلة الأركيولوجية المرموقة Antiquity، حيث يشير إلى وجود مجتمع أمازيغي متطور اقتصاديًا وثقافيًا قبل وصول الفينيقيين إلى سواحل شمال إفريقيا.

خلافًا للفرضيات السابقة التي قللت من تطور المجتمعات الأمازيغية القديمة، أثبتت هذه الدراسة أن الأمازيغ مارسوا الزراعة وتربية الماشية، وأقاموا علاقات تجارية وثقافية مع مجتمعات البحر الأبيض المتوسط والصحراء الكبرى. هذا الاكتشاف ينسجم مع معطيات أثرية سابقة، مثل اكتشاف أقدم تجمع زراعي في واد بهت بالخميسات، وأقدم جمجمة للإنسان العاقل بجبل إيغود، مما يعزز فكرة أن المغرب الأمازيغي كان مهداً مبكراً للحضارات البشرية.

إن اكتشاف قرية أثرية في تطوان تثبت وجود حضارة أمازيغية مستقلة في شمال إفريقيا قبل قدوم الفينيقيين ليس مجرد كشف أثري، بل هو زلزال معرفي يضرب في العمق السرديات التاريخية المهيمنة، ويدفع إلى إعادة النظر في العديد من المسلمات التي شكلت الفهم السائد لماضي المنطقة. هذا الحدث ليس فقط دليلاً على العمق التاريخي للحضور الأمازيغي في شمال إفريقيا، بل هو أيضًا اختبارٌ لمدى قدرة المؤسسات الأكاديمية والسياسية على التكيف مع معطيات جديدة التي قد تتعارض مع توجهاتها الإيديولوجية الراسخة.

في كتابه “اركيولوجيا المعرفة” يؤكد ميشيل فوكو أن بناء الحقيقة التاريخية لايتم بمعزل عن القوى الاجتماعية والسياسية التي تساهم في تشكيلها. فالتاريخ ليس مجرد إعادة بناء للوقائع الماضية، بل هو فضاء للصراعات الخطابية حيث تتنافس السرديات المختلفة على الشرعية، فالسرديات المهيمنة تسعى دائمًا إلى تثبيت رؤى معينة للماضي تخدم مصالح سياسية وإيديولوجية. في هذا السياق، تعرض التاريخ الأمازيغي لتشويه ممنهج، ليس فقط عبر الكتابات الاستعمارية التي حاولت تصويره كحالة بدائية سبقت التأثير الفينيقي والروماني، بل أيضًا من خلال الإيديولوجيا العروبية التي صاغت تاريخ شمال إفريقيا من منظور يغلب العنصر العربي ويقلل من شأن الأمازيغ باعتبارهم مجرد فاعل هامشي في تطور المنطقة.

إن الإيديولوجيا العروبية التي برزت بقوة في القرن العشرين مع صعود القومية العربية عملت على إعادة قراءة تاريخ شمال إفريقيا بما يخدم تصورًا موحدًا للأمة العربية، حيث تم تصوير الفتح الإسلامي كتأسيس للحضارة في المنطقة، مع إقصاء متعمد للإسهامات الأمازيغية السابقة. في هذا السياق، لم يكن الهدف فقط طمس الهوية الأمازيغية، بل أيضًا تقديمها كهوية ثانوية أو تابعة للهوية العربية، هذه الرؤية تجلت بوضوح في المناهج الدراسية، والكتابات الأكاديمية، والخطابات السياسية التي سعت إلى تصوير الأمازيغية كلغة وثقافة موروثة لكنها غير مستقلة، بل تابعة ومنصهرة في الثقافة للفينيقية أولا، ثم الرومانية وأخيرا في “البوتقة العربية الإسلامية“.

إن هذا الاكتشاف الأثري في تطوان يفتح الباب أمام مراجعة جذرية لهذه التصورات، إذ يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الأمازيغ لم يكونوا مجرد متلقين للتأثيرات الخارجية، بل كانوا فاعلين تاريخيين طوروا حضاراتهم الخاصة قبل وصول الفينيقيين أو غيرهم.

 من المنظور الأنثروبولوجي، لا تمثل القرية الأثرية مجرد بقايا مادية، بل تكشف عن منظومة اجتماعية وثقافية متكاملة، فدراسة نمط العمران، وأشكال الأدوات المكتشفة، وبنية العلاقات الاجتماعية داخل المستوطنة، تعكس استمرار حضاري مستقل يعيد الاعتبار لدور الأمازيغ في بناء تاريخ شمال إفريقيا.

لكن السؤال الحقيقي الذي يطرح نفسه هنا ليس فقط عن أهمية هذا الاكتشاف في حد ذاته، بل عن مدى استعداد المؤسسات المنتجة للمعرفة، سواء الأكاديمية أو السياسية للاعتراف به وإدماجه في السردية الرسمية للتاريخ، هل ستتم إعادة كتابة المناهج الدراسية لتشمل هذه الحقيقة الجديدة؟ هل سيتم تجاوز النزعة الإقصائية التي سادت لعقود لصالح مقاربة علمية أكثر إنصافًا، أم أن هذه المعطيات الجديدة ستواجه نفس مصير الاكتشافات السابقة، حيث يتم تهميشها أو إعادة تأويلها بشكل يخدم السرديات السائدة؟

التاريخ ليس فقط ما وقع في الماضي، بل هو أيضًا ما نختار أن نرويه في الحاضر، وبين الحقائق العلمية والمصالح الإيديولوجية، يبقى السؤال مفتوحًا: هل سيتسع صدر المؤسسات المنتجة للمعرفة والمسؤولة عن تبنيها لقبول هذا الاكتشاف العظيم، أم أن المصالح السياسية ستبقى حاجزًا أمام الاعتراف بالحقيقة التاريخية للأمازيغ في شمال إفريقيا؟

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى