ثقافة و فن

التفكير الانتقادي من منظور ريتشارد بول وليندا إيلدر- المصطفى عبدون

يعتقد الجميع أن التفكيرالعقلاني هو طبيعتنا، ولكن العديد من أفكارنا تفتقر الموضوعية،قد تكون منحازة وغير مصاغة بطريقة ممنهجة ولم تخضع للتحليل والتقويم. يرى الناس الأخطاء في فكر الآخر دون أن ينتبهوا إلى نقاط القوة في هذه الآراء المتعارضة، الأمر الذي يضع الفكر في وضعية متدنية دون الارتقاء إلى أعلى مستويات التفكير. فالعقل البشري قادر على استعمال ازدواجية المعايير لتبرير أنانيته الخاصة وعدم النظر للآخرين.

ومن هنا تشكل وتبلور التفكير النقدي كشعور إنساني قوي، يقوم بما هو ضروري لفضح جذور تفكيرنا الأناني وتجاهل حقوق واحتياجات الآخرين، وذلك بالرفع من مستوانا التعقلي وتحريرنا من التفكير العاطفي والانفعالي. فهو يأمل إلى خلق مفكرين نزيهين مؤهلين تأهيلا عاليا، للوقوف علنا ضد ما هو غير أخلاقي في الفكر البشري.

  • أهداف التفكير النقدي

يهدف التفكير النقدي إلى ضمان العمق في الفكر والجودة العالية في أساليب التفكير، فهو يتأسس على توظيف المعارف بالشكل المطلوب، من خلال التطوير المنفتح للذات وعلى تعلم قواعد المهارات الأساسية للفكر والتمرس على التمييز والتعليل وتقديم والأدلة والاستنتاجات والتقييم والتقويم واستصدار الأحكام على أساس معايير الصرامة المنطقية والموضوعية. فهو الشرط الأساسيللتمييز بين وجهات نظر متعددة بحيث لا يتم الرفض أو القبول للأفكار إلا بعد تمحيصها وتقييم مزاياها وعيوبها.

ولعل أهم ما يميز التفكير النقدي، هو كونه منصفا ويستخدم بطريقة مسؤولية أخلاقيا عبر العمل على فهم وتقدير وجهات نظر الآخرين والاستماع إلى حججهم وخلق الاستعداد لتغيير وجهات نظرهم. فبدل من استخدام التفكير للتلاعب بالآخرين وإخفاء الحقيقة، يتم استخدامه بطريقة معقولة أخلاقيا. ولهذا كانت النزاهة والشجاعةوالاستقلاليةالفكرية والتواضعوالتعاطف الفكري والانفتاح والمثابرة، من سماته الأساسية.

فهذه السمات مترابطة؛ فالتواضعالفكري أي الوعي بحدود المعرفةبحاجة إلىالشجاعة والنزاهة الفكريةلمواجهةالأحكام المسبقةالخاصة بنا. ولاكتشافالتحيزاتالخاصة بنا، لابد من التعاطف الفكري لفهم وجهات نظرالآخرين التي تختلف عنا جذريا مع الابتعاد عن التمركز على الذات. ولتحقيق هذا الهدف، وجب الانخراط فيالمثابرةالفكرية والثقة فيالعقل وترككل ما هوزائف أو مضلل.

إن الالتزام بهذه السمات الفكرية يسمحلنا بالدخول، بحسن نية، إلى جميع وجهات النظرذات الصلةبقضية معقدة قبل وصولنا إلىأي استنتاجاتنهائية، وبالبحث عن نقاط الضعففي تفكيرنا. التفكير النقدي يعلمنا كيف أن نحكمعلىالأفكارالتي تحكمنا وفق معايير ذات مصداقية.

من مميزات الفكر النقدي:

-معالجة جميع القضايا بعيدا عن المشاعر الخاصة أو المصالح الأنانية ومصالح المقربين أومن أجل تحقيق غايات وأهداف ذاتية، فهو لا يتأثر بمصلحته أو مصلحة جماعته وإنما يلتزم باحترام المعايير الفكرية؛

-الابتعاد عن الأحكام الجاهزة والمنحازة التي تميل إلى الحكم مسبقا على آراء الآخرين وعدم إعطاء أي وزن لآرائهم المخالفة؛

-توفير شروط تحقيق العقلية المحايدة، وهذا يفرض علينا التواضع الفكري والشجاعة الفكرية، والتعاطف مع الآخرين والصدق والمثابرة. فعكس الموضوعية هو الاستعلاء الفكري.

  • السمات الأساسية للتفكير النقدي

-التواضع الفكري: هو الوعي بحدود المعرفة، وهذا يعني أن نكون على بينة من التحيز، والأحكام المسبقة، والقيود المفروضة على وجهات النظر، ومدى جهل كل واحد بالآخر. التواضع الفكري معناه الاعتراف بأنه لا ينبغي لأحد أن يدعي معرفة الواقع أكثر من الآخرين. هذا يعني الابتعاد عن الادعاءات الفكرية والتفاخر أو الغرور وكل ما لا يقوم على أسس منطقية.

إن عكس التواضع الفكري هو الاستعلاء الفكري أي عدم الوعي بحدود المعرفة، وحدود وجهات النظر، مع التقليل من آراء الآخرين،فيقع المرء فريسة للأحكام المسبقة زاعما أنه يعرف أكثر مما يعرف الناس عن الواقع. حتى وإن ظهر بمظهر المتواضع، فإنه يسقط في التعميم الجارف ويصبح ضحية معتقدات ومفاهيم خاطئة، وتحيزات وأوهام، وخرافات غالبا ما يقاوم الاعتراف بها. فالتعالي الفكري يتنافى مع الموضوعية ويميل إلى استصدار أحكام متسرعة قد تؤدي إلى نتائج قد لا نتوقع تأثيراتها السلبية.

-الشجاعة الفكرية: وتعني الوعي بالحاجة إلى المعالجة والاستجابة بما فيه الكفاية للأفكار أو المعتقدات أو وجهات النظر التي لا تتوافق مع مشاعرنا، والقدرة على الاستماع إليها ومناقشتها علنا. فهي القدرة على التعرض للأفكار الخطيرة السائدة في المجتمع حتى وإن كانت في بعض الأحيان مبررة منطقيا.

عكس الشجاعة الفكرية هو الجبن الفكري أي الخوف من الأفكار التي لا تتفق مع آراءنا وميولاتنا. إذا كنا نفتقر إلى الشجاعة الفكرية، فإننا نخشى أن ننظر بجدية إلى الأفكار والمعتقدات أو الآراء التي ننظر إليها بجدية على أنها خطيرة علينا.

الشجاعة الفكرية تقتضي الانفتاح على المعتقدات المعاكسة والأفكار المعارضة لنا من خلال الترك الجانبي للمعتقدات الذاتية المقدسة المحددة لهويتنا والآراء غير المبررة بالأدلة والاعتبارات العقلانية،الأمر الذي سيزيل مختلف أشكال العوائق والحواجز النفسية الداخلية والقضاء على الخوف الفكري المكثف، وهكذا تصبح الشجاعة الفكرية هي المحدد لهويتنا.

-التعاطف الفكري: هو ضرورة من ضروريات اكتساب الموضوعية، فهو القدرة على اقتحام عمق وعي الآخرين والتماهي معهم قصد فهمهم جيدا وذلك عبر إعادة بناء وبدقة لوجهات نظرهم وفرضياتهم واستدلالاتهم مع الاستعداد لتذكر مناسبات كان فيها واحد على حق في الماضي إلا أن الإدانة له كانت شديدة.

عكس التعاطف الفكري هو التمركز على الذات أي التفكير من منظور أناني وأحادي، فهو يشكل حاجزا أمام فهم الآخرين: أفكارهم، ومشاعرهم، وعواطفهم. وهذا يجعلنا عاجزين على النظر في القضايا والمشاكل والأسئلة من وجهة نظر تختلف عن عاداتنا وتقاليدنا. لكن عن طريق التعاطف الفكري نكون مجبرين على تغيير وجهة نظرنا.

-النزاهة الفكرية: وهي الاعتراف بالحاجة إلى أن يكون المرء وفيا لتفكيره ومحاسبا لنفسه بنفس المعايير المعتمدة مع الآخرين. وهذا يعني أيضا أن نعترف بالتباينات والتناقضات في الفكر وأن نكون قادرين على تحديد أوجه التضارب في التفكير الواحد نفسه.

عكس النزاهة الفكرية هو النفاق الفكري؛ حالة ذهنية تتميز بنوع من التجاهل واللامبالاة إزاءالنزاهة الحقيقية. وغالبا ما تتسم بتناقضات وتعارضات عميقة الجذور. فعلى الرغم من أننا نطلب من الآخرين الالتزامبمعايير محددة ذات مصداقية، سرعان ما ينفلت النفاق الفكري ليتجلى في أساليب تفكيرناوسلوكناكصورة للأنانية الطبيعية البشرية.

-المثابرة الفكرية: يمكن تعريفها بأنها استعداد للعمل في اتجاه إنجاز مهمة مليئة بالتعقيدات الفكرية على الرغم من الإحباطات المرتبطة بها. فبعض المشاكل الفكرية المعقدة لا يمكن حلها بسهولة الأمر الذي يتطلب مثابرة فكرية دون الاستسلام للتعقيد الفكري أو الإحباط. الشخص المثابر فكريا يتميز بالالتزام الراسخ لمبادئ العقلانية على الرغم من المعارضة غير عقلانية من الآخرين، ولديه شعور واقعي بضرورة النضال رغم الارتباك الذي قد تحدثه الأسئلة غير المستقرة.

عكس المثابرة الفكرية هو الكسل الفكري، ويتجلى في الميل إلى التخلي بسرعة عندما يواجه المرء مهمة صعبة فكريا. فالمتراخي فكريا أو الكسول هو شخص لديه قدرة ضعيفة على مواجهة الألم الفكري أو الإحباط.

-الثقة في العقل:تستند على الاعتقاد بأن المصالح العليا الخاصة وتلك التي تخص البشرية قابلة للتحقق على وجه أفضل عن طريق منح حرية متزايدة لاستخدام العقل. السبب الذي سيشجع الناس على الوصول إلى استنتاجاتهم الخاصة من خلال تطوير قدراتهم التعقلية الذاتية حتى يستطيعوا تشكيل وجهات نظر ثاقبة، واستخلاص استنتاجات معقولة، وتطوير عمليات التفكير واضحة ودقيقة، وشفافة، ومنطقية.

 الثقة في العقل تجعل للمرء القدرة على الإقناع من خلال مناشدة الأسباب الوجيهة للتعليل والأدلة القوية، فيتحول إلى شخص عقلاني على الرغم من العقبات المتجذرة في طبيعة الإنسان وحياته الاجتماعية، فيكتسب الثقة والتحرك بطرق مناسبة. الفكرة العقلانية تصبح واحدة من أهم القيم والنقطة المحورية في حياته بالاستخدام الجيد للضوابط العقلية باعتبارها المعيار الأساسي التي يمكن من خلاله الحكم بالقبول أو الرفض على أي معتقد أو موقف.

عكس الثقة في العقل هو الحذر الفكري من قدراته، الذي يهدد المنطق والتحليل العقلاني عبر ترويج آراء وتصورات من قبل بعض المفكرين غير المنضبطين، فيصبح الإنسان عرضة لردود أفعال عاطفية تمس سلامة التفكير الحالي. فبدلا من وضع ثقة كبيرة في العقل فإنهم يضعونها في النظم العقائدية الخاصة بهم.

-الاستقلالية الفكرية: ويمكن تعريفها على أنها الاعتماد على الذات أثناء عملية التفكير وبناء التعقلات بدوافع داخلية بناء على المعايير العليا للعقل وعدم الاعتماد على الآخرين لتوجيه التفكير والسيطرة عليه. المرء المستقل هو شخص مستقل في حياته الشخصية لا يعتمد على الآخرين ولا تسيطر عليه العواطف البدائية ولا يخضع للأفكار غير العقلانية ويتميز بضبط النفس.

المفكرون النقديون لهم الكفاءة لرفض معتقدات الآخرين السلبية والآراء غير المبررة. فهم يقومون بتقييم التقاليد والممارسات التي يقبلها الآخرون دون تردد. فهم يسعون جاهدين لدمج المعرفة في تفكيرهم مع ممارسة الرقابة الذاتية لتعديل أخطائهم. إنهم يشتغلون وفق قيم اختاروها هم بأنفسهم اختيارا حرا.

عكس الاستقلالية الفكرية، الانسياق الفكري أوالتبعيةالفكرية.فمن الصعبتطويرالاستقلالية الفكريةلأن المؤسساتالاجتماعية فيشكلها الحالي تعتمد بشكل كبيرعلى تكريس الوضع الراهن والقبول السلبي له سواء أكان فكرياأو سياسيا أواقتصاديا.

خلاصة

غاية مؤلفي كتاب “التفكير النقدي” هو استيعابالسمات الأساسية للتفكير النقدي لتوجيهالناس بما فيه الكفاية إلى فهم التناقضات الداخلية لمواقفهم وتصوراتهم، من خلال الانفتاح ومقاومةتأثير الفكر المتمركز على الذات: فالتواضعالفكري يجعل المرء يتعرف على ما يعرفه ومالا يعرفه،والاستقلالية والشجاعة والنزاهة الفكرية والثقة في العقل والمثابرة، تمنح القدرة على التفكير بشكل مستقلوحر دون عوائق وحواجز بمعايير تطبق على جميعالأطراف وفي مختلف الأوضاع. التفكير النقدي،هو نشاط دؤوب يتطلب بدل مزيد من الجهد لإدراك الآراء المختلفة أو المعقدة في طبيعتها في جميع المجالات العليا للحياة قصد التغلب على المشاكل المستعصية عن طريق التعقل الجيد والفهم العميق للمسائل المعقدة.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى