ثقافة و فن

جان بول سارتر…الأدب والتلقي -المصطفى عبدون

استعمل توردوروف تعبير (النقاد الأدباء) لِيَسِم به أعمال ثلاثة نقاد فرنسيين، هم: جان بول سارتر، وموريس بلانشو، ورولان بارث تمييزاً لهم عن بقية النقاد، وذلك لأن أعمالهم النقدية تعتبر في صميمها نصوصاً ذات قيمة فنية وجمالية عالية بغض النظر عن مضامينها، فهي وإن كانت نصوصاً نقدية؛ فإنها تعد في الآن نفسه نصوصاً أدبية بالمعنى العالي والرفيع للكلمة، بل نجدها في أحيان كثيرة تتجاوز في أهميتها النص المنقود.(تزفتان تودوروف، “النقد ونقد النقد”، إعداد وترجمة هاشم صالح، الفكر العربي المعاصر، 34، 1985، ص32)

تميز الأدب في العصر الحديث بطرح أسئلة حول العالم، وبكيفيات مختلفة على المستوى النظري أو المستوى الإبداعي، ولم يكتف الأدب بذلك، بل إنه بدأ يسائل نفسه أيضا، في محاولة الكشف عن طبيعته، ولعل أهم الأسئلة التي طرحت في هذا الاتجاه، على امتداد القرن العشرين، كان سؤال: ما الأدب؟ لقد تعددت محاولات الإجابة على هذا السؤال، ربما لأن في الإجابة عليه سيضع الأدباء أيديهم على جوهر الأدب، الذي يتجلى من خلال الكشف عن طبيعته، والتي تتمثل في عناصر عديدة: الشكل- المضمون – المبدع – القارئ- العلاقات الاجتماعية والتاريخية التي تشكل إطارا للعملية الأدبية .(عبدالعزيز الموافي، ما الأدب بين ساتر وإيجلتون، مجلة نزوى، 1 أكتوبر 2021)

  • ما الأدب؟

كان سؤال ما الأدب، من أهم الشواغل الفلسفية الكبرى للتفكير الوجودي في القرن العشرين، ولعل أهم محاولات الإجابة عن هذا السؤال، هي تلك التي قام بها الفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر، وتأتي أهمية ما توص إليه سارتر، من أهميته ذاتها ليس كمفكر فقط، بل ومنتج للأدب أيضا، أظهر فيه ألمعية هائلة في طرائق الاهتداء إلى إحدى الشواغل المميزة لذلك العصر، الذي يعج بمخاضات سياسية واجتماعية حاسمة، كثفت معها مرفقات مصيرية من سمات التغيير المتعدد في التصورات عن العالم. تعرض جون بول سارتر إلى سؤال ما الأدب، وطرح عدة قضايا حوله منها: الالتزام في الأدب ولمن نكتب وعلاقة الكاتب بالقارئ.

يرى جان بول سارتر أن سؤال ما الأدب، هو الإجابة عن سؤالين كبيرين هما: لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ فهي دراسة للتلقي الأدبي، من ثمّ كانت القراءة والقارئ قد شكلا الغاية القصوى من الكتابة برمتها لأن تركيزه على الفاعلية القرائية للمكتوب وعلى تلقي الكتابة، قد كانت مدار حديثه في غير ما موقع من هذا الكتاب، جعلها هي محور الحديث عن ماهية الأدب، مركزا على الهدف والغاية من الأدب لتحديد ماهيته.

عمل جان بول سارتر على تحديد الدور والغرض والمفهوم العام للأدب الملتزم، عندما حلل الدور الذي يجب أن يكون عليه الكاتب المعاصر، مشيرًا إلى أن هدفه هو تأليف “الأدب التطبيقي العملي”، إذ يشارك علنيًا في المجتمع المعاصر والتاريخ من أجل الالتزام وإلهام التغيير الاجتماعي. “الكلمات مسدسات محشوة بالذخيرة، والكاتب متى تكلم فقد أطلق النار.”

يبدأ رد سارتر على النقد الموجه لـفكرة الالتزام، التي طرحها في فلسفته الوجودية (ما الأدب؟ ترجمة العربية، محمد غنيمي هلال، دار نهضة مصر، صً8)، قائلا: “ويتساءل بعض ذوي العقول الجدِلة: إلام هذه الدعوة؟ إلى الأدب الملتزم؟ إذن هذه هي الواقعية الاشتراكية القديمة، إن لم تكن تجديد في النزعة الشعبية، على نحو أعنف. “كم من حماقات! ذلك أنهم يقرؤون مسرعين دون أن يتدبروا، ويحكمون قبل أن يتثبتوا. وإذن، لنبدأ من جديد، وليس في الأمر مسلاة، لا لي ولكم،ولكن علينا أن نسبر غور المسألة. وما دام النُقّاد يدينوني باسم الأدب، دون أن يقولوا ما يفهمونه من مدلوله، فخير ما نجيبهم به أن نبحث فن الكتابة بدون مزاعم، مُتسائلين: ما الكتابة؟ لماذا نكتب؟ ولمن؟ وحقًا يبدو أن هذا هو ما لم يسأل إنسان نفسه قط.”

 أدرك سارتر أن الغرض من المؤلف هو صنع التاريخ، باستخدام الكلمات بوصفها أدوات للعمل إذ يربط الالتزام الأدبي والفني بالأخلاق والسياسة بطريقة يعتقد أنها تُصوِّر عرضًا تقديميًا عالميًا. يطالب سارتر بحرية الإنسان، ويرى أن الحرية هي الموضوع الرئيسي الوحيد للإنسان. بينما يمكن استخدام الادعاء المفاهيمي لتحديد أساس الأدب الملتزم. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن سارتر رأى اختلافًا واضحًا بين النثر والشعر، إذ يستخدم اللغة الإلزامية في “تحديد الأشياء”، وليس الكتابة الملتزمة التي شكلت “الواقع وتحويله”. رأى أن الأدب مرتبط بالسياسة، وبشَّر بحتمية أن يكون الكاتب الصادق ثوريًا إذا سرد مساره

الثابت في السياسة. إن عمل سارتر بمثابة دعوة إلى “نصوص معارضة”، عمومًا، رأى الأدب الملتزم على أنه فن من المفترض أن يصل إلى الجماهير.

  • لمن نكتب؟

يرى سارتر أن الكتابة والقراءة هما الوجهان للحقيقة التاريخية الواحدة، والحرية التي يدعونا اليها ليست شعورا مجردا خالصا بحرية الإنسان، “فالحرية لا وجود لها”، لكنها تكتسب في موقف تاريخي خاص، وما دامت حرية كل من المؤلف والقارئ تبحث كل منهما عن الأخرى، ويتبادلان التأثير فيما بينهما، فان اختيار المؤلف لبعض مظاهر العالم، هو الذي يحدد طبيعة قارئه، لذلك. فان كل عمل فكري، يحتوي- ضمنيا- صورة قارئه.(عبدالعزيز الموافي، المرجع السابق) إن فعل الكتابة واقتدار التلاقي الذي يستحدثه القارئ يمنح مستويات هائلة للديمومة والمواكبة للتواجد في جعل القراءة مجالات تجعل الكاتب والقارئ ينشدان مجال تعاوني يخرج للوجود، إذ يمنح القارئ اقتدار الكشف عن الموضوعات، ومجالا موسعا لاستجلاء المعنى وإيقاظا له، فهو بتعبير سارتر اكتشاف واختراع من جهة القارئ والكاتب أيضا. فالقراءة خلق من القارئ بتوجيه من المؤلف. فكل شيء بالنسبة إلى القارئ موضع نظر، وإنما يتحقق وجود العمل الأدبي على قدر المستوى الدقيق لطاقة القارئ، وحين يقرأ فيخلق ما يقرؤه يظل على علم بأن يستطيع دائما أن يذهب أبعد من ذلك في قراءته، ممعنا في تعمقه قراءة وخلقا.

فالمؤلف يكتب ليتوجه بكتاباته إلى حرية القراءة متطلبا منه أن يخرجوا عمله الأدبي إلى الوجود، وهذا المعطى متوقف على الثقة ما بين الكاتب والقارئ، فالكتابة تعاقد حر بين المؤلف والقارئ، فيثق كل منهما في الآخر، ويعتمد عليه ويتطلب منه ما يتطلب من نفسه. فهو قرار حر يتخذانه كلاهما. فمسألة اختيار الكاتب التوجه إلى حرية الآخرين من الناس بحيث يستطيعون معا بفضل التعاقد المشترك بينهم وبينه، أن يجعلوا الكون كله ملكا للإنسان، وأن يجعلوا الإنسانية وقفا على العالم.

هذه هي المتعة التي بإمكاننا أن نجدها في الإنتاج المقروء وفي صدى الكاتب الملتزم، وهذا ما يدعونا إلى معاودة النظر في الكتابة وتبين دلالاتها وما تحمله من أهمية وجدارة، ذلك أن الكتابة كشف للعالم تم اقتراحه واجبا يقوم به القارئ، والكتابة لجوء الكاتب إلى ضمير الآخرين، فالعالم لا يبين عن أسراره إلا بالعمل، والمرء لا يستطيع الشعور بنفسه إلا إذا تجاوز الواقع بغية تغييره. يقول سارتر: “قد كان خطأ الواقعية في اعتقاد أصحابها أن الواقع ينجلي بالتأمل فيه، وأنه يمكن تبعاً لذلك تصويره تصويراً لا تحيز فيه، وكيف يكون هذا ممكناً ما دام التحيز في الإدراك نفسه، وما دامت تسمية الأشياء في ذاتها يضمن تغييرها”.(جان بول سارتر “ما الأدب؟”، ترجمة محمد غنيمي هلال، مكتبة الأنجلو المصرية، د ط، 1971، ص71)

وليس أمعن في الخطأ مما وقع في ظن البعض من أن الكاتب يكتب لنفسه، وكأن كل مهمة الكاتب أن يخط على الأوراق أحاسيسه وانفعالاته، والواقع أن الفعل الإبداعي إنما هو لحظة مجردة ناقصة من لحظات الإنتاج الفني، بحيث أن لو وجد الأديب بمفرده لما تحقق العمل باعتباره موضوعا، ولانتهى الأمر بالأديب نفسه إلى اليأس أو العدول عن الكتابة. ولكن الحقيقة أن عملية الكتابة تفترض عملية القراءة، وأن الجهد المزدوج الذي يقوم به الكاتب والقارئ هو الذي يعمل على ظهور ذلك الموضوع العيني الخيالي، الذي نسميه بالعمل الفني، ولهذا يقرر سارتر بأنه ليس ثمة فن إلا للآخرين وبالآخرين. يسهب في الحديث عن صلة الأديب بالقارئ فيقول إن العمل الأدبي لا يبلغ تمامه إلا إذا كان وضع الكاتب نصب عينيه أن يكتب ليواجه نفسه أمام حرية القارئ، وليس عملية المطالعة أو القراءة نفسها سوى مركب أو مؤلف synthèse من الإدراك الحسي والإبداع الفني.

وهذا المنظور شأنه شأن باقي الوجوديات يسعى إلى رفض القيم السائدة، ومن ضمنها القيم الأدبية، لذلك يخرج سارتر النص الأدبي من سلطة التقنين والضبط الصارمين إلى سلطة القراءة التي تؤكد أن القارئ كلما كان تَوّاقاً إلى تغيير العالم الذي يقرأ، كان هذا العالم الفني أكثر حيوية ودينامية (جان بول سارتر “ما الأدب؟”، المرجع نفسه، ص71)

لقد ظل سارتر يربط الأدب بالحرية الإنسانية: حرية الكاتب فيما يكتب، وحرية القارئ فيما يقرأ. (أنور المعداوي، “الأدب الملتزم”، مجلة الآداب، عدد 4 و5، 28 أبريل ماي 1980 ص41) بعيداً عن كل تقييد مهما كانت طبيعته، من أجل تشييد أعمال أدبية تتسم بالحركية والدينامية، أكثر من ذلك ذهب سارتر إلى أن حركية العمل الأدبي لا تتحقق بواسطة القارئ وحسب، ولكنها تتحقق أيضاً بواسطة اللغة نفسها التي تبرز العمل الأدبي إلى الوجود، وعلى الرغم من ذلك فإن العمل الأدبي وإن كان يبرز من خلال اللغة، فإنه سرعان ما يتجاوزها ما دامت عملية القراءة عملية تفاعلية بين النص وقارئه.

خاتمة

إن مفهوم القراءة عند سارتر مفهوم متحول وغير ثابت ينسجم ومنظوره للإبداع الأدبي في شموليته، لذلك نجده يشدد على هذا المفهوم حينما اعتبر قراءة عمل معين وإحدى الأبعاد الأساسية المكونة للعمل نفسه. وليست في صميمها واقعاً خارجياً عن الأدب ما دام العمل الأدبي “خذروفاً عجيباً لا وجود له إلا في الحركة، ولأجل استعراضه أمام العين لا بد من عملية حسية تسمى القراءة، وهو يدوم ما دامت القراءة، وفيما عدا هذا، لا يوجد سوى علامات سود على الورق، ويفهم من هذا القول أن العمل الأدبي الذي يدور في حركة مستمرة بين المؤلف والقراء لا يكون مكتملاً إلا بتصور النص في علاقة مع قارئه الذي يؤثر فيه ويعيد خلقه؛ لأنه في غياب هذا التصور سيظل هذا النص ناقصاً ومخلاً بتكاملية عناصر العملية الإبداعية من بدايتها إلى نهايتها. )جان بول سارتر.. وسؤال ما القراءة؟، د. لعزيز محمد)

 إن جودة العمل الأدبي في نظر سارتر لا تتحقق إلا بقدر المستوى الدقيق لطاقة القارئ الذي يخلق ما يقرأ، وهذا ما يجعلها تتميز عن الأعمال الرديئة. وإذا كانت هذه الأخيرة هي التي تهدف إلى استجلاب إعجاب القارئ بتملق عواطفه؛ فإن الأعمال الجيدة هي بمثابة مطلب ينشده الكاتب من القارئ انطلاقاً من عقيدته، لكن ذلك لا يتأتى له إلا بفضل اللذة النفسية التي يريد منحها لقرائه، وهي ما يطلق عليها سارتر اسم “الطرب الفني” الذي لا يفترق عن “الوعي الفني” للقارئ؛ لأنه بمجرد ظهور وتحقق هذا الطرب يكون العمل الفني قد اكتمل وبلغ غايته.(جان بول سارتر.. وسؤال ما القراءة؟، د. لعزيز محمد)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى