مجتمع

المعلم: مِصباحُ العباد وشمسُ البلاد

“المعلم”، هذه اللفظة العتيقة التي تنبض في شرايين اللغة والتاريخ، لا تُقاربها في البهاء كلمة أخرى، مهما زُخرفت عبارات التحديث وتبدلت ألقاب التدريس والتعليم. “المعلم” كلمة تفيض دلالة، فهي جامعة مانعة، تعانق الحكمة وتُجسد السيادة على العقول. ليست وظيفة، بل منزلة، وليست مهنة بل رسالة، وليست  اسم، بل هي مجد موشوم في ذاكرة الأمم.
إننا حين نقول “معلم”، لا نقصد رجلاً أو امرأة يحملان دفاتر وأقلامًا، بل نستخضر كيانًا يضبط إيقاع الفكر ويُؤسس لممالك المعرفة. كان سقراط معلمًا قبل أن يكون فيلسوفًا، وكان سيبويه معلمًا قبل أن يكون نحويًا، وكان ابن خلدون معلمًا قبل أن يكون مؤرخًا، وكان الرازي معلمًا قبل أن يكون طبيبًا. فالمعلم ليس مَن يُدرّس، بل من يُغير، من يُشكل وعي أمته، من ينحت العقول كما ينحت النحات أعمدة الزمن.
في الزمن الذهبي، كان المعلم هو محور المجالس، مُهاب الجانب، يُؤتى إليه كما يُؤتى إلى الكعبة، يُشار إليه بالبنان كما يُشار إلى الملوك. لم يكن المعلم مجرد موظف يُرتب جدول حصصه ويخرج آخر النهار، بل كان سيد المكان والزمان، تتحلق حوله العقول، وتُضاء بنوره القلوب.
أما اليوم، فقد صار “المعلم”عبارة عن ظل باهت لمجده الغابر. لم يعد مقامه مقام الريادة، ولم تعد صورته تُرسم في خيالات الناشئة كما كانت تُرسم صور الحكماء. بل صار يُعامل كعامل، يُؤمر فيُطاع، يُدفع إلى الأقسام كآلة تكرر المعلومات، يُخصص له راتب بالكاد يكفي لقوت يومه، ثم يُطالب بأن يُنشئ جيلًا من العباقرة!
فأي ظلم هذا؟ وأي إجحاف؟
إن المعلم ليس ملكًا لنظام تعليمي، بل هو ملكٌ للأمة، بل هو الأمة ذاتها. فإذا ضاع المعلم، ضاع البلد، وإذا أُهين المعلم، أُهينت البلاد. لا نحتاج إلى اقتصاد قوي إذا كان المعلم ضعيفًا، لأن المال وحده لا يبني حضارات. لا نحتاج إلى أنظمة سياسية مثالية إذا كان المعلم مسحوقًا، لأن السياسة لا تقوم إلا على وعي الشعب، ووعي الشعب لا يتأتى إلا على يد معلم حرّ، مثقف، كريم النفس.
إن نهضة اليابان لم تنطلق من المصانع، بل من المدارس، ولم تبدأ من الاقتصاد، بل من القاعات الدراسية. حينما سُئل إمبراطور اليابان بعد الحرب العالمية الثانية عن أعظم خسائره، لم يقل الجنود أو المصانع أو الأموال، بل قال: “لقد خسرنا المعلمين!” لأنه كان يدرك أن المعلم هو الأصل، وكل شيء بعده يُبنى.
أما نحن، فهل أدركنا ذلك؟ هل وعينا أن تراجع الحضارة العربية لم يبدأ إلا حين تراجع مقام المعلم؟ هل فهمنا أن انتكاستنا لم تبدأ من السياسة أو الاقتصاد، بل بدأت حينما أصبحنا نرى “المعلم” مجرد موظف عادي، لا قدسية له، ولا منزلة، ولا هيبة؟
لذا لن يصلح حال التعليم إلا إذا عاد المعلم إلى مكانه الطبيعي في صدارة المشهد. لا يكفي أن نُطالب المعلمين بأن يكونوا قدوة، بل علينا أن نكون نحن قدوة في احترامهم. لا يكفي أن نُطالبهم بالعطاء، بل علينا أن نُعطيهم ما يستحقون.
إن إعادة الاعتبار للمعلم لا تكون فقط بالراتب الشهري – رغم أهميته – بل تكون بمنحه الحصانة الفكرية والاجتماعية، تكون برفع مقامه في عيون العباد، تكون بأن نُعيده إلى منصب الريادة، وأن نُلقنه الأجيال كما نُلقنهم حب الأوطان.
لذلك، يا أيها المعلمون، لا تيأسوا، فأنتم الشمس وإن حاولوا حجب ضيائكم. وأنتم المصباح وإن أرادوا إطفاءكم. لا تنظروا إلى المكانة التي وضعتكم فيها الظروف، بل انظروا إلى مكانتكم في ميزان الحضارة. ستعودون إلى سابق عهدكم، كما تعود الشمس بعد كل ليل، وستظل الأوطان تحتاج إليكم أكثر مما تحتاج إلى السياسيين والحكومات.
فأنتم – وحدكم – من تصنعون العباد، ومن تبنون البلاد.
بقلم: هشام فرجي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى