مات الحبر الأعظم نصير المظلومين كان على تواصل مع مسيحيي غزة “كيف حالكم”و”ماذا تناولتم على العشاء”..

محمد جرو/مراكش/تنوير :
البابا فرنسيس الذي قضى عن سن يناهز 88 سنة ،بسبب جلطة دماغية ،من بين الذين قد ينطبق عنهم ربما ماورد في القرآن الكريم :”
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ [المائدة:83″
البابا رأى وسمع وزار فلسطين وسوريا ،والعراق ،واستمع إلى مظلومية الناس هناك ،وصلى بالمغرب من أجل القدس والأقصى …
وكان البابا فرنسيس على تواصل مستمر مع رعية كنيسة العائلة المقدسة في غزة منذ 9 أكتوبر 2023(يومين بعد اندلاع الحرب)، حيث أجرى اتصالات ليلية منتظمة مع الكاهن “غابرييلي رومانيلي”، راعي الكنيسة، ومساعده “الأب يوسف أسعد”، وفق ما أوردته وكالة أخبار الفاتيكان. واستمرت هذه المكالمات حتى فترة وجوده في المستشفى لتلقي العلاج من التهاب رئوي مزدوج.
وقد أقيم له قداس بغزة وشارك فيه عدد من أبناء الطائفة الكاثوليكية في القطاع، وذلك في وقت تستمر فيه الأوضاع الإنسانية الصعبة منذ اندلاع الحرب.
ووثقت لقطات مصوّرة حديثة إحدى هذه المكالمات، حيث ظهر البابا وهو يتبادل الحديث مع الكاهنين، ويطرح عليهما أسئلة شخصية مثل “كيف حالكم؟” و”ماذا تناولتم على العشاء؟”. كما نُقل أنه تحدث ببعض الكلمات باللغة العربية خلال الاتصال.
وبحسب وزارة الخارجية الأميركية، فقد كان عدد المسيحيين في قطاع غزة يقدر نحو 1300 شخص قبل اندلاع الحرب، ويقيم حالياً أكثر من 600 شخص، من المسيحيين والمسلمين، في مباني الكنيسة والمدرسة التابعة لها.
يُذكر أن آخر ظهور علني للبابا كان في أحد الفصح(20 ابريل يوم واحد قبل وفاته) حيث ألقى بركته التقليدية “أوربي إي أوربي” عبر “المونسنيور دييغو رافيلي”، ودعا فيها إلى وقف إطلاق النار وحماية المدنيين في غزة.
في كل منطقة أنهكتها النزاعات الطائفية والحروب، برز البابا فرنسيس كصوت استثنائي يدعو للسلام، ويمنح الأمل للمجتمعات المهمّشة، ويحرص على التواصل مع الضحايا والمنسيين من مختلف الديانات والطوائف.
منذ بداية مسيرته، أولى البابا أهمية خاصة للعلاقات بين المسيحيين والمسلمين، وشجّع على التعايش بين الطوائف. ولم يتوانَ الحبر الأعظم عن الحث على الانفتاح بين الأديان والتلاقي بين الشعوب. وقد تجلّى تأثيره بوضوح في ثلاث محطات أساسية: غزة، العراق، وسوريا.
وكانت غزة صوته وكان في قلب المعاناة،خلال الأشهر الأخيرة من حياته، داوم البابا فرنسيس على الاتصال الليلي بالكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في قطاع غزة، في محاولة للاطمئنان على من احتموا داخلها من القصف، هذا الطقس البسيط ترك أثرًا بالغًا لدى الأقلية المسيحية في القطاع، حيث رآه كثيرون “أبًا روحيًا” وقف إلى جانبهم في واحدة من أقسى مراحل تاريخهم.
وفي ظهوره العلني الأخير، دعا إلى وقف فوري لإطلاق النار بين إسرائيل وحماس. وفي رسالة عيد الفصح، قال: “أفكاري مع سكان غزة وأفكّر بشكل خاص في مجتمعها المسيحي، وسط صراع لا يزال يخلّف الموت والدمار، ويعمّق من مأساة إنسانية مؤلمة”.
ومع استئناف الحرب مؤخرًا وفرض إسرائيل إغلاقا كاملا على منع وصول المساعدات، حذر البابا من كارثة إنسانية وناشد قائلا: “أوقفوا القتال، أطلقوا سراح الرهائن، وساعدوا الجياع”.
كلمات البابا لامست قلوب من عرفوه، كالفلسطينية “سهير أنستاس”، التي لجأت إلى الكنيسة خلال الحرب، والتقته لاحقًا في روما. وصفت اللقاء بأنه “مذهل”، رغم مشاعر الحزن التي اعترتها. وقالت: “أعلم أنه لم يكن قادرًا على وقف الإبادة… لكن لا أعلم من يستطيع ذلك”.
عام 2021، زار البابا فرنسيس العراق، في أول زيارة بابوية للبلاد، وسط مشاهد الدمار التي خلّفتها سنوات الصراع ونزوح المسيحيين عقب اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”. وكانت زيارته بمثابة ضوء في نفق طويل من التهجير والعنف الطائفي ،و لدى وصوله أقام قدّاس في أحد ملاعب أربيل، العراق، في 7 مارس 2021،وفي مدينة الموصل التي كانت قد شهدت أسوأ المعارك مع داعش، وصف “المطران نجيب ميخائيل” الزيارة بـ”حفل زفاف لأهل الموصل”، بينما استعاد كاهن كاتدرائية القديس يوسف في بغداد، “نذير داكو” ، كيف بُثّ فيهم الأمل بعد سنوات من اليأس.
“لقد خلق وجوده عزيمة بين العراقيين لدعم المسيحيين”، قال داكو، موضحًا أن لحظة اللقاء بالبابا أعادت للمسيحيين العراقيين إحساسًا بالانتماء والاحترام بعد موجات العنف التي طالتهم.
البابا فرنسيس في لقاء مع أبناء بلدة قرقوش في كنيسة الحبل بلا دنس، في قرقوش، العراق، يوم الأحد 7 مارس 2021. سوريا: “دماء الأطفال مسؤولية الجميع”
منذ بداية الحرب في سوريا، شكّل البابا فرنسيس استثناءً في تعاطي الفاتيكان مع الملف السوري، متجاوزًا الحياد التقليدي بنداءات علنية وصريحة ضد الحرب. ففي عام 2013، ومع تصاعد التهديدات الأمريكية بشنّ ضربات جوية، دعا البابا إلى يوم عالمي للصلاة والصوم من أجل سوريا، مرددًا: “لا للحرب… الحرب تولّد الحرب، والعنف يولد العنف”.
ولم تقتصر تحركاته على الصلاة، بل في خطوة رمزية لافتة عام 2016، اصطحب البابا فرنسيس 12 لاجئًا سوريًا من جزيرة ليسبوس إلى الفاتيكان، في رسالة تحدٍّ لخطابات الكراهية والخوف من اللاجئين.
البابا فرنسيس لم يكن بجلباب قديس فقط ،بل تمكن من معرفة اليسار ،وبذلك تقرب من السياسة ،وفي كتابه الذي يتضمن مقابلات مع “دومينيك وولتون”، والذي نُشر عام 2017، أسرّ له أن امرأة، تُدعى “إستير باليسترينو دي كارياغا، علمته التفكير في الواقع السياسي، موضحًا أنها “كانت شيوعية”. وكان قد التقى بهذه المرأة، التي اغتالتها الدكتاتورية فيما بعد، عام 1953 عندما كانت رئيسة قسم في أحد المختبرات التي كان يعمل بها قبل أن يصبح كاهناً.
وقال: “أتذكر أنها جعلتني أقرأ حكم الإعدام الصادر بحق الزوجين روزنبرغ” اللذين اعتقلا بتهمة التجسس لصالح الاتحاد السوفييتي قبل إعدامهما عام 1953 على الرغم من الحملة العالمية لإطلاق سراحهما. وروى قائلا: “لقد أعطتني كتبا، كلها شيوعية، لكنها علمتني أن أفكر في السياسة”. وتحدث في نفس العمل عن استغلال التربة في الزراعة المكثفة.