تيارات الإسلام السياسي والبوصلة المفقودة -د. محمد أكديد

استفاقت تيارات الإسلام السياسي هذا الأسبوع على صدمة اعتقال الأمن العام في سوريا لعدد من قيادات المقاومةالفلسطينية في البلد،ويتعلق الأمربمسؤول حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية بسوريا خالدخالد، ومسؤول اللجنة التنظيمية للساحة السورية أبوعلي ياسر في العاصمة دمشق. وإن كانت هذه الاعتقالات قد وقعت في الواقع قبل خمسة أيام وسط تكتم كبير لقناة الجزيرة التي أعرضت عن نشر هذا الخبر إلى أن بات متداولا في وسائط التواصل الاجتماعي بعد أن بثته قنوات أخرى..
في الواقع، الأمرلايدعو لكل هذا الاستغراب،فقد كان هذا الإجراء متوقعابل منتظرا من شخص كرس حياته للقتال ضد محور المقاومة من داخل التنظيمات التكفيرية الإرهابية التي كان يشغل مواقع متقدمة داخل قياداتها بل ساهم في تأسيس بعضها كجبهة النصرة وهيأة تحرير الشام.وقد كان الرجل صريحا منذ البداية، حيث أعلن منذ أن جيء به لحكم دمشق بأن سوريا لن تشكل بعد اليوم قاعدة للهجمات ضد إسرائيل،كما دعا فصائل المقاومة الفلسطينية إلى تسليم أسلحتها للدولة وأغلق معسكرات التدريب التي كانت تستغلها في عهد النظام السابق ، وربما وضع شروطا قاسية لاستمرار عمل مكاتبها السياسة في البلد. وفي المقابل لم يرد على استهداف عدد من مقارالفصائل الفلسطينية داخل الأراضي السورية كما أعرض تمدد الاسرائيلي في الجنوب السوري، حيث اكتفى بتنديدات خجولة و كأنهم يحتلون بلدا آخر في قارة أخرى في الوقت الذي كانت فيه عصاباته التي لازال عدد من قياداتها مسجلا في لوائح الإرهاب الدولي تقود تحت مسمى الأمن العام حملة تطهير طائفية وإبادة جماعية ضد العلويين في الساحل السوري.
كل هذه المعطيات وما خفي أعظم مماتتحاشى تيارات الإسلام السياسي والجماعات السلفية الخوض فيه حفاظا على تلك الصورة البراقة التي مافتئ الإعلام العربي والغربي المنخرط في المؤامرة على الدولة السورية يشتغل عليها لتلميع صورة الفاتح الأموي الجديدتمهيدا لقيامه بأدوار باتت مكشوفة لحصار محور الممانعة هناك وقطع خطوط إمداد السلاح نحو فصائله خصوص في لبنان، مما تحدث عنه صراحة عضو الكونغرس الأمريكي كوري مايلز بعد لقاءه بالجولاني أو أحمد الشرع كما باتوا يسمونه مؤخرا في دمشق، كما أضاف في نفس التصريح لمنبر جسور بأن الرئيس والقيادة السورية الجديدة قد أبديا استعدادهما للعمل مع إسرائيل لمنع الحشد الشعبي من نقل الأسلحة من العراق عبر سوريا إلى لبنان..
لكن الإخوان والسلفيون لازالوا يعلقون آمالا واهية على حكام سوريا الجدد لمواجهة إسرائيل و تحرير القدس حسب بعض المتفائلين منهم، بل إن بعضهم لازال يرفع شعار تأسيس دولة الخلافة التي لم يأت من وراءه إلا الخراب و الفوضى لكل المنطقة، حيث لم يتردد الأمريكي والإسرائيلي في استغلال سذاجة ورعونة هؤلاء واغتنام الفرص المتاحة من خلال ماسمته إدارة بوش الإبن بالفوضى الخلاقة التي شكلت الورقة الطائفية إحدى أبرز مظاهرها لتنزيل مخطط الشرق الأوسط الجديد الذي وضع تصوره صقور البيت الأبيض ليجتهد في تنزيله نتنياهو على أرض الواقع، خاصة بعد إزاحة العقبة التي كانت تعترض طريقهم في سوريا بعد نجاحهم في إسقاط النظام الذي كان على علاته يشكل العمق الاستراتيجي لمحور المقاومة.
وقد أثبت النظام الحالي الذي يهلل له الإخوان والسلفيون اليوم في سوريا عجزه التام عن أن يواجه لواء عسكريا صهيونيا واحدا،بعد أن استهدفت المقاتلات الإسرائيلية خلال الأيام الأولى من سقوط النظام كل القدرات العسكرية والدفاعات الجوية التي كانت تفرمل عربدتهم في سوريا، مما سمح للجيش الصهيوني باجتياح كل الجنوب السوري دون مقاومة تذكر إلا من بعض الأهالي الذين باتوا مهددين بالطرد والتهجير من منازلهم من طرف الإسرائيلي.
لقد كشف المفكر الاقتصادي جيفريساكس رئيس شبكة الامم المتحدة للتنمية المستدامة و بروفسور الاقتصاد في جامعة كولومبيا في مؤتمر أنطاليا الدبلوماسي بتركيا بأن الثورة السورية من الألف الى الياء كانت من صنع اميركا و إسرائيل،قائلا أن “الحرب في سوريالم تأت من قمع الأسد، بل من أمر رئاسي من أوباما للإطاحة بالأسد في بداية ربيع 2011 ، لقد أطلقنا على العملية إسم “خشب الجميز” ودربنا معدولأخرى الجهاديين، بمنفيهم من استولوا على السلطة اليوم، ما أودى بحياة 600 ألف شخص مقاتلين ومدنيينمنمختلفالأطرافبينهمأكثرمن170ألفضابطوجنديسوري”، وقد سبقه إلى مثل هذه التصريحات الصادمة وزير خارجية قطر خلال عشرية النار في سوريا حمد بن جاسم الذي كشف عن أسماء الدول التي شاركت في هذه المؤامرة خلال حوار مطور مع التلفزيون القطري سنة 2017، فضلا عن تسريبات الرسائل المتبادلة بين هيلاري كلنتون وعدد من المسؤولين القطريين حول تسليح المعارضة في سوريا، والتي تسببت في خسارتها في الاستحقاقات الرئاسية الأمريكية وصعود ترامب في ولايته الأولى.
لكن الإخوان وتيارات الإسلام السياسي يصمون آذانهم عن كل هذه الاعترافات الصادرة من مواقع القرار والمسؤولية، بل إنهم مستمرون في تماديهم في التنمر والطعن في محور الممانعة بالمنطقة، بل ومساندة أعداء المحور في مخططاتهم بالمنطقة، حيث تواترت أنباء من اليمن عن تشكيل جماعة الإخوان المسلمين “حزب الإصلاح” هناك مع تنظيم القاعدة وحركة الشباب الصومالي وبدعم من دول تحالف العدوان على اليمن جيشا بقيادة أبوعمر النهدي (كان صديقا لأبي محمد الجولاني في العراق)للحرب مع حركة أنصارالله (الحوثيون) بشن هجوم بري على مناطق نفوذ الحركة، حيث ستوفر لهم أمريكا مع حليفتيها بريطانيا وإسرائيل غطاء جويافي استنساخ لتجربة عميلهما لجولاني في سوريا بهدف السيطرة على صنعاء عاصمة إسناد غزة و مجابهة الإحتلال الصهـ.يوني، وذلك في أفق تسليمها لهم بهدف السيطرة على مضيق باب المندب و البحرالأحمر و التحكم في التجارة العالمية..
إن ضيق الأفق الديني و السياسي لدى الإخوان وجماعات الإسلام السياسي ورطهم في أخطاء إستراتيجية قاتلة كانت لها تداعيات وخيمة على أمن و استقرار كل المنطقة، بدءا من تجربتهم الفاشلة في مصر وتونس بعدما سمي جزافا بالربيع العربي الذي صار خريفا عبريا، بعد أن وضعوا كل بيضهم في سلة الدول الخليجية،حيث لم يكتف المرحوم مرسي بقطع العلاقة مع سوريا وإيران وطرد سفير ي البلدين في وقت ظل فيه سفير الكيان الصهيوني يسرح و يمرح كمايحلو له في أرض الكنانة، بل شارك مع عدد من دعاة الفتنية الطائفية من التيارات السلفية الوهابية في مصر باستاد القاهرة في تجييش الشعب المصري للقتال في سوريا بعد صدور الأوامر من الغرف المغلقة بالبيت الأبيض كما أشار إلى ذلك الخبراء والمتتبعون لتفاصيل الملف السوري بإسقاط نظام الأسد الذي لايخدم أجنداتهم ولا يساير أهواءهم في المنطقة، كما ساير حزب النهضة الإخواني في تونس هذا المخطط بعقد مؤتمر أصدقاء سوريا الذي كان من مخرجاته مشاركة عدد من دول المنطقة في تسفير الجهاديين إلى الجبهة السورية عبر تركيا في تناغم تام مع المخطط الصهيوأمريكي المراد تنزيله. حيث لم يتردد الرئيس السابق لما يسمى “الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين” المرتبط بأجندات التيار العالمي للإخوان يوسف القرضاوي في إصدار نداء حدالتوسل من أمريكا ،ومن فوق منبرالمسجد بالدوحة القطرية لكي تقف وقفة لله حسب تعبيره وتزيدمن دعمها المالي و العسكري للجماعات المسلحة السورية لإسقاط النظام هناك؟؟
وفي الوقت الذي يهاجم فيه الإخوان تطبيع بعض الأنظمة العربية مع الكيان الصهيوني يغضون الطرف عن تطبيع الأنظمة التي تدعم مغامراتهم الخرقاء بالمنطقة، حيث لا يترددون مثلا في الدفاع عن قطر التي تضم أكبر القواعد الأمريكية في الشرق الأوسط والتي تقلع منها المقاتلات التي تستهدف المدنيين في اليمن المقاوم الذي لم يتردد في إسناد غزة، وقد تداولت وكالات الأنباء مؤخرا مشاركة البلد في مناورات عسكرية مع إسرائيل في قبرص، كما لا يترددون في الدفاع عن أردوغان ضد المعارضة التركية رغم اعتقاله لقادتها على خلفية اتهامات لما تكتمل التحقيقات بشأنها بعد، وشن شرطته لحملة قمعية ضد المتظاهرين الذين رفضوا هذه الإجراءات التعسفية، حيث يتهمون المعارضة الوطنية بالإرهاب والعمالة للغرب والتصهين في نفس الوقت الذي لا زالت فيه سفارة إسرائيل تنتصب وسط أنقرة ولم تتوقف فيه السفن التجارية التركية طيلة العدوان على غزة بالتوجه إلى موانئ الكيان محملة بسلع بعضها يدخل في الصناعة العسكرية الإسرائيلية فضلا عن التنسيق الأمني والعسكري والتجاري الذي لا يخفى اليوم على أحد مع تلأبيب..
إن فقدان البوصلة سار سمة عامة لأغلب مواقف وتحركات تيارات الإسلام السياسي والجماعات السلفية بالمنطقة والعالم، حيث أنهم صاروا منخرطين في تنزيل المشروع الصهيوأمريكي بوعي أو بدون وعي وبقصد أو بدون قصد. ففي نفس الوقت الذي يدعون فيه نصرة غزة والقضية الفلسطينية ويقومون فيه بتنظيم المسيرات ورفع الشعارات وإصدار البيانات لإدانة العدوان الصهيوني الغاشم، هم لا يتورعون في تبخيس جهود أقطاب محور الممانعة في المنطقة رغم قوافل الشهداء التي قدمها ولازال يقدمها قبل وبعد معركة طوفان الأقصى، من خلال نعتها بالمسرحية والتنمر على قادة هذا المحور إلى حد تشفي بعضهم في الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الذي سقط شهيدا في طريق القدس، بل والمشاركة في حصار هذا المحور وإضعافه لصالح العدو الأمريكي والصهيوني الذي استطاع بفضل تخاذلهم عن نصرة أصحاب الحق وضبابية الرؤية وعدم وضوح الخط عند قادتهم أن يفرض نفوذه ويتغول في المنطقة خاصة بعد إسقاط النظام السوري وتمكين دميتهم الجولانيهناك والذي بات بالفعل منخرطا في تنفيذ أجنداتهم الرامية إلى تفكيك أوصال محور المقاومة وتقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ بين القوى والمحاور الإقليمية التي شاركت في إسقاط الدولة السورية وليس فقط النظام.
قد يستنكر البعض هذه الخلاصات المبنية على نتائج ووقائع لايمكن تكذيبها أو ردها بتأويلات وتبريرات باتت مجترة، لكن هذا هو الواقع المزري للأسف، والذي آلت إليه الأمور عند القوم رغم كل أدبيات المقاومة والنضال التي تربينا عليها أيضا معهم لردح من الزمن وشكلت نبراسا لجيل من الشباب الذين وصل بعضهم اليوم إلى مراتب القيادة في عدد من التنظيمات الإسلامية، قبل أن نستفيق على واقع التخاذل والتآمر ضد المقاومة الحقيقية التي تلقت بسبب حماقاتهم ضربات موجعة مكنت العدو المحتل من التمدد بأريحية ومن تعزيز نفوذه بالمنطقة.
د. محمد أكديد
باحث في علم الاجتماع السياسي