شباب

الرياضة من منظور الدولة الإجتماعية-نجيب خياط

في الحقل السياسي والاجتماعي المعاصر، لم تعد الرياضة مجرد تعبير عن طاقة بدنية أو تسلية شعبية، بل غدت معطى سوسيو-سياسي يتقاطع مع أسس الدولة الحديثة في تجلياتها الاجتماعية. حينما نتحدث عن الدولة الاجتماعية، فإننا نستحضر نموذجًا للدولة التي انتقلت من مفهوم الحارس الليبرالي إلى مفهوم الراعي، الدولة التي لا تكتفي بضمان الحريات السلبية، بل تسعى إلى تحقيق شروط الكرامة الفعلية عبر تمكين المواطنين من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ومن هنا ينهض سؤال الرياضة باعتبارها حقًّا اجتماعيًا يتجاوز أبعاده الفردية ليغدو فعلًا جماعيًا، ومؤشرًا على مدى تنزيل العقد الاجتماعي الجديد الذي تتبناه الدولة الاجتماعية.

إن الدولة الاجتماعية، في بنيتها الفلسفية، تقوم على مركزية الكائن الإنساني بوصفه غاية السياسات العمومية لا مجرد وسيلة إنتاج أو استهلاك. وفي هذا المنظور، تتحول الصحة من شأن فردي إلى قضية جماعية ترتبط بمفهوم العدالة الاجتماعية، وتصبح الرياضة مكونًا جوهريًا من مكونات الحق في الصحة. فالرياضة هنا ليست مجرد ممارسة تطوعية، بل تعبير عن التزام الدولة بإزالة العوائق الاجتماعية والاقتصادية أمام حياة صحية متكاملة. وتلك، في جوهرها، ليست وظيفة خيرية، بل تجسيد لعقد المواطنة الذي يربط الأفراد بجهاز الدولة الحديثة.

لا يمكن تصور دولة اجتماعية تدّعي حماية صحة مواطنيها دون أن تجعل الرياضة سياسة عمومية، تدمجها في الفضاء العام، وتوفر لها الموارد والبنيات التحتية، وتصوغ خطابًا تربويًا يجعل من النشاط البدني جزءًا من مشروع الحياة اليومية. فالرياضة، في تصور الدولة الاجتماعية، ليست ترفًا فرديًا، بل استثمارًا جماعيًا في الرأسمال البشري، وآلية من آليات تحقيق المساواة الواقعية، التي لا تقتصر على منح الحقوق طابع قانونيا، بل تمتد إلى إزالة العقبات الفعلية التي تحول دون ممارستها.

من هذا المنظور، تصبح العلاقة بين الرياضة والدولة الاجتماعية علاقة جدلية: الدولة تخلق الشروط الموضوعية لممارسة الرياضة، والرياضة تعزز الصحة العامة، وتقوي الروابط الاجتماعية، وتُرسخ قيم التضامن والانتماء التي تشكل لحمة المجتمعات الديمقراطية المتماسكة. وإذا كانت الفلسفة الليبرالية الكلاسيكية ترى في الرياضة شأنا فرديا، فإن الدولة الاجتماعية تعيد تأطير هذا الفعل الفردي ضمن مشروع جماعي، تسهر فيه الدولة على أن تكون الرياضة حقًا فعليًا متاحًا للجميع، لا امتيازًا مقصورًا على الطبقات الميسورة.

غير أن هذا الأفق المأمول ليس معطًى بديهيًا، بل يواجه تحديات حقيقية. فالمنطق النيوليبرالي الذي تسلل إلى الفضاء الرياضي حول النشاط البدني إلى سلعة، وأخضعه لمنطق السوق والمنافسة المحمومة، ما جعل الرياضة التنافسية العالية عبئًا صحيًا ونفسيًا، بدل أن تكون سبيلًا إلى تعزيز الصحة العامة. ولذا، فإن الدولة الاجتماعية تجد نفسها أمام ضرورة تاريخية لإعادة تأميم المعنى الاجتماعي للرياضة، وتخليصها من الابتذال التجاري الذي أفرغها من مضامينها التربوية والصحية.

في هذا الإطار، فإن مشروع الدولة الاجتماعية لا يكتمل إلا بتجاوز النظرة الضيقة للرياضة كمجال للإنجاز الفردي، نحو رؤيتها كفضاء للتنشئة الاجتماعية والمواطنة النشطة. فكما أن التعليم المجاني والصحة المجانية كانتا رمزين لتحرر المواطن من عوائق الحاجة، يجب أن تصبح الرياضة المجانية أو المتاحة للجميع عنوانًا آخر لهذا التحرر. ذلك أن الرياضة لا تخلق فقط أجسادًا قوية، بل تصنع ذواتًا مستقلة قادرة على الفعل والمشاركة وتحمل المسؤولية.

إن الرياضة، حين تُنتزع من منطق العرض والطلب، وتُعاد إلى أحضان السياسات الاجتماعية، تساهم في بناء الذات المواطنة، وتُسهم في تحقيق غايات الدولة الاجتماعية: رفع مستوى الرفاه الجماعي، وتعزيز المساواة الفعلية، وتمتين التضامن بين الفئات. إنها بهذا المعنى ليست نشاطًا ثانويًا، بل ركيزة مركزية في تصور الدولة لمواطنيها: أجسادًا حرة، وعقولًا مستقلة، وأرواحًا متصالحة مع ذاتها ومجتمعها.

وفي عالم يتسارع فيه تفكك الروابط الاجتماعية، وتتصاعد فيه الفردانية المتوحشة، تصبح الرياضة الجماعية، المدمجة ضمن مشروع الدولة الاجتماعية، ضربًا من مقاومة الانعزال والتذرر الاجتماعي. إنها استعادة للجسد الجمعي، واستنهاض لقيم التشاركية والتعاون التي تهددها ثقافة السوق المنفلتة.

لذلك، فإن إعادة الاعتبار للرياضة ضمن سياسات الدولة الاجتماعية ليست مجرد خيار إداري أو ترف فكري، بل ضرورة فلسفية وسياسية، تعكس رؤية متكاملة للإنسان: ليس ككائن بيولوجي فقط، بل كفاعل اجتماعي له الحق في أن يحقق ذاته في فضاء عام عادل ومنصف. إنها استعادة للفكرة العميقة أن الصحة، بما فيها الصحة البدنية عبر الرياضة، هي شرط من شروط الحرية الفعلية، لا مجرد نتيجة عرضية للرفاه الاقتصادي.

في النهاية، تفرض العلاقة بين الرياضة والدولة الاجتماعية علينا إعادة التفكير في دور الدولة لا بوصفها حارسًا لقواعد اللعب النظيف فحسب، بل باعتبارها صانعة للشروط الموضوعية لوجود مجتمع صحي، متماسك، متساو. مجتمع تكون فيه الرياضة حقًا اجتماعيًا، وتجليًا حيًا للعدالة المجسدة لا الوعد المؤجل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى